موسيقي

ا.د. رانيا يحيى: حين تكون الأغنية سهم في قلب العدو

المسيح وزهرة المدائن.. القوة والخلود

ا.د. رانيا يحيى★

نصبت الأغنية نفسها عبر الأزمنة المختلفة، شاهداً على عصور تحمل رؤى فكرية وفلسفية متباينة، فالغناء من أهم وسائل التعبير الموسيقي لدى الشعوب العربية التي ارتبطت بهذا النوع من الفنون بشكل مباشر منذ أزمنة بعيدة، ودائماً ما نجد الغناء معبراً عن ظروف الشعب وآماله وأحلامه، بل وأيضاً انعكاسات لكل ما يحيط به من أوضاع سياسية واجتماعية متغيرة، كما تلعب الأغنية دوراً بارزاً في التأثير على سيكولوجية المستمع ومخاطبة وجدانه، بالإضافة لما تقوم به الأغنية الوطنية من إشعال الحماسة وإلهاب الشعور بالمسئولية الوطنية، وتفشي الأمل الذي يتولد عنه رفع الروح المعنوية لدى المواطنين.. وقد استطاعت الأغنيات الوطنية أن تخاطب الوجدان العربي في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لما مررنا خلالهما من أحداث أثرت على شكل الأغنية سواء فردية أو جماعية، ووجهت الجماهير العريضة في الوطن العربي لحمل قضايا الأمة بشكل عام، دون تحيز لنظام أو فصيل سياسي معين، يحمل بين جنباته فلسفة سياسية بعينها، لكن عمدت الأغنية بصدق عناصرها المشتركة لتوحيد العالم العربي تجاه قضية العروبة ،وتوجيه الأنظار لفكرة القومية العربية، واتحاد العالم لمواجهة الغرب المستعمر الغاشم باستخدام إيقاعات وألحان بسيطة بقيت في الذاكرة، بأصدق الكلمات والمعاني التي عبر عنها شعراء عاشوا اللحظة، فخرجت إبداعاتهم وليدة مواقف سياسية وطنية لا تزال خالدة ، وتخضع للأبحاث والدراسات، لما حققته من نجاحات على كل المستويات، ولا يمكن أن نغفل دور المطربين العظماء في هذه الفترة، والذين حملوا قضايا أوطانهم، وكانت لهم مشاركات سياسية بما قدموه على الساحة، من فن وعطاء للوطن الأم، وتغليب المصلحة العامة على مصلحتهم كأفراد، فعاشت أغنياتهم بما فيها من قيمة فنية ثرية مترجمة للحالة الشعورية، لما يجول في أواصر هؤلاء البشر في مجتمعهم.

ما بين الفن والسياسة

وكان للأحداث السياسية تأثير مباشر على الفنون، لأن العلاقة بين الفن والسياسة علاقة تبادلية، فكما يتأثر الفن بالأحوال السياسية المحيطة بنا، أحياناً يكون الفن هو المحرك الرئيس لصناعة الحدث السياسي.. وعلى رأس قائمة هذه الفنون تأتي الموسيقى بأشكالها وأنواعها المختلفة، ولكن بالطبع تعتبر أبسط وأقرب ألوان الموسيقى للجماهير، هي الأغنية لما فيها من لغة قد تقترب من العامة، وتجعلها أكثر اتصالاً بهم، وأيضاً لما تتمتع به من قدرة على تقديم رسالة هادفة، تحوي كثيراً من المبادئ والقيم النبيلة، خلال الدقائق المعدودة التي تقدم خلالها الأغنية بكل عناصرها؛ فكانت انعكاساً للواقع، وما يدور في المجتمع من مستجدات.

ونظراً لأهمية القضية الفلسطينية ــ التي باتت بالأحرى شغلنا الشاغل منذ اغتصابها والاستيلاء على مقدراتها عام 1948 ونحن نعاني ــ على كل المستويات، وبالطبع أخذ الفن مسارات عدة، للكشف عن تلك المعاناة، فكانت المحرك والمحفز لطاقات إبداعية، خرجت للنور من رحم الألم، والجرح الغائر في نفس كل عروبي أصيل، فنجد واقعنا أشد قسوة وضراوة، ما أفرغ على مبدعينا أحاسيس ودلالات أفرزت أروع ما يمتلكوه من مشاعر صادقة، فاضت بِعِبَر الواقع المأساوي، حاملة شغفاً لتحقيق الآمال والأحلام المشروعة، من أجل وطن آمن يسوده السلام والرخاء والحرية، فنجد أغنيتين اثنتين من أروع ما عَبَّرَا عن هذه القضية، ولامست عقول وقلوب كل من يدنو لسماعهما.

المسيح

الأولى أغنية “المسيح” عام 1967، والتي مزجت بين المشاعر الوطنية والدينية داخل بوتقة واحدة، للعندليب الراحل عبد الحليم حافظ بصوته الشجي الحزين، الذي ألهب الملايين من المصريين والعرب بأدائه الفني والغنائي الراقي، وباللحن البديع لبليغ حمدي، والتوزيع المتميز لعلي إسماعيل، وتغنى بها في قاعة ألبرت هول بلندن، بعد هزيمة 1967 أمام ما يقرب من ثمانية آلاف مشاهد، وتبرع بأجرها لصالح المجهود الحربي.

عند سماع هذه الأغنية تشعر، وكأنك أمام عمل أوركسترالي ضخم، حيث تمتزج هذه الكتابة الأوركسترالية الاحترافية، بالألحان العبقرية لتخرج لنا لوناً بديعاً ومميزاً، وخاصة مع ما تحمله معاني الكلمات المؤثرة التي كتبها الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، والذى شبه فيها الأحداث السياسية، والمشاعر الوطنية المؤلمة لأبناء دولة فلسطين الشقيقة بآلام السيد المسيح عليه السلام، وكانت تعبيراته اللفظية تزيد من هذا الإيحاء والإيهام بالعذاب وتجسد الألم ..كما استخدم بعض الألفاظ التي ترتكز عليها العقيدة المسيحية، مثل المسيح والصليب وتاج الشوك وتراتيل الكنائس، وهو ما كان له دلالة مؤكدة على المعايشة في الحدث، وانعكاس هذه الحالة على المتلقي ..وكان اللحن يستخدم أحياناً لتقوية بعض المقاطع الكلامية، للتأثير على السامع كما في بعض المفردات اللغوية، منها ألمه، ونزف المسيح وطريق الألم؛ وذلك لخلق جو نفسى به رهبة، وغلظة للحدث.

ووزعت هذه الأغنية أوركسترالي في مقام العجم، وهو السلم الماجير في السلالم الغربية، والذي يتناسب مع طبيعة تلك الآلات الغربية، ويتضح تأثر علي إسماعيل وعبقريته، في المزج بين الموسيقى الشرقية والغربية في جديلة متناغمة، أعطت العمل مزيداً من الثراء والفخامة، وتبدأ الأغنية بمقدمة أوركسترالية بطيئة من الوتريات في موتيفة إيقاعية قصيرة ومتكررة، تعطي إيحاء بالرهبة مع وجود صوت الأجراس التي توهمنا بأجواء الكنيسة الأوربية الكاثوليكية، ونستمع لنغمات متفرقة من الكي بورد مع همهمات الكورال، ثم يدخل الناي المنفرد مباشرة في أداء حر، وتتكرر التيمة مرة أخرى مع مقاطع اعتراضية من النحاس، تمهيداً لدخول النص، وتدخل آلة البيكولو إحدى آلات الأوركسترا في سلالم تصاعدية متكررة في كل مازورة من الزمن الرباعي، ويتصاعد اللحن إلى أن يتوقف، ليدخل الغناء الحر لحليم والوتريات، مجرد خلفية بسيطة جداً للغناء، ثم تدخل آلات النفخ مع الوتريات مجتمعة بقوة في صمت الغناء، بأداء ضربة إيقاعية منغمة، وتتكرر الجملة اللحنية مرة أخرى، وبعد طبع المسيح قدمه تؤدي الوتريات مصاحبة بأسلوب النبر المتقطع، وعند التكرار زخارف لحنية بالغناء ..ومع لفظة تراتيل الكنائس تدق الأجراس، ويليها تيمة لحنية أوركسترالية، تنتهى ويدخل الغناء في تغيير إيقاعي وزمنى ولحن أكثر شجنية وشرقية، وهو يتساءل لإمتى لإمتى؟ وتؤديه الفرقة والكورال، وتظهر الآلات الكهربائية الكي بورد والبيز جيتار مع الوتريات.. وعند كلمة مسيح وراه مسيح آلات النفخ النحاسية تتصاعد من الخلفية، وينتهي هذا الجزء، لتبدأ تيمة لحنية جديدة أكثر رشاقة من الوتريات، ويظهر التوزيع البوليفوني لعلي إسماعيل بين الوتريات والنفخ النحاس، وتنتهي الأغنية بكلمات ابنك لازم يعود، وقفلة تامة من الأوركسترا كامل مع السيمبال الإيقاعي، ويتبعها تصفيق حاد من جمهور الحضور، وحينما تسمعها الآن تشعر بالرغبة في التصفيق لكل من شارك في هذا العمل العروبي، الذي ينبغي تقريبه من الأجيال الجديدة، وتعريفهم بقيمته الفنية.

زهرة المدائن

الأغنية الثانية من أروع ما كتب وغُنِّيَ معبراً عن وجعنا بالقدس المحتلة، وهي أغنية زهرة المدائن التي غنتها صاحبة الصوت الملائكي السيدة فيروز، والتي أطلقت عليها سفيرة في محراب الفن، حيث نشعر بدفء صوتها أنه قادم من عنان السماء، بما يكتنفه من حلاوة الإيمان، وقدسية التعبد، وملائكية الترتيل بالألحان والإيقاعات المختارة بعناية، ما جعلها قريبة لنفوسنا، وتحيا في وجداننا.. الحقيقة هذه الصنيعة البديعة من أقرب الأعمال إلى قلبي، بكلماتها غير التقليدية، ولحنها الرائع، مع الصوت الساحر بامتلاكه الإحساس والشجن والصفاء، صاحبة المدرسة الفيروزية في الغناء؛ لازالت حية رغم مرور كل هذه السنوات منذ عام 1967، وهي محفورة في وجدان كل الأجيال، لأنها أهم وأصدق ما عبر عن القدس الحبيبة، وألف كلماتها ولحنها الأخوان الرحباني، وكانت اختياراتهما للمقامات، تعكس معرفة ودراية حقيقية بطابع كل مقام،  ما يدعم الحالة الشعورية، وكانت الأغنية في مقام (النهاوند) وهو من المقامات الشرقية ومقابله في الموسيقى الغربية (المينير)، في شرقيته يتسم بالرقة في كثير من الأحيان، وفى نفس الوقت يعبر عن الضعف والخشوع والشجن، وتم استخدامه هنا، ليعبر عن القدسية والصلاة، والأغنية موزعة أوركسترالياً بشكل بديع، يعطينا إحساس الرهبة والقدسية، مع سيطرة مشاعر متعددة ما بين التمسك بالقدس، والخوف والقلق على مصيرها، وإصرارنا على عدم التفريط في أرضنا، ونجد الموسيقى زاخرة بالتنوع، وتعبيرات رائعة وجديدة على الموسيقى العربية، حيث قدرة الأخوين الرحباني بتوظيف آلات اوركسترالية غربية، مع جو غنائي شرقي أصيل من الكورال الداعم للصوت الصادق والنابض للسيدة فيروز، ما أوضح هذا المزيج المتناغم في جديلة من المشاعر الإنسانية الراقية.

وتبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية تمهد لنا الحالة العامة في حالة من الخشوع تعبيراً عن (القدس) باستخدام آلة (الكي بورد) واختيار صوت صافٍ نقيٍ واضح، بنغمات حالمة رقيقة، ثم تردد الفرقة الموسيقية الوتريات بنفس الشجن، لتدخل آلات النفخ الأوركسترالية النحاسية بمنتهى القوة في الخلفية، في حوار رقيق بين هذه الآلات  الشاعرية الحالمة في الوتريات، يقابلها القوة والصمود في آلات النفخ النحاسية، لتدخل السيدة فيروز بصوتها الساحر في مناجاة تعبدية داخل محراب القدسية، بما يكتنفه صوتها من وجع وألم، وفى ندائها للقدس نستشعر، وكأنه جزء منها، تناجيه وتناديه، في تشبيه رائع، وكأن القدس إنسان يسمعها، وتنتظر رده.

ومع مقطع (لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي) نجد السيدة فيروز تغني كلمة (الصلاة) باستخدام حرف المد، بخشوع لتعبر عن الصلاة.. ومع لفظة (أصلي) نجدها مع قفلة تامة، أي درجة الركوز للمقام، وما توحيه في النفس بالشعور بالنهاية والاستقرار والهدوء، وكأنها وصلت لغايتها بطمأنينة حين تبلغ الصلاة، وغناؤها في تصاعد، والموسيقى مجرد خلفية لهذا الصوت الشجني الجاذب، لكلمات معبرة ومهمة للتأكيد على المعنى، ودخول الكورال رجال ونساء مقصود ليعكس الشعور الجمعي للوطن العربي كله، وخلفية الغناء للتدليل على الوجع والحسرة، وحين ننتقل لهذا التعبير الجمالي (لأجلك يا بهية المساكن.. يا زهرة المدائن.. يا قدس) يستمر اللحن في نفس المقام، مع اختلاف في أسلوب الاداء الغنائي، حيث نلحظ الركوز على الحرف الساكن، وهو حرف النون في كلمات (المساكن …. ثم المدائن) وهنا يتضح في الأداء درجات الركوز بوضوح، كما نلحظ تكرار كلمة (يا قدس) ثلاث مرات، بشكل تصاعدي في الأداء، فالتكرار لتأكيد المعنى وتقويته، وأثناء أدائها فى وصف القدس (يا بهية المساكن.. يا زهرة المدائن) نجد الأداء يتسم بالقوة والاعتزاز والفخر.

ومع شطرة البيت القصيرة والصغيرة (عيوننا إليكِ ترحل كل يوم) ينتقل اللحن لمقام الحجاز، بما فيه من حزن وشجن أكثر من مقام النهاوند، والعبقرية هنا من الأخوين الرحباني للتعبير عن الحزن على ما أصاب القدس،  ثم تنتقل بسرعة لمقام آخر في غناء (تدور في أروقة المعابد … تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد) وهو مقام الكرد، وفى كلمة المعابد، يتضح الخشوع الممزوج بنعومة شديدة في أداء السيدة فيروز، أما مقطع (تعانق الكنائس القديمة) تتضح النغمات الموسيقية، وتقطيعها بسلاسة ووضوح، وكأنها تؤدى من خلال آلة موسيقية، ويقوم الكورال بترديد نفس المقطع بشكل جنائزي، كأنها ترانيم كنسية، لتعميق هذا الإحساس ولفت الانتباه بوجود اتفاق جماعي، وفى عبارة (وتمسح الحزن عن المساجد) تعكس حالة الخشوع التي تجسدها كلمة المساجد كما كانت من قبل في المعابد، بنفس اللحن وبنفس الأداء، ونلاحظ هنا أداء السيدة فيروز الغربي في حروف المد بشكل واضح، بتدوير الصوت في أداء هذه الحروف، ما يعكس بعداً جمالياً حسياً، أيضاً نلاحظ في غنائها لمقطع (يا ليلة الإسراء.. يا درب من مروا إلى السماء) تبدأ بمناجاة ومناداة تستحلفها لتكون ليلة الإسراء شفيعاً لعودة القدس، يختتم الجزء الأول (عيوننا إليك ترحل كل يوم، وإنني أصلي) بتكرار للجملة، ونفس النهاية بقفلة تامة في كلمة (أصلي) للتعبير عن الخشوع والطمأنينة والاستقرار، الذي يعقب الصلاة وانعكاساتها على النفس البشرية، في أي من الأديان.

يعتبر هذا الجزء التمهيد الحقيقي للجزء الثاني الذي يمثل قمة الإبداع بتصاعده رويداً رويداً، والذي يستهل بصولو فلوت، بصوتها الرقيق الحالم، ثم حوار متبادل من الوتريات، ويصاحبها ضربات بسيطة رنانة من آلة المثلث الإيقاعية، واللحن راقص بإيقاع رشيق، لنستشعر الفارق ما بين حالة مستقرة قبل الاحتلال، واستطاعت الموسيقى أن تعبر بالتوزيعات الآلية الرائعة الكثيفة، وبالهرمونيات البديعة لتوصيل إحساس القسوة والدمار الذي نعاني منه، فمثلاً (الطفل في المغارة.. وأمه مريم … وجهان يبكيان … يبكيان) فى مقام النهاوند بشجنيته وإحساسه الدافئ، وتحديداً (الطفل في المغارة، وأمه مريم) نلاحظ أن الأداء أشبه بالهدهدة للتعبير عن الفرح والنشوة لدى الأم، وهي تحمل طفلها وتهدهده، وفجأة تغني (وجهان يبكيان ….) بقوة وكأنها تطرح تساؤلاً وتعجباً، يحويان كماً من الحزن والألم، وفي هذا الجزء من الأغنية الآلات المصاحبة رقيقة تتماشى مع الكلمات، وضربات المثلث تعطى بريقاً في الصوت، بجانب آلات النفخ الخشبية المرافقة للوتريات، وتنتهي منه السيدة فيروز بتصاعد على كلمة إنني أصلى، بمصاحبة الفلوت.

ومع الانتقال لمقطع (لأجل من تشردوا.. لأجل أطفال بلا منازل.. لأجل من دافع واستشهد في المداخل) ينتقل أيضاً المقام الموسيقي من النهاوند إلى الحجاز، الأكثر حزناً ليعبر عن الكلمات، والأداء الغنائي يتضمن سؤالاً وتعجباً في نفس الوقت (لأجل من تشردوا؟!) إحساس السيدة فيروز يتصاعد، وكأن بداخلها ثورة، بتلاحق الجمل والمقاطع الغنائية بشكل متتالٍ، بدون لزمات أو فواصل موسيقية للتأكيد على الدهشة، وأسلوب غنائها الغربي بشكل واضح بدون تطريب، حيث الصعوبة في القدرة على الأداء بإحساس عالٍ، والتعبير عن الكلمة.

وتستمر الموسيقى في مقام الحجاز عند مقطع (واستشهد السلام … في وطن السلام.. وسقط العدل على المداخل)، (حين هوت مدينة القدس.. تراجع الحب وفى قلوب الدنيا استوطنت الحرب) ومع (واستشهد السلام) تعبر عن الأسى والحزن، ثم تنتقل للقوة مع (وسقط العدل على المداخل) وكأنها تؤكد أن العدل سقط، فتفزع من هذا السقوط، وخاصة للعدل الذي يضيع معه الأمان.

وننتقل لملحمة غنائية (الغضب الساطع آت.. وأنا كلي إيمان.. الغضب الساطع آت.. سأمر على الاحزان.. من كل طريق.. آت.. بجياد الرهبة.. آت) في مقام العجم، والأداء بقوة تعبيرعن الغضب، وتأكيد على الثورة، التي يدعمها التكرار أكثر من مرة، بالتداخل مع الكورس الغنائي، وأداء كلمة (آت) بتسلسل سلمي صاعد مع آلات النفخ النحاسية الغربية بقوتها، يدعم الحالة الشعورية بالانتفاضة من أجل التمسك بالأرض، والأداء الغنائي بأسلوب غربي، كان أكثر تعبيراً عن قوة هذه التعبيرات، فكلمة (الغضب الساطع) تعبير في منتهى البلاغة، لأن السطوع يعبر عن الوضوح والإشراق، فكيف يكون غضباً وساطعاً!! وهنا قمة البلاغة في التأليف، فكان من الممكن (الغضب القادم) ولكن القصدية البلاغية والجمالية، أن هذا الغضب ساطعٌ أي مرئيٌ من الجميع، ليس فقط، بل أيضاً سيأتي معه الأمل والإشراقة مثل سطوع الشمس في إشراقة كل صباح، لتمحو ظلمة الليل، وكان التوظيف الموسيقي للكورال مؤكداً على هذه البلاغة الكلامية موسيقياً، حيث الحوار المتكامل بين السيدة فيروز وهي تقول (الغضب الساطع) فيأتي الكورال بمنتهى القوة (آتٍ) معبراً عن الحشود الجماهيرية العريضة، من أقضاها إلى أقصاها في وطننا العربي المؤمنين بهذه القضية، فتكمل بعدها (وأنا كلي إيمان) لليقين بالله على قدرته في ردِّ المظالم، والإيمان بقوة وعقيدة جيوشنا وشعوبنا التي نزفت من أجل هذه الأرض المباركة، وبعدها ينتقل الحوار معكوساً بين المطربة والكورس في تبادل للأدوار، مؤكدين على أن الثورة واحدة، والغضب واحد لدى الجميع، وسيتم التكاتف لاسترجاع هذا الحق المغتصب.

بعد كل هذا الغضب تؤكد على معنى آخر، أن أبواب القدس ستظل مفتوحةً، ولن تقفل، وسنذهب لنصلي في (لن يقفل باب مدينتنا.. فأنا ذاهبة لأصلي.. سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب)، كما تؤكد بضرورة إزالة آثار القدم الهمجية (وستغسل يا نهر الاردن وجهي بمياه قدسية.. وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية) ومع (آثار القدم الهمجية) يحدث تبطيء في الإيقاع متعمد، للفت النظر إلى همجية المستعمر، ثم العودة إلى مقطع (الغضب الساطع آت) وكأن هناك توعد مستمر، أما (وسيهزم وجه القوة.. البيت لنا.. والقدس لنا..  وبأيدينا سنعيد بهاء القدس.. بأيدينا للقدس سلام) في كلمات (وسيهزم وجه القوة) نغمة واحدة على العجم في تأكيد على الصمود والثبات، كما يتضح سلاسة الانتقال من أسلوب الأداء الشرقي بتطريبه وزخارفه وحلياته الصوتية في (البيت لنا والقدس لنا) ويليها الانتقال بسرعة إلى أسلوب الأداء الغربي الواضح (وبأيدينا سنعيد بهاء القدس) في تسلسل سلمي صاعد، مع قفزات لحنية تساعد في خروج الصوت المستعار، وبقفلة تامة واضحة، وبمصاحبة الكورال بمنتهى القوة والصمود.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

رئيس قسم فلسفة الفن وعلومه بـ أكاديمية الفنون ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى