أخبار ومتابعاترواية

باسمة العنزي:المواطنُ الكونيُّ في السَّرْد!

كما في قصصها ورواياتها، التي تحفل بالوعي، وتشتبك مع الواقع، قدمت القاصة والروائية باسمة العنزي شهادتها – ككاتبة وقارئة أيضاً- ضمن مشاركتها في ملتقى السرد الخليجي في دورته الخامسة في العاصمة القطرية الدوحة، بورقة حية، معنونة بـ “المواطن الكوني في السرد”، حيث اللغة السلسة، والاستشهادات النافذة، والأمثلة المستقاة من منجزها الإبداعي المتميز.

نقدXنقد تنشر الورقة حصرياً، ليتتبع القارئ خطى العنزي في بحثها عن المواطن الكوني:

“الإنسان الكوني في السرد”

في إحدى وُرَشِ الكتابة الإبداعية مَرّرْتُ قُصاصاتٍ من صحف محلية للمشاركين، وطلبتُ منهم كتابةَ قصة قصيرة عن أيِّ خبر، إعلان، تصريح أو حتى مانشيت من الصفحة التي بين أيديهم.

ذُهِل المشاركون من كمية الأفكار الملهمة التي كان بإمكانهم التقاطها وتحويلها عبر آلة السرد السحرية إلى مواضيعَ وشخصياتٍ وأحداثٍ نابضة بالحياة، الحياة التي يخبرونها جيداً وبإمكانهم مناقشتها ورسم صور واضحة لأبطالها!

بعدما أنهى كلٌّ منهم قراءةَ قصّتِه المستقاةِ وقائعُها من قصاصة الصحيفة، لاحظ الجميع أن السمة المشتركة لجميع النصوص واقعيتُها واقترابُها منا، الكثير من نقاط التّماس بين ما تلتقطه أذهاننا وما نحاول أن نعبّر عنه عبر الأدب.

في العديد من النصوص التي أقرؤها أياً كان موضعي كاتبةً أو قارئةً أو حتى مُحكِّمة في جوائزَ أدبيةٍ محلية وعربية، ألمس تلك الفجوةَ الكبيرةَ بين واقعنا المعاصر وتفاصيله، وما يُقدَّم عبر الكتابة! أحياناً ألجأ إلى حيلةِ افتراضِ أنَّ النص الذي أمامي كُتِب في الثمانينيات أو التسعينيات أو حتى بالأمس، وعندما لا ألحظ الفرق في تغيير التاريخ أصنِّف النصَّ على أنه خارجَ زمنه! وهذا الأمر نادراً ما يكون إيجابياً بالنسبة لي!

تقول الكاتبة العالمية آني إرنو: “ما ليس له قيمة في الحياة لا قيمة له في الأدب”، والحياةُ المعاصرة التي نحياها اليوم بتفاصيلها المنهِكة وأرضيتها الرقمية وفضائها السحابيّ وتغيّراتها المناخية، بخصوصيةِ رِتمها، وبعمومية مواضيعها المتشعّبة، باعثةٌ على طَرْق أكبرِ أبواب السرد، ومناقشة عدد غير نهائي من الموضوعات الجديدة! بطلُها جميعاً المواطنُ الكونيُّ الجديدُ، وبمعنى أدقَّ بطلُها أيُّ واحدٍ منا، بنسختنا العصرية.

لم يحدث سابقاً في تاريخ مَن سبقنا أنْ تبلورت صورةٌ واحدةٌ متعددةُ الزوايا للمواطن الكوني الجديد “Global Citizen” الذي بإمكانه أن يسافر عبر الطيران القطري لجزيرة بالي، يحتسي قهوة أرابيكا في أولواتا، ثم يمارس رياضة اليوغا مرتدياً ملابسه الرياضية التي اشتراها من موقع أديداس عبر بطاقة الفيزا، ووصلتْه عبر طرد DHL، الملتقِط صوراً عالية النقاوة لكرات جيلاتو Venchi من هاتفه السامسونج لينشرها على موقع أنستجرام باستخدام الجيل الخامس من شبكة الإنترنت قبل أن تُقِلَّه سيارة أجرة من تطبيق “Grab” إلى منتجع جميرا الشاطئيّ، وليختار فيلم السهرة من منصة نتفلكس.

هذا السائح الذي يشترك مع آلاف السياح حول العالم في أغلب تفاصيل يومه، لو كتبت عنه قصة قصيرة دون إشارة لبلده ولا اسمه، فقط معلومات عامة عن وظيفته، عمره، هواياته وعدد أبنائه وحالته الصحية.. فهل ستميزه عن أي مواطن كوني آخر؟!

تمر علينا عشراتُ القصص والأعمال الروائية، تفاعلُها مع واقع المواطن الكوني وهمومه وتفاصيل يومه وقضاياه هامشيٌّ إن لم يكن معدوماً! في فضاء تتحرك فيه طائرات الدرون فوق المدن الذكية، وتنتشر فيه كاميرات الـ”vsaas”، وترتفع وتهبط فيه مؤشرات عملة البتكوين الرقمية، وتخزن فيه قواعد بيانات رسمية في سحابة أمازون، ويتسيد فيه الذكاء الإصطناعي، ويتجه الموظفون للعمل عن بعد، وتُخصِّص الشركات الكبرى ميزانية لخلق بيئة عمل مستدامة باستراتيجيات عالمية، وتتفاقم فيه مشكلات التغير المناخي والأمن الغذائي. في هذا العالم الصاخب بإيقاعه الجديد هل من المجدي أن يتجاهل الكاتب كل ذلك؟!

سرد اليوم سيكون تاريخَ الغد، تاريخَ هذه الحقبة الفريدة من العصر الإلكتروني الذي نحياه بمعطياته الكثيرة وصوره المتعددة ونمطه الفريد، والأهم بتقنياته وحدوده الرقمية التي بلا حدود!

 

 

عندما كتبت رواية “قطط أنستجرام” عام 2015 عن امتزاج السوشيل ميديا بحياتنا إلى درجة تأثيرها على الفرد في اتخاذ قراراته، وهو يظن أنه بكامل إرادته، وعن انحسار الخصوصية، ولو كانت من خلف قناع الأسماء المستعارة -وهي الظاهرة الآخذة في الضمور.. فالكل يرغب في شيء من الظهور والتجلي- كنت مهتمة بتتبع أثر موجات الحداثة الجديدة على حياتنا في المجتمعات الخليجية، وخلال تسع سنوات من نشر الرواية تغلبت تطبيقات العالم الجديد على محاولات لجمها الخافتة، وأجبرت أكبر المعارضين لها على دخول بوابتها الواسعة.

كأديبة كنت سعيدة بنبوءتي التي تحققت، ليس بسبب فراستي، بل لقراءتي الواقع بمعطياته الاقتصادية والاجتماعية وتأثيره علينا، ولقناعتي التامة بأننا جميعاً مواطنون كونيون بهويات مختلفة.

هل تكتبين عن الواقع؟ سؤال يُطرَح علي كثيراً، وأظن زادت وتيرته بعد إصداري مجموعتي القصصية الأخيرة “نجمة واحدة قد تكفي”.

نعم أنا ابنة هذا الواقع، وككاتبة كويتية وخليجية يمتزج واقعها بخصوصية مع العالم، يستهويني وبشدة تناول الواقع أفقياً وتناغم الذاتي مع الموضوعي.. تجذبني أفكار غير متناولة؛ مثل الاستهلاك في مجتمعاتنا، وتبني المؤسسات فكرة تمكين المرأة، والتنوع في بيئات العمل، وخططنا الشخصية لمواجهة سطوة السوشيل ميديا، وحماية الأطفال من الابتزاز الرقمي، ودرجة تماسك العائلات الحديثة، وإزاحة الكثير من المفاهيم القديمة / الخدمات / السلع لصالح الجديدة. وحركة الموضة الدائمة وتتبعنا لها جماعياً وما يعنيه ذلك.

أستقي شخصياتي من أرضية متحركة كمسار جهاز الركض، فمثلي لا تستهويه الأفكار الفانتازية الحالمة، ولا الشخصيات الخارجة من قفص الخيال وحده، كما لا تجذبني ثيمات البكاء وقصة الغنيّ الذي لم يتزوج الفقيرة، ولا العائلة الثرية التي اختلف أفرادها على الميراث واكتشفوا ابناً جديداً لهم!

بإمكان لوحة كبيرة في طريق المطار “التجوال يجمع العالم” أن تلهمني فكرة، كما يحدث مع مواقع تقييم الخدمات المقدَّمة للعملاء وتعليقاتهم عليها. ومحاولات الهاكرز الاستيلاء على ممتلكاتنا الافتراضية قادرة على منحي فضاءً لقصة قصيرة.

كذلك، العلامات التجارية، وانسياق الأفراد لخططها التسويقية الحديثة، ولذة الاستهلاك، ومرارة فقدان الوظيفة في القطاع الخاص، وتغلغل التكنولوجيا -السمة المميزة لحداثتنا- في تفاصيل يومنا، والقلق الاجتماعي، واضمحلال الخصوصية والتلصص الإلكتروني.. وغيرها من المواضيع، كلها قادرة على المضيّ بي بعيداً.

في الفن هناك حضور وإن كان خافتاً للمواطن الكوني، بينما يقف الأدب العربي بعيداً على أطلال الماضي، يعيد إنتاج ذات الأفكار ومناقشتها دون أن تظهر بوادر حداثتنا وسيولة حياتنا فيما يقدَّم للقارئ! المتلقي الذي يستخدم جهاز الآيباد للقراءة ويقيم ما قرأه بالضغط على نجوم موقع goodreads، ويقتني كتبه عبر التسوق الإلكتروني.

يقول زيجمونت باومان: “الخوف من الانكشاف أمام الناس قد تغلَّب عليه ابتهاج المرء بملاحظة الناس له!”. مقولة بالغة الأهمية، أبحث عن تمثيل جيد لها في عالم السرد، فلا أقبض في أغلب الأعمال التي قرأتها -رغم عظمة بعضها فنياً- إلا على الخافت من مظاهر زمننا الانتقالي. أقرأ أعمالاً نشرت للتو فأجدها خارج حدود الإنترنت، ولا ارتباط لها بحركة مجتمعاتنا!

عندما تتم مناقشتي من قبل القرّاء عن مجموعتي القصصية “نجمة واحدة قد تكفي”، ويتكرر التعليق بأن الشخصيات واقعية لدرجة أنهم صادفوها في حياتهم، أبتهج بقدرة الأدب على الوصول لدائرة الحياة اليومية لأفراد من مجتمعي ألتقي بهم للمرة الأولى! إذن بيننا أشخاص مشترَكون! كنت أعلّق على ذلك وأنا أعترف بأن أبطالي بسماتهم الكونية ونمط حياتهم السريع وتفاعلهم الاجتماعي جزء من فسيفساء العالم الجديد، العالم الذي نتشاركه جميعاً!

السرد الخليجي تحديداً قادر على بلورة صورة الواقع التي نأمل التقاطها، ففي هذه البقعة من العالم خطوط تتشابك لمستقبل جديد وتقاطعات طرق آمنة للوصول إلى فضاء أبعد يُشكّله المواطن الكوني ويتم تدوينُه في سردنا لنصل لأرضية مشتركة مع الآخر أينما كان.


مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى