بحوث ودراسات

د. مصطفى دحماني: فرح أنطون.. وسؤال الدولة والدين

د. مصطفى دحماني★

فصل الدين عن الدولة، كان هي الهاجس الأساسي عند المفكر اللبناني فرح أنطون وعند جيل من المثقفين المسيحيين الذين تأثروا بالفكر الليبرالي الأوروبي وبالفلسفة الوضعية الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وذلك في سياق تاريخي تميز بالفتنة الطائفية في الشام وبالاضطهاد العثماني للمسيحيين العرب، وذلك من منظور أن هذا الفصل شرط ضروري للنهضة العربية فلا نهضة ولا تقدم إلا بتحديد دائرة الدين المفصولة تماما عن دائرة السياسية والدولة، وهذا الفصل سوف يسمح للمجتمعات العربية بفك الارتباط مع ثقافة العصور الوسطى، ومن ثمة الدخول في عصر العلم   والعقل والحرية، وقد دافع فرح أنطون عن فكرة العلمانية دفاعا مستميتا، بكافة الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكتابة في الصحف والمجلات وبتأليف كتاب عن ابن رشد فيلسوف العقل والدخول في مناظرة مع الشيخ محمد عبده في موضوع الدين والسياسة والعلم أو بالكتابة القصصية.

مما لا شك فيه أن مسألة الفصل بين الدولة والدين في الفكر العربي الحديث ارتبطت بصورة واضحة بالأديب والصحفي والمفكر اللبناني فرح أنطوان، كما أن فرح أنطون هو كذلك ارتبط بها، بالدعوة إليها والدفاع فيها والنضال من أجل بيان جدواها وصلاحيتها للواقع العربي المأزوم داخليا بالتخلف البنيوي وخارجيا بالضغوطات الاستعمارية.

وبناءا عليه يمكن القول، أن فرح أنطوان هو أول مفكر عربي توضح عنده القول بأنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، كما أنه أول من وضع الخطوط العريضة للخطاب العلماني في الفكر العربي إلى درجة أن وصفه البعض بأنه من طلائع العلمانية ومن رواد التنوير في العالم العربي، ولقد كان بالفعل نموذج المثقف التنويري، الذي ناضل بلا هوادة من أجل نشر الأفكار التي كان يعتقد اعتقادًا جازما بأنها من أسس التقدم و من شروط النهضة [1]. كما لا يخفى على الباحثين في تاريخ الفكر العربي الحديث، أن فكرة فصل الدين عن الدولة واستقلال دائرة الدين عن دائرة السياسة عند فرح أنطون لم تترسخ في ذهنه صدفة، ولم تتشكل ملامح الخطاب العلماني عنده بين يوم وليلة، بل إن هذا الخطاب نتاج عدة عوامل وأي أن له أسباب نزول، منها تكوينه الدراسي الجيد وكثرة اطلاعه على الفلسفات والآداب والفنون العربية والعالمية، وتنوع قراءاته لرموز الفكر والفلسفة في أوروبا، من جان جاك روسو إلى أرنست رينان وأعلام الأدب العالمي من شكسبير إلى تولستوي. كما أن هناك عامل ساهم في تكوينه العلماني هو إكثاره من السفر والترحال بين لبنان ومصر [2] وأمريكا، وفي أمريكا لاحظ عن كثب تعايش الديانات والطوائف بسبب المناخ العلماني والأجواء الليبرالية. كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الرجل الحامل لمشعل التنوير ينتمي إلى الطائفة المسيحية في لبنان، والجدير بالذكر أن هذه الطائفة كانت الأكثر تعرضا للاضطهاد في ظل الخلافة السنية العثمانية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كانت هذه الطائفة هي التي تميزت بالاحتكاك بالثقافة الأوربية وبالتواصل مع الحضارة الغربية عن طريق جسر الإرساليات الدينية ومن خلال قناة حملات التبشير.

فرح أنطون

كل ذلك علينا أن نأخذه في الحسبان، ونحن بصدد عرض وتحليل الخطاب العلماني عند فرح أنطوان وهو خطاب نضعه في خانة العقلانية والتنوير، وهي الروح التي تميز بها الخطاب النهضوي العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ كان الهاجس الأكبر هو هاجس التقدم والرقي والتمدن، لأن صيغة الاستفهام كانت واحدة عند الجميع هي: كيف نتقدم؟ ولهذا كان أنطون يعتقد أن أحد أهم أسس التقدم تكمن ليس بتكريس الارتباط بين الدين والدولة- وهذا ما كان سائدا طوال التاريخ العربي / الإسلامي منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة- ولكن بالفصل بينهما، وليس بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية- التي كان يدعو إليها جمال الدين الأفغاني ولكن بالتأكيد على الروابط الوطنية، وليس بالتشبث بالدين وإنما الأخذ بالعلوم والمعارف الإنسانية، وليس التفكير بالعواطف الدينية بل التفكير العقلاني الحر. [3] كانت شروط النهضة عنده واضحة المعالم ومحددة بدقة في ثلاثة مفاهيم/ مفاتيح هي العلم والعقل والعلمانية، وأضاف إليها فيما بعد الاشتراكية الذي لم يكن مفهوما واضح المعنى لديه، ورغم ذلك اعتبرها دين الإنسانية [4]. ولا نجانب الصواب إذا قلنا أن دفاع فرح أنطوان دفاعا مستميتًا عن أسس التقدم التي كان يراها مجسدة في مبادئ العلم والعقل والتسامح والعدالة والحرية، وهي مبادئ كونية إنسانية لا يمكن أن ترى النور على أرض الواقع بدون مبدأ أساسي هو مبدأ الفصل بين الدين والسياسة أولا ثم الفصل بين الدين والدولة ثانيًا.

كان أنطون نموذج المثقف العضوي إن صح هذ التعبير، المثقف الذي يناضل من أجل نشر المبادئ والقيم والأفكار التي يعتقد أنها هي القطار السريع الذي يقود المجتمعات العربية إلى محطة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث على غرار الأمم الأوروبية. ولهذا كانت الكتابة والنشر- وقد أخذت عنده صبغة نضالية- فاستخدم كل وسائل التعبير وطرق الاتصال المتاحة، وقتذاك من صحافة وأدب ومناظرة وترجمة، للدعوة إلى مبادئ الحداثة والعلمنة والديمقراطية. وكما هو متداول عند بعض الباحثين، كانت أفكار أنطون وكتاباته سببًا في تشكل وتأسيس ما سوف يعرف لاحقًا في تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر، بالتيار الوضعي/ العلماني الذي ينطلق من أولية أساسية هي أن الدولة يجب ان تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات (حياد الدولة)، في مقابل التيار الديني / الإسلامي – بكل طوائفه وأحزابه ومفكريه- الذي يعتقد اعتقادا جازما أن الإسلام دين ودولة.

السباحة ضد التيار

من الواضح أن أنطون خط لنفسه اتجاها سار فيه من البداية إلى النهاية، وبالتالي كان يعرف ما يريد وما لا يريد، كما كانت المفاهيم والتصورات والطروحات المتصلة بإشكالية النهضة والتقدم واضحة أمام عينيه ومحددة لديه، ولهذا جاء خطابه الفكري متماسكًا من الناحية المنطقية وسلسًا من الناحية اللغوية، وفي هذا الصدد يرى أحد الباحثين العرب في الفلسفة السياسية أن فرح أنطونʺ ..استطاع أن ينشئ في الثقافة العربية المعاصرة مقالة تتمتع بامتياز صفاء الرؤية ووضوح القصد وسلاسة الترسل، كما تمتاز بلغة غير معهودة في متون القرن التاسع عشر ومن تعود قراءة نصوص الأفغاني ومحمد عبده وقبلهما الطهطاوي وخير الدين التونسي سيدرك  الفوارق الكبيرة بين لغات هؤلاء الذين ذكرنا ولغة فرح أنطون، سواء في مستوى الشكل أو البنية أو في مستوى المحتوى والحمولة الفكرية ومنطق التحليل والبرهنة والإثبات ..ʺ[5].

وبالفعل كانت لغة أنطون واضحة وفكاره محددة، ومما لا شك فيه أنها ازدادت وضوحًا وصارت أكثر تحديدًا ودقة من خلال المناظرة الشهيرة بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده (1849-1905) على صفحات مجلتي ” الجامعة ” و ” المنار ” وقصة المناظرة بدأت عندما نشر أنطون سلسلة مقالات عن فيلسوف قرطبة أبو الوليد بن رشد في مجلة ” الجامعة ” وتحدث فيها عن الاضطهاد الديني في التاريخ الإسلامي.

محمد رشيد رضا

وعندما قرأ الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935) هذه المقالات رأى فيها أفكارًا تغريبيه تهدد هوية الأمة، ومقولات هدامة تمس العقيدة الإسلامية في الصميم، وأقنع أستاذه الشيخ محمد عبده (1849-1905) بضرورة الرد على هذه الأفكار ودحض هذه الآراء التي تنظر إلى الإسلام باعتباره دين يتعارض تماما مع العلم ويتناقض مع العقل ويتصادم مع العصر. والجدير بالذكر أن فرح أنطون  جمع هذه المقالات في كتاب بعنوان “ابن رشد و فلسفته” أما الشيخ محمد عبده فقد جمع ردوده في كتاب أسماه “الإسلام و النصرانية بين العلم والمدنية” وقد حدثت المناظرة عام 1902، أي في بداية القرن العشرين، والحقيقة أن هذه المناظرة عكست المستوى الراقي لخطاب الإصلاحية العربية وقتذاك، أي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في زمن إرهاصات الليبرالية في أرض الكنانة، وقدرة خطاب الاصلاحية على الحوار والمناظرة وقبول الأخر، واحترام التعدد والتسامح مع الاختلاف.

كما شكلت هذه المناظرة مرجعية في مستوى النقاش الفكري والسجال الإيديولوجي، كما كان هذا الحوار الفكري بداية تبلور لخطين متوازيين في الفكر العربي المعاصر، خط باتجاه إشارة أن الإسلام دين ودولة، وخط باتجاه معاكس يرى أصحابه، أن لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. وسيخوض الطرفان حربا باردة وسيتأسس علم كلام جديد حول قضايا الدولة والدين والسياسة والخلافة والشريعة في المنطقة العربية طيلة القرن العشرين، وغني عن البيان القول، أنه في هذا السجال الفكري برزت بوضوح، أفكار ومفاهيم وتصورات كلا الطرفين المتناقضين على طول الخط فيما يتعلق بأسئلة من قبيل: هل الإسلام دين ودولة؟ وهل العلمانية هي فصل الكنيسة عن الدولة؟ وهل الدولة الإسلامية دولة دينية؟ وفي هذا الحوار، كانت المجابهة بين إرهاصات فكر علماني عربي وبين فكر ديني إصلاحي يتميز بقدر كبير من الاستنارة والتسامح والاعتدال والتلاؤم مع العصر. ومن الطبيعي أن تختلف المرجعيات في هكذا مناظرات، فقد كانت أوروبا القرن الثامن عشر وفلسفة الأنوار والتراث العقلاني العربي الإسلامي والتقدم العلمي في القرن التاسع عشر، هي مرجعيات فرح أنطون في هذه المجابهة الفكرية، كما أن التاريخ الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية والثقافة العربية / الإسلامية والدين الإسلامي في حد ذاته، هي مرجعيات الشيخ محمد عبده. وبطبيعة الحال، اختلاف المرجعيات يؤدي الى اختلاف والمفاهيم والتصورات والإيديولوجيات.

كان موضوع المناظرة يدور حول مسألة الاضطهاد في التاريخ الإسلامي والتاريخ المسيحي، حيث تناول فرح أنطون الاضطهاد الذي تعرض له ابن رشد واعتبره نموذجًا للاضطهاد الديني في التاريخ الإسلامي وبناءا عليه دعا إلى فك الارتباط بين العلم والدين، لأن لكل منهما حقله الخاص فلا علم في الدين ولا دين في العلم، وذلك لاختلاف المنهج، فالمنهج العلمي منهج تجريبي والمنهج في الدين – كل دين – منهج إيماني.

طروحات.. وطروحات مضادة   

وانطلاقا من هذا المبدأ انتقل أنطون إلى مبدأ أساسي عنده هو فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، لأن الجمع بينهما يؤدي إلى إضعاف الأمة[6].أما الشيخ محمد عبده، في هذه المواجهة الفكرية، فيرى أن السلطة في الإسلام سلطة مدنية وإن كانت مربوطة بالسلطة الدينية، وهذا بالنظر إلى وجود الشريعة، ثم إن الحاكم في التاريخ الإسلامي كان حاكمًا وخليفة في نفس الوقت أي كان يجمع بين الخلافة والسلطنة[7]. أما بالنسبة للاضطهاد الديني، فيرى الشيخ أن تاريخ المسيحية تاريخ دموي من الكاثوليكية إلى البروتستانتية وفي هذه النقطة يقولʺ.. إن الإصلاح البروتستانتي لم يكن أكثر تساهلاً من الكنيسة الرومانية فإن كالفن أمر بإحراق سيزفيت في جنيف وأحرق فايتي في تولوز سنة 1629 وكان لوثر أشد الناس إنكارًا على من ينظر إلى فلسفة أرسطو وكان يلقب هذا الفيلسوف بالخنزير الدنس الكذاب، بينما كان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف بالمعلم الأول[8] بعد ذلك يقدم عبده صورة مشرقة للتاريخ الإسلامي حيث يقولʺ.. لن نسمع بقتال بين السلفيين والأشاعرة والمعتزلة مع شدة التباين بين عقائدهم.. نعم سمع بحروب الخوارج، كما وقع مع القرامطة وغيرهم وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حكم الأمةʺ[9].

وفي رد هذه المقولات يتساءل أنطون عن الدافع وراء رصد هذه الوقائع ويضيفʺ…هل غرضه أن يثبت أن الإكليروس المسيحي قد أخطأ فيما مضى من الزمن في فهم الكتب المسيحية وتأويلها ولذلك صبغ تاريخه بالدم وحشاه بالصغائر؟ إذا كان هذا هو غرض الأستاذ، فنحن معه، لأن هذا الأمر حقيقة لا شك فيها.. ʺ[10]  ثم يعود أنطون إلى كلام الشيخ عن تقاتل المسلمين وعن نفيه القتال من أجل الاعتقاد، وتأكيده بأن الحروب سببها سياسي حيث يقول من اجل الاعتقاد وتأكيده، بأن الحروب سببها سياسي حيث يقولʺ.. نحن نستحسن قول الأستاذ هذا، كل الاستحسان.. وهو رأينا أيضا ولكن لا نرى هذا الرأي في أمة دون أمة، بل نطلقه على جميع الأمم وعلى ذلك، فجميع ما حدث في العالم المسيحي باسم الدين من القتل والتمثيل كديوان التفتيش ومذبحة سان برتلماني وغيرها يكون مصدره السياسة أيضا والاختلاف على طريقة حكم الأمة والإنصاف يقتضي أن يحكم على جميع الناس حكم واحد.. ʺ[11] يقصد أنطون بذلك أن المفاضلة بين تاريخ الأديان مسألة عبثية بينما المطلوب هو تبني الفصل بين السلطتين المدنية والدينية، أما إذا دخلنا في جدلية أي الديانات أفضل، فلن نخرج بنتيجة، لأن كل الديانات متساوية عنده فلا يوجد دين أفضل من دين لأن كل مؤمن بعقيدة ما يرى أن عقيدته أحسن من كل العقائد الأخرى.

محمد عبده وفرح أنطون

وهنا يحاول أن يثبت أن كل الديانات تشترك في نفس المبادئ وإن كانت تختلف في الطقوس والشرائع، ومن هذه الزاوية كل الديانات تدعو إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، لكن من الطبيعي أن تختلف طقوس العبادة والمطلوب هو أن نعامل الناس نفس المعاملة وأن يكون لهم نفس الحقوق والواجبات وفي نهاية المطاف الإنسان حرʺ.. له الحق في أن يعتقد ما يشاء وهو كذلك له الحرية وله الحق في ألا يعتقد في شيء.. ʺ[12]. وفي نفس السياق، سياق حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد يرى أنطون أن كل الديانات تتميز بسمة عدم التسامح حيث يقول ʺ.. وهنا نصل إلى جحود الأديان فهل تطيق الأديان أن تصبر على أحد يجحدها نحن نعلم أن كل الأديان لا تطيق على وجه الإطلاق وإذا أطاقته اليوم فما ذلك، إلا لأنها أصبحت تقدم الشرع المدني على الشرع الديني، فالمسلمون يسمون جاحدي الأديان “زنادقة ” وهم يوجبون قتلهم، والمسيحيون يسمون هؤلاء كفرة، وهم يوجبون استئصالهم من بين الناس ولذلك قتل الإكليروس المسيحي منكري الأديان في زمن ديوان التفتيش في إسبانيا وقتل المنصور الزنادقة”.. [13].

ويواصل فرح أنطون ردوده على مفتي الديار المصرية وقتذاك، فيما يتعلق بمقولة التاريخ الأسود للمسيحية والتاريخ  الأبيض للإسلام، حيث يرى في هذا الصدد أن كل الديانات لديها تاريخ فيه الأبيض  وفيه الأسود بما في ذلك الإسلام والمسيحية، كما أن القتل كان في كل مكان وزمان وهنا يقول أنطون” …ولكن من التناقض الغريب أن الأستاذ حلل هذا القتل والتمثيل في الّإسلام وحرمه في المسيحية على يد ديوان التفتيش فهل الفضيلة أو الرذيلة تتغير أو تتبدل بتغير الزمان والمكان أم تكون فضيلة أو رذيلة في كل زمان ومكان “[14]. واللافت للانتباه في حجج أنطون أنه يستند على مبادئ العقل وأسس العلم وقيم التسامح وينظر دائما الى المستقبل حيث يذكر بأهمية العلم و تحريمه للقتل و التمثيل و في هذا المبدأ يقول ʺ…أما العلم فإنه يحرم الأمرين معا …فهو يقول لقاتلي الزنادقة في الإسلام وقاتليهم في المسيحية أنكم كلكم مخطئون في قتل من تسمونهم زنادقة وأن كل هؤلاء قد أخطأوا خطأ ما بعده خطأ ذلك أن الحياة التي منحها الله للبشر لا يجوز لإنسان أن يسلبهم إياها بأية حجة كانت وبأي سبب كان وهنا يحدث أيضا الانفصال بين العلم والدين، لأن العلم يدافع عن حق الإنسان المجرد كل دفاع، والدين لا يطيق التساهل إلى ذلك الحد خوفا على نفسه ..ʺ.[15] ولا يتوقف السجال الفكري عند هذا الحد، بل إنه يتجاوز بعض الخطوط الحمراء، حيث يواصل مفتي الديار المصرية، تبرئة ساحة الإسلام من كل التهم المنسوبة إليه ولا يكتفي بذلك بل ويلقي بالتهم على الطرف الأخر. وبناءًا عليه الإسلام دين العقل والعلم بينما المسيحية دين يتأسس على الخزعبلات والكرامات واللامعقول[16]. وعند هذه الفكرة وهي تهمة في الحقيقة، يتوقف صاحب مجلة الجامعة ليطرح سؤالا بسيطًا عن مفهوم الدين ويجيب عنه قائلا بأن الدين”…. هو الإيمان بخالق غير منظور وآخرة غير منظورة ووحي ونبوءة ومعجزات وبعث وحشر وثواب وعقاب وكلها غير محسوسة وغير معقولة ولا دليل عليها غير ما جاء في الكتب المقدسة فمن يريد فهم هذه الأمور بعقله ليقول إن دينه عقلي ينتهي إلى رفع هذا كله لا محالة..ʺ.[17] ومن هذا المنطلق يدعو المثقف العلماني محاوره الشيخ السلفي إلى خلع رداء التحزب الديني ولبس رداء الإنسانية، فالفتن الطائفية هي نتاج التعصب الديني ثم إنه لا أحد يملك الحقيقة، فالوحيد الذي يملك الحقيقة المطلقة هو الله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى أن كل الديانات مستمدة من الله.[18]

هذا من جانب ومن جانب آخر، يتوقف رائد التنوير عند بعض المفاهيم والمقولات التي لا يجد بعض المؤرخين حرجا في ترديدها والتي تبناها مفتي الديار المصرية، ومن أبرز هذه المقولات مقولة “الإسلام استعجم وانقلب عجميا بسبب دخول الفرس والترك في الإسلام” هذه المقولة التي سادت في نهاية القرن التاسع عشر وما زالت سائدة عند بعض المفكرين العرب يرفضها فرح أنطون جملة وتفصيلا من منطلق أن” …جراثيم الفتن والانحلال كانت في تاريخ المسلمين قبل اتصالهم بالترك والفرس .. “[19] ولا يتوقف أنطون عند هذه الحجة بل يقدم حجة أخرى وهي أن “… ما أنقذ الإسلام وحفظه إلى اليوم إلا الترك والفرس، وحسب الفرس فضلا عن التمدن أنهم كانوا من أعظم العناصر الإنسانية اشتغالا بالعلم والفلسفة وابتداعا فيها باللغة العربية من فطاحل العلماء يساوي علماء العرب ..ʺ[20] رغم ما في هذا الكلام من مبالغة إلا أن فرح انطون، يرمي من خلاله إلى أن يكون موضوعيًا في أحكامه وأكثر تسامحًا مع من نختلف معهم في العرق أو في الدين. وكما هو ملا حظ في هذه المناظرة يستعمل أنطون مفاهيم ومقولات القرن الثامن عشر، مقولات جون لوك وجن جاك روسو وفولتير وسبينوزا، أي مقولات عصر التنوير في أوربا، وهذا يبين إلى أي مدى كان متأثرًا بهذا الإطار، إطار الأزمنة الحديثة وذات المصدر الأوروبي، ويظهر ذلك واضحًا من خلال دفاعه المستميت عن الحكم المدني وعن مبدأ التسامح وحرية الضمير وعن السعادة كهدف لكل أعمالنا، وذلك من منظور يعتقد بحتمية التقدم نحو الافضل و التطور نحو الاحسن، مع التركيز على الأسس الكبرى لليبرالية السياسية[21].

أما الشيخ محمد عبده فواضح من هذه المناظرة و في كتاباته الأخرى، أنه أراد أن يمارس المسلمون دينهم بشكل يتوافق مع الحداثة الأوربية والتقدم العالمي ويتواكب مع متطلبات العصر ولكن وكما هو معروف فإن الشيخ المستنير كان يرغب في الإصلاح ويرفض الثورة أي أن منهجه كان إصلاحيا على العكس من منهج أستاذه الأفغاني الذي كان ثوريًا[22]، ولكن رغم ذلك، ورغم تركه للسياسة وتعوذه من فعل  ساس ويسوس، إلا أنه لم يستطع التخلص من أهم طروحات أستاذه جمال الدين الأفغاني المركزية وقد كانت من المسلمات الأساسية في الخطاب الإصلاحي كله وهي فكرة الجامعة الإسلامية، أي الأمة القائمة على الرابطة الدينية. والحقيقة أن فكرة الجامعة الإسلامية التي ألقاها جمال الدين الأفغاني (1839-1897) في المجال السياسي وعلى المستوى الفكري ساهمت في تقسيم الخطاب النهضوي العربي إلى قسمين، خطاب نهضوي إصلاحي يربط بين السياسة والدين وخطاب نهضوي ليبرالي يفصل بين السياسة والدين.

ومن المعروف أن الأفغاني”…. اختار إستراتيجية سياسية محضة وذلك نظرًا للظرفية التاريخية كان خطاب الأفغاني يتجاوز السياسي الظرفي بكثير، فهو خطاب نهضوي. وما يشد الاهتمام في خطابه هو ربطه الدين بالسياسة ربطًا براغماتيًا قد أدى إلى نوع من التعالي بالسياسة ..تحولت معه السياسة إلى عقيدة ..والاقتراح الذي يقدمه للنهوض هو رجوع الأمة إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه …إنه مجرد توظيف سياسي للدين ولجوء الأفغاني إلى التوظيف السياسي للدين لمناهضة الغرب وابتعاده بل واستبعاده لفكرة الإصلاح الديني الثقافي الاجتماعي السياسي …رفض هذا المنهج …كل ذلك جعله ينظر إلى كل من كانوا يخالفونه الرأي في طريقة مناهضة الغرب ووسائل تحقيق النهضة لا بوصفهم خصوم سياسيين وكفى، بل بوصفهم خصوم للدين وأعداء للإسلام وعملاء للغرب، لقد ألبس جمال الدين رأيه السياسي لبوسا دينيًا، فما هي وطابق بين الدين  والسياسة فصار الخصم السياسي خصما دينيا .. “. [23] وهذا بالضبط ما كان يخشاه ويتخوف منه فرح أنطون، أن يتحول الدين إلى سلاح إيديولوجي فتاك وإلى أداة من أدوات الصراع السياسي، وبالتالي يصبح الدين ألعوبة يتلاعب بها هذا التيار أو ذاك  وهذا ما حدث في الساحة العربية طيلة القرن العشرين وحتى بداية القرن الواحد والعشرين، فالتيارات والأحزاب السياسية التي استندت إلى مرجعية إسلامية/ دينية ووظفت مقولات دينية في الصراع السياسي على السلطة، فألصقت بالخصوم السياسيين تهم الكفر والإلحاد ومعاداة الاسلام، وبالتالي يصبح هؤلاء “الكفار” دمهم حلالاً مستباحًا.

جمال الدين الأفغاني

وغني عن البيان القول، أن موضوع الدعوة إلى الجامعة الإسلامية كانت في حد ذاتها دعوة مثيرة لقلق الكثيرين، وخاصة في ظل إمبراطورية تتواجد فيها أقليات مسيحية ويهودية، وهي الدعوة التي أطلقها الأفغاني من أجل توحيد الأمة على أساس الرابطة الدينية، فهي في نظر فرح أنطون دعوة فاشلة لأن ما يوحد الناس اليوم، هي الرابطة الوطنية، فالوطن وليس الدين هو الذي يوحد الجميع لأن داخل الوطن قد يتواجد عدة طوائف دينية، وإذا أمسكت إحدى هذه الطوائف بالسلطة السياسية، فمن الطبيعي أن يقع تمييز ديني بين أفراد المجتمع في جميع المجالات، حتى لا نقول اضطهاد ديني الذي يقود حتما إلى أتون الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية التي تأتي على الأخضر واليابس أما ما يقترحه صاحب مجلة “الجامعة” فهو دولة علمانية يشترك فيها جميع الأفراد من كافة الديانات والطوائف، تقوم على أساس المواطنة، أي الكل مواطنون، مسيحيون ومسلمون، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات[24]. ومن هذا المنطلق يدعو هذا المفكر اللبناني (1874-1922) الذي عاش في مصر في الفترة من عام 1897 حتى وفاته عام 1922، إلى الارتكاز في الدولة العلمانية على مبدأ التسامح – يسميه أنطون التساهل- ويؤكد أن الفصل بين السلطتين، آلة هذا المبدأ ووسيلته بمعنى أن جميع الأديان متساوية والدولة العلمانية تقف على مسافة واحدة من الجميع، والضمان الوحيد لتحقيق المساواة بين الديانات والطوائف هو آلة وحيدة ووسيلة واحدة هي آلة ووسيلة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية وفق مبدأ التسامح الذي يعرفه أنطون بأنه”.. لا يجب على الإنسان أن يدين أخاه الإنسان، لأن الدين علاقة خصوصية بين الإنسان والله… “[25] معنى هذا الكلام أن الدين مسألة شخصية، فالله هو الوحيد الذي يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو الوحيد الذي يحاسبنا في الآخرة، يوم الحساب عن أفعالنا وأعمالنا، والأعمال بالنيات  فلا أحد يعرف نوايا الأشخاص غير الله وما دام الدين مسألة شخصية، هذا يقودنا حتمًا إلى الحديث عن مسألة حرية الاعتقاد وبعبارة أخرى حرية الإنسان في أن يعتقد ما يشاء أو في أن لا يعتقد إطلاقا في أي شيء، فالأفراد داخل المجتمع العلماني أحرار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا ولا دخل لأحد في اعتقاد الآخر، فالأفراد داخل هذا المجتمع والدولة  مواطنون  بغض النظر عن اعتقاداتهم، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، حتى لأولئك الأفراد الذين لا دين لهم اي ان جوهر العلمانية هو حرية الاعتقاد.[26] وبناءًا عليه الدولة العلمانية هي الوحيدة التي تضمن الحقوق والحريات لجميع مواطنيها في نظر أنطون، والعلمانية عند أنطون لا تكتمل إلا بمبدأ الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، والتبرير الذي يقدمه للبرهنة على صحة موقفه هو الاختلاف في غاية السلطتين لدرجة التناقض فالدين يبتغي العبادة والفضيلة، وكل دين يدعي الحقيقة يطلب الانتماء إليه للخلاص ثم أنه من الطبيعي إذا تمكنت السلطة الدينية من السلطة السياسية أن تقوم باضطهاد من يخالفها وخاصة العلماء والمفكرين ليس باعتبارهم خصوم سياسيين– كما سبق الذكر- بل باعتبارهم  كفار ومارقون عن الدين. أما غاية السياسة، فهي صيانة الحقوق والحفاظ على الحريات في إطار الدستور، ثم لا ننسى أن المجتمع الصالح يقوم على المساواة المطلقة بين جميع المواطنين بغض النظر عن التمايز العقائدي بالإضافة إلى أن السلطة الدينية تشرع للآخرة والدين عموما يرى الخلاص في الآخرة من خلال الجنة والنار والحساب[27]،أما الحكومة المدنية، فهي تشرع للدنيا وترى الخلاص في الدنيا من خلال تدبير الشأن العام وتوفير الخدمات للناس.

وأخيرًا وليس آخرًا السلطة الدينية عندما تختلط بالسلطة السياسية تصبح تحت رحمة العامة والغوغاء، قوتها في الحشد والتجييش وتدار بالعواطف الجياشة والانفعالات الحادة[28]، وهذا يؤدي كما هو معروف إلى إضعاف حتى الدين نفسه ويعرضه لجميع أخطار الحياة السياسية، والطامة الكبرى أن الحكومات الدينية تؤدي إلى الحرب بين الدول والمجتمعات وإلى الإحتراب الداخلي، ورغم أن الدين الحق واحد لكن المصالح الدنيوية مختلفة وبالتالي، فالمصالح الدنيوية تتعارض مع بعضها البعض والحل هو الفصل بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية وذلك لحماية المقدس من المدنس والغريب في الأمر أن فرح أنطون قد لخص هدفه الفكري العام في الإهداء الذي سجله في كتابه “ابن رشد وفلسفته” الذي وجهه إلى النبت الجديد في المشرق أي إلى “العقلاء من كل ملة وكل دين في الشرق الذين عرفوا مضار المزج بين الدين والدنيا، في عصر كهذا العصر فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبا في وضع مقدس محترم ليتمكنوا من الإتحاد اتحادا حقيقيًا ومجارات تيار التمدن الأوربي الجديد لمزاحمة أهله وإلا جرفهم جميعا وجعلهم مسخرين لغيرهم .. “[29] وبهذه العبارات، التي كلها تحذير وتنبيه يحاول أنطون أن يذكر بأهمية الفصل بين الدين والسياسة ولكن هذه الدعوة العلمانية كانت دعوة نخبوية ولم تكن هناك قوى اجتماعية تسندها، ولم تكن نتاج ثورة برجوازية ليبرالية، ولا نتاج حروب دينية مدمرة، بل كانت صيحة في واد غير [30]ذي قرار، كما كان الخطاب النهضوي العربي في خد ذاته خطابا فكريا نخبويا. والغريب في الأمر أن الدعوة العلمانية، مازالت كذلك حتى يوم الناس هذا، أي بعد مرور أكثر من مائة وخمسون على الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة في السياق العربي /الاسلامي، أما العلمانية في أوروبا فقد كانت نتيجة لمسار تاريخي طويل ومعقد، لعل أبرزه حركة  الإصلاح الديني  ما يسمى بالحروب الدينية، والصراع الدامي في الأول بين رجال ورجال العلم في بداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر والسادس عشر وفي مرحلة ثانية بين الكنيسة  والدولة في القرنين السابع عشر والثامن عشر وجاءت بعد ثورات ثقافية وعلمية وسياسية وظهور طبقات اجتماعية جديدة هي الطبقة البرجوازية التي قامت على أنقاض الطبقة الإقطاعية هذه الطبقة الجديدة قطعت نهائيًا مع الإقطاع وفكر القرون الوسطى. أما الدعوة إلى العلمانية في الفكر العربي الحديث فقد جاءت في سياق مختلف تمامًا في مجتمعات لم تعرف تطور اجتماعي ولا ثورة علمية ولا نهوض ثقافي ولا إصلاح ديني.

مصــادر ومراجــع:

[1]– ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر، ط3، بيروت 1979. ص 30

[2]-المصدر نفسه ص 308

[3]– حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر مركز دراسات الوحدة العربية ط 1 بيروت 1984 ص 413

[4]– المرجع نفسه ص 95

[5]–  فرح أنطون: ابن رشد وفلسفته. دار الفارابي ط1 بيروت1988 ص 250

[6]– محمد عبده: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1988 ص 50

[7]– المصدر نفسه ص 35 و36

[8]– المصدر نفسه ص 12 و13

[9]– فرح أنطون: المصدر نفسه ص 235

[10]– المصدر نفسه ص 277

[11]– المصدر نفسه ص 245

[12] – فرح أنطون: المصدر نفسه ص 245

[13] – المصدر نفسه ص 245

[14]– المصدر نفسه ص 245

[15]– محمد عبده: المصدر نفسه ص 20

[16]– فرح أنطون: المصدر نفسه ص 290

[17]– المصدر نفسه ص 290

[18]– المصدر نفسه ص 287

[19]– المصدر نفسه ص 287

[20]– ألبرت حوراني: المرجع نفسه ص 306

[21]– محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية. مركز دراسات الوحدة العربية ط2 بيروت2000  ص 76 و 77

[22]– المرجع نفسه ص 73

[23]– ألبرت حوراني: المرجع نفسه ص 307

[24]– فرح أنطون: المصدر نفسه ص 243

[25]– المصدر نفسه ص 243

[26]– المصدر نفسه ص 250

[27]– المصدر نفسه ص 251

[28]– المصدر نفسه ص 41

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر، كلية العلوم الإنسانية، جامعة بشار ــ الجزائــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى