طارق بن هاني: كيف يغيّب النقد الكسول الإبداع الأدبيّ؟
طارق بن هاني ★
اضطلع النّقد الأدبي في تاريخه بوظيفة الإظهار، فبنقده للعمل الأدبي يبرزُ محاسنه وشيئًا من معايبه (على أنَّ قيمة الأدب تتجاوز هذه الثنائيَّة في نقد ما بعد الحداثة)، وهو بذلك الإظهار يحدّدُ مصائر التلقِّي، فهل ينكرُ أحدنا أنَّ إظهار شكسبير والمتنبي وبقاءهما – في ذوقنا الجمعيّ – كان بقاءً نقديًّا صنع توهجهما؟ وهل ما يزال النقد إظهاريًّا في وقتنا هذا الذي استسلمت فيه الأذواق الفرديّة للاقتصاد القياسي من قبيل: الأكثر مبيعًا، رقم الطبعة، إلخ…؟ أم صار نقدًا تغييبيًّا؟
إن الذي يصنع وهج المبدع – في وقت مضى – كان هو القارئ – النّاقد الحصيف، وأظنُّ أن الذي يصنع وهج المبدع – في وقتنا هذا – هو الدّعاية، كانت الدّعاية تحصيلاً لحاصل القراءة الواعية، وصارت الدّعاية مُقرِرًا لمصير الإبداع والقراءة معًا، وهذا أخطر ملمح من ملامح التفاعل مع الآداب في وقتنا الرّاهن!
فثمّة مناطق من الإبداع لا يصلها النّاقد (الكسول)، فيُفضي ذلك إلى تغييب جزء ليس قليلا من الإبداع، فقط لأنّ السوق لم يسعفه. هناك – مثلاً – مسرحيات لا تُصوَّر فلا تُشاهد، وهناك روايات وقصص لا تُوافق هوى السوق فلا تحظى بالنشر الجيّد فلا تُقرأ إلا قليلاً وربما تموت سريعًا، وهناك أعمال تموت في أرحامها لأنها لم ترضخ لرأس المال أو لأصحابه، فيكون واقع الإبداع – والأمر كذلك – مرهونًا بتغييب يقتضي ظهور، واكتساح، وتأثيل وجه واحد، وطمس بقية الوجوه، وربما تأتي المؤسسات – في مرحلةٍ لاحقةٍ؛ وبسلبيةٍ طاغية – لتزيد الأمر تعقيدًا جريًا منها وراء الموجة، وأعني المؤسسات الأكاديميّة والثقافية والإعلامية.
ذلك قد يؤدي أو ربما أدى إلى تأثيل نقد أحاديّ- إقصائي، وأدى من وجه آخر إلى تضييق الرؤى وحصرها في نطاقات محدودة، لذلك فإن إبداعنا يتشابه ولا يشبه متلقيه، أو يضطرّ للتنازل عن هويته طمعًا في تسجيل الحضور. إننا في حاجة لاستعادة الإبداع المطموس، وهو كثير جدًّا، وذلك جهد تقصر الهمم عنه لأن العطاء الثقافي في وقتنا عطاء متعجِّلْ، فكاتب المقال مطالب بالكتابة ضمن أيام محدودة، وكاتب البحث العلمي مقيّد بنطاقٍ زمنيٍّ، ولا بأس بذلك تنزلاً مع الواقع، ولكنّ طبيعة الاكتشاف والإظهار تحتم انفتاحا على الزمان وما انطمس فيه حتى يصير الأمر قضية حياة، ونحن في حاجة – من جهة أخرى – لاكتشاف ما هو موجود، كما هو، لا كما ترشحه مسلماتنا التي تستسلم إما لمرحلة سابقة من مراحل القراءة الجادّة، أو لمقتضيات السوق، إننا بحاجة إلى ما بات يعرف في الأدبيات الغربية بالنقد التدخليّ، الذي يصحح ويمحّص المقولات الثابتة والمكرورة التي تكتسب سلطتها من القدم، ومن المؤسسات الأكاديمية.
وإذا ما حاولنا أن نقرأ أنفسنا في إبداعنا، سنلاحظ تباينات، تشي بخلل ما، يترتب – بشكل رئيس – على غياب القراءة الناقدة، وعلى حضور المسلمات التي تقف حائلا دون أي تجديد من شأنه أن يعيد وعينا بأدبنا سواء على مستوى الإبداع، أو النّقد، إنني أظنُّ أننا نعايش ظروفًا ثقافية تفضي بالمبدع والناقد معًا لأن يتنازلا عن همّ الاكتشاف فيغدوان معًا بلا قضيَّة، ويغدو الأدب – لا كما تقترح الماركسيَّة – مجرد مصفوفاتٍ لغوية ترتدّ إلى عالم – موهوم – لا يشبه عالم المبدع، فضلاً عن عالم المتلقِّي.
★ناقد ـ عمان.