د. إيمان عز الدين★
فيلم ساحرات إينشيرين The Banshees of Inisherin للمخرج الإيرلندي مارتن ماكدوناه Martin McDonaghهو أحد الأفلام المميزة للعام المنصرم (2022).
عرض في العديد من المهرجانات الدولية مثل فينيسيا، وتورونتو، والقاهرة، ورُشِّحَ، وفاز بالعديد من الجوائز مثل جائزة أفضل ممثل، وأفضل سيناريو في مهرجان فينيسيا، ثم أفضل فيلم، وأفضل ممثل في جوائز الجولدن جلوب.
ومارتن ماكدوناه الإيرلندي الذي نشأ في لندن، هو في الأصل كاتب مسرحي، كتب العديد من المسرحيات لمسارح وست إند بلندن وبرودواي بنيويورك، وأخرج قبل فيلمنا هذا ، عدداً من الأفلام من أشهرها، “في بروج” In Brugesوثلاث لوحات على الطريق خارج إيبنج ميسوري” Three Billboards outside Ebbing, Missouriوهكذا، ومن خلال معرفتنا بالمخرج وأعماله، نستطيع القول إن هناك ما هو أعمق مما يمكن أن نراه عل السطح، فحكاية الفيلم تبدو مضحكة، وهي عن صديقّي العمر المزارع بادريك (Colin Farrel) Pádraic وعازف الكمان كولمColm (Brendan Gleeson) اللذين يعيشان في جزيرة نائية قبالة الساحل الإيرلندي الغربي ، وتبدأ الحكاية بقرار كولم مقاطعة صديقه بادريك بدون إبداء أسباب، وتأثر الأخير بهذه المقاطعة غير المفهومة، وربما يتعجب المشاهد من مسألة تناول ومناقشة عملية انفصال علاقة بين صديقين، وليس بين رجل وإمرأة ، وهو الأمر الأكثر شيوعاً واعتيادية، ولكننا سنعرف أن الأمر لا علاقة له بالمعتاد أو نقيضه ، ولكن علينا أن نوسع زاوية الرؤية لنرى أبعاداً أخرى.
يرى كولم أن بادريك أقرب إلى بسطاء العقل والحمقى والثرثارين المملين، وهو لا يريد أن يضيع ما تبقى من عمره في سماع ثرثرة بادريك السخيفة، فكولم يريد أن يكرِّس جل وقته وطاقته لموسيقاه، ويؤلف عملًا يعزف بعد مماته بمئات السنين ويخلده، ولذلك يطلب من بادريك أن يتركه وشأنه. ونظراً لأن بادريك لا يستسلم بسهولة، يهدده كولم بأنه في كل مرة لا يمتثل فيها بادريك لهذا الأمر سوف يقطع كولم إصبعاً من أصابعه، وهكذا نبدأ بعملية بتر لعلاقة صداقة دامت عشرات السنين، لننتقل لعملية بتر أخرى، ينفذها كولم على أصابعه، التي يحتاجها بالضرورة في عزفه على آلة الكمان، ولكن نظراً لأن الجزيرة، مسرح الأحداث، يقطنها عدد قليل من السكان، وبها بار واحد، ومحل واحد لشراء المستلزمات اليومية، وكنيسة واحدة، فكيف لأحدهما أن يتجنب الآخر؟
يخدعنا ماكدوناه بالمشهد التأسيسي للفيلم حين نرى، من زاوية مرتفعة مع انسيابية حركة الكاميرا، تصحبها الموسيقى الفلكلورية الإيرلندية، الجمال المتمثل في الجزيرة، والسلام المتمثل في تمثال السيدة العذراء مريم، والمشهد العام الدال على الرحابة والخير والنماء.
مع هذه الرحابة تتسع الرؤية فندرك أن الخلفية هي الحرب الأهلية الأيرلندية، إذ نسمع دوي المدافع، بشكل متقطع، على الجانب الآخر من الجزيرة، ونرى كذلك دخان بعض الانفجارات.
تعلق بعض الشخصيات من حين لآخر على ما يرون ويسمعون، صراع يأملون ويعتقدون أنه سينتهي قريباً، المهم، أنه لا يؤثر عليهم بشكل مباشر في الجزيرة، في حين يهتمون بشكل أكبر بالخلاف، والانفصال بين بادريك وكولم.
تشير إحدى لقطات الفيلم أن أحداثه تدور في عام 1923 أثناء احتدام الصراع بين الأخوة في الحرب الأهلية، جزء من التاريخ الطويل للنزاع والعنف في أيرلندا بسبب الآراء المتناقضة حول الحكم البريطاني للجزيرة. وقد بدأت الحرب الأهلية بعد حرب الاستقلال الأيرلندية التي تبعتها معاهدة أن تصبح أيرلندا الحرة المستقلة جزءاً من الكومنولث البريطاني، وظل الصراع بين أنصار الاستقلال التام عن التاج البريطاني، وبين الذين لايجدون غضاضة في المعاهدة التي تؤدي إلى الاستقلال مع بقائها في معية التاج.
يلتحم عنوان الفيلم وعتبته الأولى مع اسم المقطوعة الموسيقية التي ألفها كولم، وكان الثمن هو القطيعة مع صديق العمر، وبتر أصابعه، ويلتحم كذلك مع التراث والفولكلور الأيرلندي في وجود الساحرة التي تتنبأ، وتنذر بموت أحد الأقرباء، وهو ما أفصحت به السيدة ماكورميك Mrs. McCormick (Shella Flitton) المرأة العجوز التي تدخن الغليون وشبيهة ساحرات ماكبث لشكسبير، والتي يتجنبها بادريك كأنها الطاعون.
يخلق ماكدوناه خطاً درامياً فرعياً عن طريق شخصية دومينيك Dominic (Barry Keoghan) الأصغر، والأكثر استنارة وتعليماً من بادريك، ولكنه تعيس ببنوته للشرطي الفظ، ممثل السلطة في الجزيرة.
يؤثر دومينيك في تصاعد الخط الدرامي العام بالتأثير على بادريك باستحالة تنفيذ كولم لتهديده ببتر أصابعه ، وأن كل ما يريده هو “قسوة في الحب” على حد تعبيره، ونظراً لبساطة عقل بادريك ، وسذاجته يقتنع بهذا الأمر وهوما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع ، يتوازى ذلك مع وجود شخصية الأخت، أخت بادريك (Kerry Condon) وهي أكثر أهل الجزيرة تعليماً وقراءة، وهي الوحيدة التي ترفض الجزيرة “برجالها المملين” على حد قولها، وتغادر لتعمل في المدينة، والأخت هي أيضاً الوحيدة التي نراها قادرة على التعامل مع السيدة ماكورميك/ الساحرة المتنبئة بالموت التي تخبرها بأن هناك اثنان سوف يموتان.
ورغم تردد السيدة ماكورميك فيما يخص ثاني الاثنين إلا إننا نعرف لاحقاً سبب هذا التردد، فأحدهما هو دومينيك الذي يبدو أنه غرق في مغامرة من مغامراته أو ربما انتحر، لا أحد يعرف، أما الثاني فهو جيني حمار بادريك الصغير المدلل، وكان موته أداة لتحول شخصية بادريك تجاه كولم، فموت جيني/ الحمار كان سببه أصابع كولم المبتورة، والملقاة في ساحة منزل بادريك، ورداً على موت جيني كان الانتقام بحرق منزل كولم، مع التأكيد على إصرار بادريك إبعاد كلب كولم عن مكان الانتقام.
الصديقان يتصارعان ويؤذيان نفسيهما وبعضهما البعض، كما يحدث على الجانب الآخر، ولكن يظل بادريك بسيط العقل محتفظاً بالجزء الأكبر من إنسانيته، حتى في ذروة رغبته في الانتقام، ويبتعد بالحيوان الأليف رفيق رحلة كولم.
يلعب ماكدوناه على المراوحة بين ما هو مضحك وكوميدي ساخر، وبين ما هو حزين يثقل القلب والروح، ويغزل ويضفر ببراعة، ويعدل ويبدل في رؤيتنا للشخصيات والمواقف، فهل هي الحرب، وخاصة إذا كانت بين الإخوة والأصدقاء؟
يبدو أن الأمر كذلك، وبخاصة أنه احتفظ بالعتبة الأولى، عنواناً لمقطوعة كولم الموسيقية، التي يود أن تُخَلِّدَ اسمه، وما هي إلا المتنبئات بالموت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ استاذ الدراما والمسرح بـ جامعة عين شمس ــ مصــر