د.هيثم الخواجة: المسرح بين التسجيلية والوثائقية عبر التاريخ.
د.هيثم يحيى الخواجة★
لم يأخذ المسرح التسجيلي والوثائقي بسهولة في إقناع المتلقي ، لأن البعض تغافل عن الدراما، ولهث وراء الوثيقة، أو الحكاية التاريخية، بأسلوب مباشر بعيد عن الفن.
وبالعودة إلى مسرحنا العربي، نجد عدم انتشار هذا الفن في المسرح، ومهما تحدَّثنا عن ظروف وعوائق الفن المسرحي في واقعنا العربي، فإننا لا نَعْدَمُ تجارب مهمة، قفزت فوق الأسلاك، وأثبتت حضورها، سواء أكان ذلك على صعيد النص المسرحي الناضج، أم على صعيد القراءة الإخراجية .
ولا ريب في أن مهمة المبدع – مؤلفاً، ومخرجاً و … إلخ – مهمة صعبة وعظيمة في آن معاً، لما للمسرح من قدرة فائقة على الدخول في الأوردة، وولوج النسيج الإنساني، وبهذا يظل المسرح فن التثاقف، والوعي، والتحريض، والتقارب بين الشعوب والأقوام، ويظل المسرح يحمل بوحاً فكرياً عميقاً، وقادراً على التأثير والتلاقح، لخلق التوازنات مع الفنون الأخرى.
وتبقى إشكاليات التأصيل، والتواصل، واللغة من أهم مشكلات هذا الفن، بسبب تعدد الأفكار، وتنوع الآراء، واختلاف المذاهب، وعدم إيمان الكثيرين بضرورة التأصيل، واتجاه البعض الآخر نحو مسرح النخبة، وإهمال الفرجة المسرحية بكل أشكالها.
وعلى الرغم من تنوع الاتجاهات، والأساليب في الكتابة المسرحية، والإخراج، فإن المسرحية المتفوقة تفرض نفسها، وتثبت حضورها.
ولئن كان الحديث عن التجريب في المسرح السياسي، يحتاج إلى أسفار بسبب تعدد المحاور (مسرح الصحف الحية – المسرح الملحمي – المسرح الوثائقي.. إلخ) وبسبب غنى التجارب، وائتلافها، واختلافها، ونسبة جودتها من ضعفها، ولئن كان موضوع حديثنا عن المسرح الوثائقي، المرتبط بالتراث بعلائق وشيجة ومتشعبة، فإن الإشارة إلى أن رواد المسرح الوثائقي في الغرب، أمثال كيبارد ، وفالذر ، وبيترفايس ، وبرتولد بريخت ، وجونتر جراس وبسكاتور ، وهاينر موللر … إلخ تُعَدُّ ضرورة لأهميتها، خاصة و أنه ينظر إلى أن مسرحية ( مارا – صاد ) لبيتر فايس،أنها بداية المسرح التوثيقي السياسي، الذي تَطوَّر على يد بيتر بروك (1)
والمسرح الوثائقي، هو الذي يقدم حَدَثاً تاريخياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، أو قصة، أو واقعة بأسلوب درامي. والبعض يسميه مسرح الوقائع، ولهذا المسرح صفات، وسمات خاصة، لكون الشكل المسرحي فيه يستند إلى الوثيقة الحقيقية – ماضياً، وحاضراً – وحتى يغدو هذا الشكل مهاد العرض، أو المادة الأولية له .
لقد ازدهر المسرح الوثائقي في ستينيات القرن الماضي، وخاصة في ألمانيا، ليقدم قراءة جديدة لما هو موثق في التاريخ، من خلال المزج بين ما هو وثائقي، وما هو إبداعي، في إطار الدراما.
ولئن رأى البعض بأن المسرح الوثائقي في جوهره، يقترب من الفيلم الوثائقي، إلا أن الكثير من الدارسين والمبدعين، خالف هذا الرأي تنظيراً وتطبيقاً، لأن السينما والتلفزيون يقدِّمان المادة الوثائقية كما هي، وبشكل حِرفي، بعيداً عن الفن، وإن حدث تغيير طفيف (تمييز أو إنقاص أو اختيار) فيكون ذلك عبر المونتاج، الوسيلةِ الفنية المستخدمة في فني السينما والتلفزيون.
والأمر يختلف في المسرح إلى حد كبير، لأن المسرح يبقى مسرحاً، وهو الذي فجر الوسائل الأخرى، و تمّ الاشتغال عليها فيه، فهو يستوعب المادة الوثائقية، ويوظفها عبر السيميائية، والدلالية، وأساليب أخرى تحقق التواصل مع المتلقي.
وهنا نشير إلى طرائق، ووسائل استخدام الوثيقة في المسرح، عبر التاريخ، وقد تنوعت، واختلفت، وتعددت، بناء على رؤية المخرج، وقراءته التي تنطلق – حتماً – إلى الأفضل، ولإجادة المنجز.
فالبعض استخدم فن خيال الظل، والبعض الآخر، اِستفاد من المخترعات المعاصرة، والبعض الآخر أيضاً، اِعتمد السينما، و التلفزيون، وآخرون، اعتمدوا المؤثرات السمعية، أو الكتب، أو المنشورات، أو الصحف، أو الفانوس، وغير ذلك، وهذا كله – أي تعدد أساليب تقديم الوثيقة إلى المتلقي – أغنى هذا المسرح، ونوَّع التجارب، التي تعتمد على الوثائق في ترسيخ الأفكار، والأحداث، وتوضيح المصداقية، وإغناء العرض ببعد درامي عميق.
ويكفي هنا أن أشير إلى أروين بسكاتور، أحد مؤسسي المسرح الوثائقي، الذي استفاد من السينما، في إيضاح مسرحه الوثائقي، كما استفاد من آلات، وأدوات حديثة، ومعقدة، لإقناع المتلقي، وإدهاشه.
وأذكر في هذا المجال، الناقد جون جيرسون j.jerison، الذي يعتبر من أوائل الذين استخدموا تعبير مسرح وثائقي، أو تسجيلي، الذي رأى أن المسرح الوثائقي، انبثق عن تقنية مسرح الجريدة الحية في أمريكا، وأنه تَطوَّر لصيغ، وتوجهات مسرحية سابقة، وأن هذا المسرح، مسرحٌ مؤثر إذا ما استخدم بأسلوب إبداعي .
لقد عرف الغربيون مسرح الوثائق، باعتباره شكلاً من أشكال المسرح السياسي، فهناك ملامح للمسرح الوثائقي، تعود إلى المسرح الإغريقي؛ ومسرحية (الفرس) لأسخليوس، قد تكون بداية ملامح هذا المسرح، ولكن المسرح الوثائقي لم يأخذ شكله المستقل، إلا على يد إروين بيسكاتور (2)، وكان للحرب العالمية الأولى دور بارز في تأسيس هذا المسرح، وذلك بغرض إدانة هذه الحرب، عبر تقديم مجموعة من الإحصائيات من مثل: عدد القتلى، ونسبة الدمار، وعدد العُدَدِ المدمرة، و نسبة العتاد المستخدم، وعدد الجرحى، وحجم الخسائر ….
كل هذا غايته إدانة الحرب عند بيسكاتور، وإيقاظ وعي المتلقي، بمآسي الحرب والدمار الذي يلحق بالإنسان والمكان.
إن المسرح الوثائقي، مسرح معلومات، أما وجهة النظر فتأتي لاحقة للمعلومة، وأعتقد بأن جيرسون، محق فيما تَقَدَّم باعتبار أن المسرح الوثائقي، إذا لم يدرك المؤلف، والمخرج، كيفية استخدام الوثائق وتوظيفها، فإنه يدخل في إطار الفجاجة، والمباشرة، باعتباره يصدم المتلقي، ويضعه وجهاً لوجه أمام الطروحات البعيدة عن الترميز، والإشارات، والإيماءات، وغير ذلك، خاصة إذا أصَرَّ على تجزيء الحدث بما يتلاءم مع الوثيقة، ويتناسب مع الطرح.وقد نجح المخرج الألماني المهم، أروين بيسكاتور.
E. Piscator (1893 – 1966) في تقديم المسرح الوثائقي، عندما انفتح على التاريخ، فعمل على تماهي الوثائق مع التاريخ، لكي يتبدى الحدث مقبولاً، من خلال جعل الوثيقة السياسية، والتاريخية، وسيلة لربط الحدث المسرحي، بالمسار السياسي (مسرحية النائب – مسرحية قضية روبرت أوبنهايمر)
إن المسرح التسجيلي الوثائقي، هو الذي ينقل الواقعة التاريخية، ويوثق هذه الواقعة، سواء أكانت تقريراً، أم قيمة سياسية، أم حادثة اجتماعية.
ومع تطور الفكر الإخراجي، الذي صاحبه تَطَوُّر بالتقنية الإخراجية، سحب المسرح الوثائقي من تجريدية المعلومة، إلى إعادة تأويل المعلومة درامياً و إعادة إنتاج التاريخ من جديد، وليس أدَلّ من ذلك ما قدَّم الكاتب السويسري رولاند ميرك، الذي أعاد إنتاج التاريخ، بعرض مسرحية بعنوان (النكبة) على مسارح العاصمة بيرن، وَفق هذه الرؤية، مستفيداً من تاريخ فلسطين، منذ عام 1948م وصولاً إلى حرب غزة الأخيرة، ومستنداً على الوثائق، ومعتمداً على البيانات، وبذلك يجعل التاريخ مهاداً، والوثائق أداة فعالة، للإنارة على الفكرة، ودلالاتها، قي التطور، وتعميق الأحداث.
إننا عندما نُقَدِّم المسرحية الوثائقية بصورة سائغة، دون فجاجة، وخطابية، فإن درجة إقناع المتلقي، تكون كبيرة، مثال ذلك، مسرحية (الراديو المؤذن)، التي عرضها ستيفان كايغي، مخرج فرقة ريميني بروتوكول للفن والمسرح، في برلين، فأيقظ بها الإحساس بالواقع السياسي لدى المتلقي، ومثال ذلك، مسرحية القضية، تأليف الراحل يسري الجندي، وإخراج حسن الوزير، ومثال ذلك أيضاً، مسرحية (فجر المسرح المصري)، للراحل نعمان عاشور، ومسرحية سهرة مع أبي خليل القباني، وحفلة سمر من أجل خمسة حزيران، للراحل سعد الله ونوس.
لقد استطاع الراحل نعمان عاشور، أن يركب الوثائق ويدخلها في الحديث، من خلال قالب درامي، جعل المسرحية عملاً متكاملاً، كما استطاع الراحل سعد الله ونوس، أن ينسج من الوثائق مسرحية، لها أبعادها السياسية والتاريخية معاً.
ومما تَقدَّم نعرف كيف يتجاوز المسرحيان الراحلان عاشور، وونوس، الغاية التوثيقية، إلى فضاءات مهمة، من خلال تركيبة وصياغة النص المسرحي السياسي، ذي المهاد التاريخية.
ومما تَقَدَّم أيضاً نعرف أن الوعي الفني لدى الكاتِبَيْن دفعهما للإيغال في التاريخ، ليس من أجل التاريخ، وإنما من أجل تمرير الفكر الناهض، والمحرض.
ولابد هنا أن نُنَوِّه إلى استخدام الأدوات، والآلات الحديثة، والتقنيات المعاصرة، في المسرح التوثيقي، لبناء المنظر المسرحي، وتشكيل الفضاء المسرحي، الذي يساهم جمالياً، كما يعمل على تعميق المدلولات، ليجعل لهذا النوع من المسرح، أبجدية متفردة، تعكس النسق المعرفي للإطار العام للعرض، ورؤية العاملين فيه، وهذا يعني أن هذا المسرح، اِستفاد من التكنولوجيا، والمعطيات العلمية، والتقنية، ووظفها، واستثمر ما فيها لخدمة أهدافه.
وهذا يقود إلى العلاقة الوشيجة، التي نلحظها في المسرح الوثائقي، بين المنظر المسرحي، وبين النص الأدبي، كما يقود إلى تبيان المنظر المسرحي – باعتباره من أهم عناصر التعبير في العرض – في توضيح المعاني، وفي إثراء العرض، كما يعكس دور السينوغرافية وتوظيفها، بشكل عامّ في النهوض بالعرض ونجاحه، ويأخذ علم السيميولوجيا، دوره المشروع في المسرح الوثائقي، لما في الوثائق من عناصر تعكس إشارات، ودلالات تحلل الفعل المسرحي، وتبين أهدافه ، خاصة وأن أسس علم العلامات، يشتغل على ما تشعه اللغة من فضاءات تخصها من جهة، وتطال الفعل الدرامي من جهة أخرى، لأن السيميولوجيا – كما تقول الدكتورة منى صفوت، في مقدمة كتاب (مدخل إلى علم العلامات في اللغة والمسرح) – لا تعني فقط التعرف إلى المعنى باستخلاصه، فتلك مهمة علم التأويل، والنقد الأدبي، وإنما تعني أساساً سبل إنتاج هذا المعنى، طول السياق المسرحي، الذى يَمُرُّ من قراءة النص بوساطة المخرج، ليصل إلى المتلقي / المفسر له، وبذلك تُعَدُّ السيميولوجيا، منهجاً قديماً وحديثاً، في آن واحد، ففكرة السياق والمعنى دائماً في قلب أي تساؤل فلسفي ، ولكن الدراسة السيميولوجية بمعناها المباشر، تعود إلى كل من بيرس، وسوسير، وهذا الأخير كان قد لخص برنامجه الضخم في محاضراته على النحو التالي :(هو علم يقوم بدراسة حياة العلامات في بيئتها الاجتماعية ) (3)
نعود إلى القول : إن المسرح الوثائقي، مسرح إشكالي من حيث النجاح وعدمه ، ولهذا لابد أن نربط النجاح بمقدار فهم المخرج وقدرته الإبداعية، وقراءته الإخراجية الخلاقة،
و إن أقرب تعريف عالمي شائع للمسرح الوثائقي، هو قول بيتر فايس :
(المسرح التسجيلي: مسرح تقرير السجلات، والمحاضر، والرسائل، والبيانات الإحصائية، ونشرات البورصات، والتقارير السنوية للبنوك، والشركات، الصناعية، والبيانات الحكومية الرسمية، والخطب، والمقابلات، والتصريحات، التي تُدْلي بها الشخصيات المعروفة، والريبورتاجات الصحفية، والإذاعية، والصور، والأفلام، والشواهد الأخرى للعصر الحاضر، هي التي تكون أساس العرض .
فالمسرح التسجيلي، يستوعب كل اكتشاف، وكل مادة موثوق بها، ثم يعكسها مرة ثانية على المسرح، بعد التعديلات اللازمة في الشكل ) (4)
وما دامت وقائع التاريخ ( بين يدي الكاتب المسرحي، تشبه عينات من المواد الكيميائية، التي يضعها في مختبره الدرامي، ليجري عليها تجاربه وَفق رؤيته الإبداعية، مستخدماً وسائله، وأدواته الفنية المبتكرة، ليصل من خلالها إلى نتائج غير متوقعة، وإلى خلق مدهش جديد) (5) فإن النظر إلى المسرحية الوثائقية، من منظار القدرة الإبداعية، وأسلوب التصدي للتاريخ، وتمكنه من تقديم مايثير، ويقنع دون تناقض، أو مبالغة، أو تزييف هو الفيصل في مناقشة أي عرض من هذا النوع.
وبناء على ما تَقَدَّمَ لابد من الإشارة إلى أهمية السينوغرافيا في المسرح الوثائقي، باعتبار أن المنظر المسرحي، ليس مجرد لوحة ثابتة، وأن المسرح الوثائقي، يحتاج إلى تقنيات خاصة: ( إن التغير الحادث في المنظر المسرحي، يكشف عن التغير الحادث في الشخصيات، دونما حاجة لأن نقول ذلك، مثلما هو الحال مع تغير ملابس الشخصيات، أو بهتان ألوانها، لهذا لا يمكن أن تتطور دراما النص المسرحي، مع ثبات العالم التشكيلي، الذي يعبر عن هذا النص ) (6)
إن تراثنا العربي مفعم بالوثائق المهمة، التي تتضمن دلالات، وإيماءات، يمكن إسقاطها على الواقع، ليس لإعادة إنتاجها فقط، وإنما من أجل ترسيخ الوعي، وتعزيز المعرفة، طالما أن التاريخ يعيد نفسه بصورة، أو بأخرى، وطالما أن العبرة تكمن في الماضي والحاضر، ومن مهمات الفنون، المساهمة في عكس، وتجسيد ذلك بعيداً عن الخطابية والمباشرة.
الهوامش :
1) من مسرحيات بيتر فايس(1916-1982) / البرج 1949، والضمان 1952، ومارا- صاد 1964، تروتسكي في المنفى ، غول لوزيتانيا ، كيف نخلص السيد موكينبوت من آلامه ، التحقيق .
2) يعتبر المسرحي الألماني إروين بيسكاتور من أهم المخرجين الذين قدموا مسرحاً وثائقياً مثل مسرحية (النائب) التي كتبها الألماني رولف هوخوث واستحضر فيها أحداثاً حقيقة، ومسرحية (قضية روبرت أوبنهايمر) التي كتبها الألماني هاينر كيبهارت حول اختراع القنبلة الذرية.
3) عصام الدين أبو العلا، مدخل إلى علم العلامات في اللغة والمسرح، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، 1996، ص9 .
4) بيتر فايس ، أنشودة أنغولا ، تر: يسري خميس ، سلسلة المسرح العالمي ، الكويت ، 1970، ص 19- 20.
5) أ . محمد أبو العلا السلاموني ، التاريخ كلعبة مسرحية ، بحث مقدم في ملتقى الشارقة السادس للمسرح العربي 2008، ص3 .
6) د. عايدة علام، السينوغرافيا وإشكاليات التعامل مع التاريخ، بحث مقدم في ملتقى الشارقة السادس للمسرح العربي 2008، ص5 .
★ناقد وباحث مسرحي-سوريا.