بحوث ودراساتمسرح

وليد خيري: العاصفة الشكسبيرية بين المسرح والسينما.

 

وليد خيري

تعد مسرحية “العاصفة” (The Tempest)، التي كتبها ويليام شكسبير قرابة عامي 1610 أو 1611، خاتمة بهيجة ومربكة في آن، وغالباً ما تصنف كـ “رومانسية” أخيرة، وكأنها شهادة وداع من الشاعر الأعظم على خشبة المسرح. هذه المسرحية ليست مجرد حكاية عن سحر انتقام وعفو؛ إنها مختبر حقيقي تتصادم فيه قضايا السلطة، والحرية، والاستعمار، والنفس البشرية. لقد وُلدت “العاصفة” من رحم سياق تاريخي وثقافي شديد التعقيد، متأثرة بحدث حقيقي مأساوي هو غرق السفينة الإنجليزية “سي فنتشر” قبالة سواحل برمودا عام 1609، مستمدة منه تفاصيلها الساحرة (كأرييل المشتعل على الصاري كما جاء في تقرير ويليام ستراشي). لكنها لم تتوقف عند محاكاة الواقع، بل تجاوزته لتصبح مرآة عاكسة لفترة الاستعمار الأوروبي المزدهر، حيث تثير بحدة أسئلة حول الملكية والسلطة على “العالم الجديد”.


إن الالتزام الصارم بالوحدات الأرسطية (الزمان، والمكان، والحدث) في المسرحية، يقابله هوس نقدي حداثي بـ “الزمان والمكان” كأبعاد تتجاوز الإطار الكلاسيكي. فالجزيرة، موقع الأحداث الغامض، ليست نقطة جغرافية ثابتة؛ بل هي موقع رمزي متعدد السياقات يشير إلى البحر الأبيض المتوسط، أو الكاريبي، أو حتى أيرلندا كأقرب مستعمرة إنجليزية. هذا الغموض الجغرافي والزماني هو ما منح المسرحية مرونتها الهائلة وقدرتها على التكيف مع قراءات لا حصر لها، لعل أبرزها القراءات المعاصرة التي تتناولها من زاوية ما بعد الاستعمار، أو تلك التي تراها كرحلة نفسية داخلية لبروسبيرو حيث يمثل أرييل وكاليبان تجسيداً لـ “الأنا العليا” و”الهو” (Superego and Id) لبروسبيرو، والجزيرة هي رمز للنفس البشرية المعقدة.
تشابك الاستعمار والجنسانية: قراءة في سياق المسرحية الأصلي
إن السياق التاريخي للمسرحية لا يمكن فصله عن خطاب الاستعمار الذي تشابك فيه قضايا الجنسانية والنوع الاجتماعي. غالباً ما كان المستعمِر الأوروبي ينظر إلى الأراضي الجديدة كجسد أنثوي يُمكن تملّكه والسيطرة عليه. في هذا الإطار، يمكن قراءة شخصية ميراندا نفسها، التي تُعامَل أحياناً كـ “إقليم استعماري” يُفترض تملّكه ونقله لآخر. قصتها، التي تُناقش على ضوء قصة بوكاهونتاس الأصلية، تبرز كيف أن المرأة، بسبب جنسها وعرقها (في سياقات أخرى)، تصبح هدفاً مزدوجاً لنظرة المستعمِر المُتملكة. النظرة الاستعمارية لا تكتفي بضم الأرض، بل تسعى لضمّ وتأطير الهوية والجسد.
كما أن المسرحية لا تخلو من إشارات سياسية وفلسفية أعمق، مثل مناقشة أفكار اليوتوبيا ونظريات الحكومة كما تتجلى في خطاب غونزالو عن الكومنولث، الذي يعكس أحلاماً مثالية قوبلت بتوتر الواقع. التوترات بين المجموعات الأوروبية المختلفة (الميلانيين والنابوليين) في النص الأصلي تعكس بدورها توترات حقيقية في التاريخ الأوروبي المعاصر لشكسبير. كل هذا التراكم النصي والاجتماعي هو ما جعل من “العاصفة” نصاً خصباً للتكيف والاقتباس.
من خشبة المسرح إلى الشاشة: تحديات الاقتباس السينمائي لـ “العاصفة”
إن التكييف السينمائي لـ “العاصفة” يمثل تحدياً فنيا وسرديا فريداً. لقد أصبحت المسرحية واحدة من أكثر أعمال شكسبير اقتباساً في مختلف الأشكال، ولا سيما السينما، التي تتصارع مع بنيتها المعقدة والملغزة.

ـ الإيقاع والسرد: يواجه الفيلم تحديا أساسيا في هيكل المسرحية الذي يبدأ بـ “عاصفة” درامية خاطفة، ثم ينتقل إلى قصة خلفية طويلة تشرح الأحداث السابقة. السرد السينمائي التقليدي يتطلب إيقاعاً أسرع ومساراً أكثر سلاسة. وقد لجأت الاقتباسات إلى حلول مختلفة لهذه المعضلة، مثل استخدام لقطات استرجاعية (Flashbacks) أو حكايات موجزة لإيصال المعلومات الضرورية.

ـ السحر والتكنولوجيا: إن عنصر السحر والموسيقى في المسرحية، الذي يخدم كأداة للسلطة (بروسبيرو) ووسيلة للحرية (أرييل)، يطرح تحديا في كيفية تمثيله سينمائياً بطريقة لا تبدو ساذجة. تستطيع تقنيات السينما الحديثة تقديم معالجات مبتكرة لهذه العناصر، لكن المثير أن بعض الاقتباسات تختار تجاهلها تماما، بينما يلجأ البعض الآخر، مثل فيلم Forbidden Planet (1956)، إلى ترجمة السحر إلى مصطلحات علمية وتكنولوجية (كالقوى النفسية والتكنولوجيا المتقدمة)، وهو ما يعكس مخاوف أمريكية في الخمسينات ويستكشف تأثيرات نظرية فرويد (الهو id) عبر وحش من اللاوعي.

ـ كاليبان والبعد ما بعد الاستعماري: في القراءات الحديثة، تحولت شخصية كاليبان إلى رمز محوري للشعوب المستعمَرة والمُضطهدة، ما أدى إلى ظهور مجال دراسي خاص هو “كاليبانولوجي”. غالباً ما تركز الاقتباسات السينمائية الحديثة على هذا الجانب. ومع ذلك، من المثير للدهشة، وعكس القراءات الأكاديمية التي ترى في كاليبان رمزا عرقيا للاضطهاد، فإن الاقتباسات السينمائية تميل إلى تجسيد كاليبان على أنه أبيض، وهو ما يكشف عن انفصال بين التفسير النقدي المتخصص والتصوير السينمائي الجماهيري. كما تظهر الاقتباسات الميل إلى تجنب إظهار أي رابط قوي أو تشابه بين بروسبيرو وكاليبان، على عكس ما يقترحه النص الأصلي حول “الطرف الآخر من النفس”.

ـ الجزيرة والعزلة: فكرة الجزيرة كـ “إعداد معزول” تعد تحديا سينمائيا. غالبا ما تفشل الاقتباسات في تمثيل هذه العزلة الكاملة، بل وتميل إلى إظهار ترابط غير مقصود بين شخصيات كانت معزولة في المسرحية الأصلية، مثل ميراندا وأرييل. كما أن الاقتباسات تتجاهل أو تُغير الالتزام الكلاسيكي بوحدات الزمان والمكان، مما يمنحها حرية أكبر في التنقل السردي لكنه يفقدها الإحساس بالتكثيف الدرامي.
دراسات حالة في الاقتباس السينمائي: محاور الاختلاف الجوهرية
تتراوح المقاربات السينمائية لـ “العاصفة” تنوعاً جنونيا بين الخيال العلمي، والتاريخ الزائف، والفانتازيا، والدراما النفسية، مما يدل على قدرتها على الانصهار في مختلف أنواع الأفلام.
Forbidden Planet (1956): يعد هذا الفيلم حالة مثيرة للجدل. على الرغم من أنه خيال علمي، إلا أنه اقتباس موضوعي لـ “العاصفة”. إنه ينقل الجزيرة إلى كوكب “ألتير 4″، ويحوّل بروسبيرو إلى د. موريبيوس، ويحوّل كاليبان إلى وحش من اللاوعي (Monster from the Id)، وهو تعريب رمزي للسحر إلى تكنولوجيا وقوى نفسية مدمرة. الفيلم يعكس مخاوف عصره (المكارثية، المخاوف الجنسية) ويستعير من أساطير كلاسيكية (بيليروفون)، مما يثبت أن شكسبير يمكن أن يكون مرآة حتى لأكثر العصور تكنولوجية.
The Tempest (ديريك جارمان، 1979): يمثل هذا الفيلم مقاربة جذرية تركز على الجانب النفسي والداخلي. الأحداث تقدَم كأنها تدور في عقل بروسبيرو المكلوم، وتستخدم رموز بصرية كثيفة مثل المرآة والكيمياء. يقدم جارمان بروسبيرو بطريقة غامضة وعلاقاته مع ميراندا مضطربة، كما يتناول الفيلم قضايا الهوية الجنسية بشكل لافت، ويسلط الضوء على جوانب غير تقليدية في النص. المثير في هذا الاقتباس هو تجنبه الصريح للقراءات ما بعد الاستعمارية التقليدية، ليوجه تركيزه نحو الصراع الداخلي والشخصي.
Prospero’s Books (بيتر جرينواي، 1991): هذا الفيلم هو تجربة بصرية وفكرية تغلب عليها هيمنة الصورة على حساب السرد التقليدي. يركز جرينواي بشكل مكثف على الصراع بين “الكلمة المكتوبة” و”الصورة السينمائية”، مستخدماً الكتاب كعنصر بصري ورمزي رئيسي، حيث يجسد قوة بروسبيرو وذاكرته. الفيلم يتميز بأسلوبه البصري الغني والطبقات المتعددة من الصور التي تدمج عناصر من فترات وثقافات متنوعة (النهضة، اللوحات الفنية، العمارة). في هذا الفيلم، يتم تهميش الشخصيات الأخرى بشكل واضح، ويصبح بروسبيرو هو خالق الجزيرة ومخرجها السينمائي، وهو بذلك يتجنب، بشكل واع، القراءات ما بعد الاستعمارية ليركز على الفرد المبدع.
ميراندا: الشخصية الغائبة في الاقتباس السينمائي
من الملاحظ أن ميراندا، الشخصية الأنثوية الوحيدة ذات الحضور في المسرحية (باستثناء زوجة بروسبيرو التي لم تذكر)، غالباً لا تعتبر شخصية محورية أو مثيرة للاهتمام في معظم الاقتباسات السينمائية، باستثناءات قليلة. هذا التجاهل يعكس ربما صعوبة في التعامل مع شخصية نشأت في عزلة تامة، أو تفضيلاً للمحاور السياسية والنفسية على حساب البعد الرومانسي والاجتماعي. ففي حين أن النص الأصلي يركز على عذريتها ونقاءها كجزء من صفقة الزواج، فإن الاقتباسات لا تجد في هذا التركيز ما يخدم أهدافها الدرامية المعاصرة.
الحياة اللاحقة والتأثير: العاصفة كـ “سلف” لنوع الخيال العلمي
على الرغم من أن معظم اقتباسات “العاصفة” لم تحقق نجاحا نقديا عالميا واسعا، إلا أن بعضها، وخاصة Forbidden Planet، كان له تأثير هائل على أعمال لاحقة في نوع الخيال العلمي، حيث يمكن اعتباره نموذجاً أوليا لأعمال مثل سلسلة Star Trek. هذه “الحياة اللاحقة” تثبت أن جوهر “العاصفة” – الذي يتناول السيطرة على العقل، وتكنولوجيا اللاوعي، والرحلة الاستكشافية إلى المجهول – يظل سلفاً فلسفياً ودرامياً للقصص المعاصرة التي تتناول الإنسان في مواجهة حدود المعرفة والسلطة.

نهاية السحر وبداية السينما
تظل “العاصفة” لشكسبير نصاً غنياً يتيح للمخرجين والسينمائيين فرصة لا تعوض لاستكشاف القضايا الفلسفية والسياسية والنفسية. فإذا كانت المسرحية تنتهي بتخلي بروسبيرو عن سحره (“أُلقي بكتابي في البحر وأكسر عصاي”)، فإن السينما استلمت العصا، لكنها حولت السحر إلى عدسة، والجزيرة إلى كوكب، والتوتر النفسي إلى وحوش من اللاوعي. المسرحية، في جوهرها، تطلب من الجمهور أن يخاطب العقل ويسامح، بينما السينما، بأدواتها السردية والتقنية الهائلة، تخاطب البصر والذاكرة، وتُعيد تشكيل “عالم شكسبير الشجاع الجديد” إلى أشكال لا تنتهي. المقال النقدي يجد أن التحدي الحقيقي للسينما في مواجهة “العاصفة” ليس في كيفية تجسيد السحر، بل في كيفية الحفاظ على العمق الأخلاقي والتعقيد النفسي للشخصيات، خاصة كاليبان وبروسبيرو، دون الوقوع في تبسيط التفسيرات الأكاديمية أو الانفصال عن جذور النص التاريخية. هذا الصراع المستمر بين الأصل المسرحي ومتطلبات الشاشة الفضية هو ما يجعل “العاصفة” نصاً حياً، وعاصفة لا تهدأ في عالم الاقتباسات.


★سيناريست وباحث مسرحي ـ مصر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى