سينما

منى علي: “وداعاً چوليا” الفيلم الذي قلب الموازين؟!

منى علي ★
ضمن فعاليات مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في دورته الثالثة عشرة، عُرض الفيلم السوداني “وداعاً جوليا”، الذي تدور أحداثه في إطار من التراجيدية الإنسانية، وتحكي قصة انفصال الجنوب عن الشمال ، وتبدأ أحداث الفيلم بمَشاهد عنيفة، يقوم فيها مواطنون سودانيون بحرق وتدمير ممتلكات مواطنين سودانيين آخرين، لأنهم مختلفون في الهوية الدينية، ثم يتضح لنا من خلال تتابع الأحداث، خلفيات الصراع القائم ما بين الشماليين الذين يدين أغلبهم بالإسلام، وما بين الجنوبيين المسيحيين.

نرى داخل بيت أسرة سودانية شمالية تفاصيل مؤلمة، عن علاقات الصراع القائم ما بين أبناء الشعب الواحد، فنرى في بيت منى ( الفنانة إيمان يوسف) وأكرم ( الفنان نزار جمعة) نموذجاً للصراع بينهما وبين جوليا ( الفنانة سيران رياك)، التي قامت منى بتوظيفها في المنزل، بعد ما تسببت هي وأكرم في مقتل زوجها، وذلك للتخلص من عقدة الإحساس بالذنب، فكان أكرم يرى أنها مسيحية من أصل إفريقي، وبالتالي فهي أقل شأناً منه هو وزوجته، لأنهما مسلمان من أصل عربي، وتقوم منى بتخصيص أطباق وأكواب لها هى وابنها، حتى لا يأكلا من نفس أطباقهما هي وأكرم ، ثم نذهب بالصراع خارجاً إلى مدرسة دانيال، الطفل الذي شغل حيزاً كبيراً في حياة منى وأكرم، وكان عوضاً عن عدم الإنجاب بالنسبة لهما، إلا أن أكرم كان على الرغم من المَشاهد، التي تُظْهِر حبه وفرحه بوجود دانيال، فقد كان لا يرى ضرورة في وجوده داخل المدرسة، والأفضل له أن يلازمه في ورشة الأخشاب، فكان يرى أن هذا مكان طبيعي له، لأن دانيال لن يكون دكتوراً أو سفيراً، وهو بالضرورة لن يندمج مع الأطفال في المدرسة، لأنهم من مستوى مختلف عنه.


ومن خلال لغة سينمائية ثرية بالرموز، يخبرنا المخرج والمؤلف “محمد كردفاني” عن خلفيات الصراع، ولكن ليس بشكل خطابي مباشر، على الرغم من أن الفيلم يقدِّم معالجة لقضية سياسية، نجد “كردفاني” يعرض لنا قضايا كبري، كالعنصرية والكبت والحب، بين الأصدقاء والأزواج، لكن من خلال عرض لحالات إنسانية شديدة الخصوصية، وهو ما يُعَدُّ من نقاط القوة بالفيلم، فنرى الكبت الذي يعاني منه الأفراد في السودان، من خلال منع أكرم لزوجته من ممارسة الغناء، وهو الموهبة التي تتقنها بشكل كبير ،وتشعرها بالسعادة، و التضحية التي تتكشف لنا عند معرفة أن جوليا كانت على علم أنها تحيا بمنزل قاتلي زوجها، ولكنها آثرت عدم الانتقام، كي يضمن ابنها بيتاً آمناً يعيش فيه، وتظل منى تساعدها وتدعمها، لإكمال تعليمها بالمدرسة، ثم الجامعة، لتحقق حلمها، الذي منعها عنه الفقر، الذي كانت تعانيه بعد فقدان زوجها.

وفي المشهد الأخير، يكشف لنا المخرج بكل براعة عن المستقبل المجهول، الذي ينتظر جوليا بتصوير السفينة، التي تم تهجيرها على متنها لمكان بعيد عن الخرطوم، الذي نشأت فيه، وظلت تدافع عن وحدة البلد، حتى لا تغادره، وهى عائمة في وسط النهر دون وجود بر ترسو إليه داخل الكادر، وتصوير دائرة الكره اللامتناهي من خلال مصير دانيال الصبي الصغير، الذي كان يتعلم داخل مدرسة للغات، وقد أزاح عنه الانفصال والعنف المسلح ثوب الطالب، ليُلبسه ثوب المحارب، وهو لم يشب عن الطوق بعد، ومن خلال تسريب المياه في سقف المنزل، الذي تدور فيه الأحداث، الذي هو نموذج مصغر للسودان، يضم تحت سقفه المتهاوي أكرم ومنى، وجوليا ودانيال، للدلالة على ما تتعرَّض له البلد من الانهيار، من آثار التفتت والتمركز، حول الهويات الطائفية.


تُظْهِر الصورة تأثُّر المخرج بالمدرسة الإيرانية في الإخراج، ويُحسب له حُسن اختيار، وتوجيه المُمثلين، واختيار تكوينات الصورة، وهو لازال يخطو أولى خطواته، بتقديم أول عمل سينمائي له بمستوى رائع، يدنو من المستويات العالمية، على الرغم من قلة الإمكانيات.
حصد الفيلم جائزة أفضل فيلم في مهرجان الاقصر للسينما الإفريقية، ومهرجان بغداد السينمائي الدولي، والعديد من الجوائز، ونال استحسان الجمهور والنقاد عند عرضه في دور السينما ، وتم عرضه بمهرجان كان، ووصل لترشيحات جائزة الأوسكار.


وفي النقاش المفتوح الذي عقب عرض الفيلم بمهرجان الأقصر، صرَّح بطل الفيلم نزار جمعة، أنَّ من أصعب المَشاهد التي قام بتمثيلها، هي المَشاهد التي كان يصف فيها جوليا، والجنوبين الآخرين، بأوصاف عنصرية، وأنه كان يلعب دوراً بعيداً تماماً عن شخصيته الحقيقية.


★ناقدة-مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى