رواية

شيماء مصطفى: “ابنة الديكتاتور” لمصطفى عبيد ..القروية التي خدعت المثقفين وعلية القوم وابتزتهم بسلاحها الأنثوي؟

 

شيماء مصطفى ★

الولوج إلى التاريخ السياسي الشائك فترة الخمسينيات وما قبلها عبر بوابة المذكرات الشخصية حيلة ذكية في التعامل مع هذا النوع من الطرح لاسيما أنه وحسبما ذكر الكاتب في عمله (ابنة الديكتاتور) والصادر عن الدار المصرية اللبنانية 2024 أن معظم المذكرات طُمست عن عمد.

نقمة الجمال وآفة الكتابة

يدور العمل في ثيمته الأساسية عن سناء بكاش والتي تم تجنيدها لصالح النظام  في تلك الفترة ،عبر إقامة  العلاقات مع الساسة ومثقفي الدولة وكبار رجال الدولة آنذاك ؛لتكتب التقارير بعدما تنجح في اقتحام خصوصيات ضحاياها وأعداء رجال الدولة سواء باستخدام ذكائها أو بسلاحها الأنثوي الذي لم ينج منه سوى قلة، إما لذكائهم كالعقاد ومصطفى أمين ، أو لتدخل العناية الإلهية كأحمد ناجي وأحمد نصر الدين وابنتها نادية.

لم تنتبه سناء بكاش ابنة القرية أن جمالها الآخذ ما هو إلا نقمة حرمتها من العيش بشكل سوي كأنثى ، فبرغم أنها وقعت منذ البداية ضحية لفقر وفقد في سنوات طفولتها الأولى في القرية، إلا أنها  لم تكن ببراءة الأطفال المعتادة إذ أنها ادعت حين عثرت عليها آن أنها لا تتذكر شيئًا عن قريتها ، لتنعم بالامتيازات التي حصلت عليها بمجرد دخولها البيت من ملابس ودفء وألعاب وأطعمة، فضلًا عن دخولها  متعمدةً لوكر الأوغاد  قبل عامها الرابع عشر حين  ذهبت للقاهرة والتقت بالضابط يوسف، ووافقت على العمل معه، ولا ننكر أنها كانت معتقدة أن الأمر سيتوقف عند مضاجعته، هو وغيره، وفي قرارة نفسها أنها تخدم مصالح الوطن، فهل حين راودت يوسف في بيت آن ونهل من جسدها ما نهل كانت تخدم مصالح الوطن؟ أم أنها وصولية وغدرت بمن وثقت بها؟

وعن العناية الإلهية التي جاءت لتشملها  لمرات عديدة ولتكشف تناقض شخصيتها الفج فلم تغتنم الفرصة إذ أنها كانت أول من غدر بالممرضة التي انتشلتها من الفقر وعطفت عليها حين أقامت علاقة مع الضابط يوسف رفيق الممرضة وحبيبها، ومع ذلك تدور عجلة الزمن ولم تغدر خادمتها حُسن بها حين هزمها الزمن، بل كانت حُسن معها حتى النهاية ،ومرة أخرى حين تزوجت سناء من أحمد نصر الدين واستمرت في نشاطها المشبوه اعتقادًا منها أنها تخدم مصالح الوطن وشتان بين مصالح الوطن وشهوات الرجال، فهم من صنعوها وهم من طمسوا سيرتها من سجلاتهم
” نحن نصنع النجوم، وندفنهم أيضًا متى أردنا”

وقد تقاطع اسمها سناء الذي عُرفت به  مع اسمها الأخر ثريا كما أطلقه عليها أحمد نصر الدين زوجها وأبو ابنتها الوحيدة نادية في المعنى اللغوي من حيث العلو والضوء الذي ينبثق منهما، سناء أو ثريا فكلتاهما من النجوم.

أما عن العنوان والغلاف فقد اشتركا في نقاط عدة، ولا يمكن لأحد نكران  جاذبية الغلاف بلمسات أحمد مراد والتي لم تقتصر جاذبيته على إبراز جمال أنثوي بمعايير الخمسينات  الخاطف للأنظار بل أيضًا في تواشج الألوان وكولجتها مع الديكور والإضاءة، من حيث الجريدة التي تمسك بيدها كونها شهدت ظاهريًّا أو على المستوى السياسي مرحلة انتقالية خطرة وحساسة من حيث إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية عقب ثورة يوليو، وكأن يقول أن خيوط اللعبة جميعها بيدها، فضلًا عن فنجانين القهوة أمامها فأحدهم يبدو عليه كلام مكتوب والآخر مفرغ من الكلمات في رمزية لأولئك الذين استطاعت فك شفراتهم وقراءاتهم ، أما الفنجان الخالي من الكتابة فيرمز لأولئك الذين عجزت عن قراءاتهم والوصول إليهم برغم سلاحها الأنثوي كالعقاد مثلًا.

وعن  البناء اللغوي في السرد فقد كان متعددًا إذ بدا في بداية العمل عاديًا مع الراوي الأول فيروز الصاوي حفيدة ثناء بكاش إلا أن هذا الأمر لم يستمر طويلًا، خاصة بعد ظهور  الراوي الثاني عبر المذكرات لسناء بكاش ، فقد كان فرق السرد بينهما واضحًا من حيث الأسلوب والتقنيات وهي نقطة تحسب للكاتب، ففيروز الحفيدة  لا تضاهي سناء الجدة خبرة رغم أن سناء في بدايتها لم تكتب وإنما كان هناك من يكتب لها لتنشر هي باسمها في مجلتها التي أسستها ، ومع هذا وبسبب عنصر الخبرة والتجربة تفوقت سناء في السرد عبر مذكراتها عما تسرده فيروز .

ثمة طريفة من الطرائف برهنت على مدى دناءة النفس البشرية وهيمنة البراغماتية عبر قصة الحاج الذي رجم الشيطان بالجمرات تاركًا واحدة منهن كي لا يقطع حبال الود مع الشيطان فربما يحتاجه في مصلحة ما .

وما يميز العمل أن بطلته التي اقتحمت الأوساط السياسية والثقافية حينذاك لم تكن فنانة شهيرة بل فتاة قروية من أصول بسيطة استطاعت أن تصل للمناطق المحظورة بذكاء، ولكن لم يشفع لها ذكاؤها حين استغلها يوسف ثانية ليلتقط لها صورًا عارية وهي تضاجع المعلم الذي كتب لها أغلب ما نشرت باسمها، وجراء ذلك فقدت ابنتها الوحيدة وزوجها للأبد.

الكاتب مصطفى عبيد

وعن الحوار بالعامية فقد جاء مناسبًا مع الأحداث سواء بين فيروز وصديقتها منى أو مع الجد رغم صمته فقد كان يتجاوب معها عبر لغة الجسد ، أو حتى حوارات فيروز ودكتور شديد وحسام ونبيلة داخل المستشفى التي تعمل بها فيروز، حتى حوارات سناء بكاش وكل من احتكت بهم في مجلتها الثقافية، أو في لقاءاتها مع الساسة .
وما جذبني حقًا اللحظات الفارقة التي التقت بها سناء والعقاد ، ولقاء سناء والشاعر أحمد ناجي، والنصيحة الخاصة التي قُدمت لها :
“تجنبي الوعظ فهو آفة الكتابة”

ولأن ابنة الديكتاتور كما أطلق عليها الكاتب مصطفى أمين أرادات التطهر والخلود معًا دون أن تتنازل عن اللقب ذاته، ولأن الجميع ابتعدوا عنها لم يكن هناك ملاذ يضمن لها كل هذا سوى الكتابة.
“لهذا السبب قررت الكتابة بكل صدق ، فالكتابة هي انتصاري الأخير”.

العمل خاطف منذ الوهلة الأولى ، إذ أنه بمثابة رحلة سريعة للماضي، لتؤكد لنا أن هناك المزيد من الخبايا التي لم نكتشفها بعد، فربما يكون هناك عشرات من المذكرات ، تحتاج إلى المزيد من النبش والكشف، والتي ربما تكون هي الأخرى طُمست عن عمد.


★سكرتيـرة التحريـر


مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى