رواية

شيماء مصطفى: “وشائج الماء” لعبده خال .. ماذا لو قمنا برحلة داخل الذات؟!

شيماء مصطفى ★


« تواشجت كل النطف لإحداث كارثية الحياة»

من خلال هذه المقولة على لسان الراوي، والتي تم توظيفها ضمن الأحداث يظهر التأويل الأكثر دلالية لرواية (وشائج الماء) لعبده خال، حيث يستخدم الجمع تاركًا المفرد كنوع من الدلالة على الروابط والأواصر التي لا تمسك بزمام النص وحسب، بل بالواقع وتطلعاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فتحول الراوي من كاتب يبحث عن هويته لمدافع عن أرضه، مقاومًا كل ما هو مستهجن وفاسد يعوق عجلة التنمية.

فبذكاء شديد وُضع السارد والقارىء في منزلة واحدة، فجعلهما – السارد والقارىء – يكتشفان معًا شبكية العلاقات في وشائج الماء، فالسارد لم يكن بالراوي العليم لما ستؤول إليه الأحداث، مما أضفى على العمل الصبغة الإنسانية فلم يشعر القارىء بالاغتراب، فالطرح الأدبي يتشابه مع بيئة القارىء ورحلته الاستكشافية داخل الذات، فخرج بهذا العمل من الخصوصية نحو التعميم.

الراوي العليم

تعدد الرواة المتعمد في وشائج الماء أكسب النص الأدبي حيوية وشمولية نبعت من اختلاف زوايا الرؤية للشخصيات، فبلغة شاعرية وقاموس زاخر بالمفرادت العربية الخالصة في تكوينها نُسجت وشائج الماء، فكانت كلوحة لفنان تشكيلي مكتملة الخطوط والألوان وصادقة في التجربة.

اعتمدت الرواية في بناء متنها السردي على المفارقات سواء بين دلالات أسماء الأماكن وسلوك زائريها، أو بين أسماء الشخصيات ومسالكهم في الحياة، إضافة لاعتماده في الحبكة على التلاعب اللفظي وغرابة التشبيه، فالحبيبة التي تدرس في مدرسة دار الحنان تعامله بقسوة وجفاء، فلا يوجد اتساق بينها وبين المكان الذي تنتمي إليه.

«كانت نظرة عينيها ترسل اشمئزازا مني ومن هيئتي، ..»
كذلك باقي الأسماء عربية الأصل للشخصيات لها  نصيب من  معانيها سواء بالتوافق أو بالتعارض مثل :طاهرة، أمين، حليمة، مبارك.

أهم ما يميز الرواية هي إيمانها بأن الإصلاح لأي مجتمع ينبع من الداخل، فحين يُصلح الفرد من ذاته، فإنه يسير صوب الطريق الصحيح للبناء والتعمير في مجتمعه.
يظهر التناص الواضح بين قناعات السارد الرئيسي في وشائج الماء “أمين” وبين مقولة الكاتب عبد القادر المازني «محاسبة النفس عسيرة لكنها واجبة».

ومن خلال  ثقافة الكاتب الدينية العالية نجح في توظيفها في خدمة النص فعلى لسان الراوي يقدم لنا النصيحة:

« إن تحركت رغبة الإيذاء في داخلك، ادفنها ففي قلبك متسع للردم» التي تتفق مع الآية القرآنية « وأما من اتقى ونهى النفس عن الهوى … ».

ورغم يقين الراوي بأن قراءة الكتب ملاذًا آمنًا من أشباح المعتقدات والأفكار الخاطئة،  إلا أنه ليست كافية في بعض الأحيان فلا بد أن تقترن القراءة بالوعي المنبثق من إدراك الذات؛ لذلك بدت الرواية كرحلة استكشافية للذات قبل الصدام مع الآخر.

« كثافة قراءتي لم  تمكن ذاتي لتحريرها من سجن جدتي وأفكارها…».
« لا تستهن بمعتقدات الناس، فهي حبل يلتفت حول عنقك وإن لم تدرك».

أما عن شخصيات الرواية فقد عززت ثقافة احترام الاختلاف، والتقبل غير المشروط للآخر ومعتقداته، وقد ظهر ذلك من خلال الحوار بينه وبين الأم والجدة موضحًا الفرق بين الخلاف والاختلاف، وعواقب التقليل من الآخر.
« لا تستهن بمعتقدات الناس، فهي حبل يلتفت حول عنقك وإن لم تدرك».

كما استطاع من خلال أدواته السردية أن يبرز التشابه بين الأقطار العربية في بعض الأفكار والثوابت الاجتماعية الراسخة فخرج بالعمل لنطاق جغرافي ممتد،  ومنها إيمان بعض الشعوب بأن الزواج وسيلة لتقويم  الرجل.
« رأيت أمي تمسد شعرها، وهي تتضاحك مع جدتي حليمة، إن لم نزوج أمين فسوف يفسد عقله»

الحب وأشياء أخرى

للحب عند عبده خال صورة أخرى تجاوزت العلاقة بين الرجل والمرأة، وقد أكد ذلك من خلال إهداء الحبيبة الحبل السري الخاص به كرمزية لسر الوجود البشري بشكل عام.
« هذه القطعة منحتني الوجود، وأنت منحتيني بهجة الدنيا»

ولكنه سرعان ما اكتشف أنه أعطى أغلى ما يملك لمن لا يستحق، في إشارة مباشرة للأرض التي توهب لمن لا يقدر قيمتها ويعرف أسرارها حق المعرفة، فيصف الحبيبة بعد كشف القناع وبيان الوجه القبيح المستتر خلف الجمال الظاهري فيقول:

« فراشة تعرف أين تقف لامتصاص رحيق النفس ».

تجاوز الحبل السري في وشائج الماء وظيفته البيولوجية  المتمثلة في إمداد الجنين بالأكسجين والمواد الغذائية قبل الولادة ، فحمل الحبل السري وظيفة أعمق تمثلت في الكشف عن كينونة الفرد وصفاته بعد الولادة وحتى الموت، وصار الاحتفاظ به بطريقة تشبه الطريقة الفرعونية في التحنيط نوعًا من الحفاظ على سر الوجود.

للجدة مكانة كبيرة في أدب عبده خال، فهي منبع الحكايات التي يحولها من الحكايات الشفهية لدفاتر مكتوبة، لم تكن الجدة وحدها التي تحتل المكانة في أعماله، بل البيت والعائلة أيضًا فهما كنز المحارب وذخيرته.

أما عن الكلمات فمن منظوره كالسفن الضائعة إن لم تعرف هدفها ووجهتها فلا فائدة منها ؛ ولذلك فإن أمين السارد الرئيسي في وشائج الماء، وطاهرة المرأة التي أحدث ظهورها في نهاية العمل قفزة نوعية كاشفة لمعظم الخطوط السردية كانا على الإدراك الكافي بكل ما ينطقان به.

يميل الراوي إلى الحفاظ على المعرفة في صورة مادية ملموسة، فالكتابة لديه أن تترك أثر، وأن يتحول هذا الأثر إلى سلوك، وتتحول الحضارة إلى آثار ومقتنيات تعزز مجد الأمم، بدأ ذلك في العمل كثيرًا من خلال سلوكيات الجدة حليمة، التي جاهدت في نقل رفات الجد ومقتنياته من منزل لآخر، ومن خلال السارد أمين في محاولته لتحويل ما يملك من معرفة في لوح مكتوب، خشية أن يتلاشى من الذاكرة، كذلك طاهرة الحبيبة السابقة لوالد السارد الرئيسي في وشائج الماء أمين، التي حولت ذكرياتها مع الأب في شريط كاسيت.
« الذاكرة أرشيف غير أمين، لكل الأحداث التي مررت بها»

صراعات متداخلة

نقل لنا عبد خال – سفير المملكة  في الإبداع -صورة حية للصراعات المتشابكة بين الذات والآخر في رحلة الوصول إلى الذات فلم يقتصر الأمر على رحلة الراوي بل شملت جميع الشخصيات فالهدف الإنساني واحد وإن اختلفت سبل الوصول إليه.

القارىء لأعمال عبده خال العديدة الصادرة عن دار الساقي على سبيل المثال لا الحصر: فسوق، زائر ليل، نباح، مدن تأكل العشب، الأوغاد يضحكون، ترمي بشرر ، سيجدها تهدف لمشروع أدبي متكامل ينبش داخل الذات ليوشجها بالمجتمع، علاوة على أنها تتسم بنزعة إنسانية ميالة لحفظ التراث والحضارة، فهو على وعي كامل بدوره كأديب تجاه بيئته وأبنائها.


★سكرتير التحرير

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى