شعر

محمد سالم القاضي: ما الذي يدعو المتعبين الى اللعب؟

بناء الرؤية في قصيدة البرغوثي في افتتاح كأس العالم

محمد سالم القاضي★

ما الذي يدعو المتعبين إلى اللعب؟ ما الذي يدعو الحزين إلى الغناء؟

وما الذي يأتي بشاعر مثلي إلى احتفال كهذا؟

اللعب.. زيارة قصيرة إلى عالم بديل

ساعتان من المساواة والعدل

فلا ترى فريقاً يلعب بأحذية نفاثة مثلاً وفريقاً حافياً

ولا فريقاً مسموحاً له بالركض في طول الملعب وعرضه

وآخر يحتاج لاعبوه تأشيرات ليجتازوا خط الوسط

وعندما تكون الكرة في الميدان فالتسديد مسموح به للفريقين

وفي النهاية يبقى الجميع بصحة جيدة، لم يسل إلا العرق، ولم يعلُ الصراخ إلا تطوعاً

ليست هذه لعبة يا سادة

هو شيء تقترحه هذه البلاد والشعوب

بل لم تزل تقترحه البشرية على نفسها منذ كانت

حلمٌ عمره ساعتان، وعمره الأبد

يقترب كلما حاولوا إبعاده.. هذا الذي يدعو المتعبين إلى اللعب

وهذا هو الفوز الحقيقي في نهاية المطاف

يفتتح الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي هذا النص بقوله: ما الذي يدعو المتعبين إلى اللعب؟، ولا شك أن هذا الاسلوب الانشائي خلع على الموقف الشعري بعداً اقناعياً، يقتضيه موقف خطابي بهذا الشكل، فدخل الشاعر بتؤدة إلى فضاءات الشعر، وهو يحلق وينسق مشاعره وينظمها، وقد تخلص من عباءة القافية والروي الضاغطين اللذين لا مناص منهما في فضاء المناسبات.

الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي

وقبل أن ندخل إلى صلب النص، لجلو بعض القضايا الفنية التي تعكسها حمولته الدلالية والفكرية، لابد من العودة إلى إشكالية “المناسبة” التي شكلت على مر الشعرية العربية، وفي العصر الحديث رافداً يستمد منه الشعراء تأشيرة التعبير عن بعض المواقف، فتأتي قصائدهم تعبر أكثر مما تشير، لا تتجاوز في بنيتها السطحية تعلقاً بالمناسبة، وتخليداً لها ضمن نزعة تقريرية، تكتفي بتتبع الموضوع في دائرة جزئية يغيب عنها وضعه في سياقات دلالية موحية.

لنا مثلاً أن نتأمل في نص فرض نفسه على الذهنية الشعرية، قصدوا الرياضة لاعبين وبينهم كرة تراض بلعبها الأجسام، هنا يتعمق حضور جاذبية التراث في النص مبنى ومحتوى، فيتحول التعبير إلى إعلاء سقف الترفيه، وكأن غاية معروف عبد الغني الرصافي هي وصف الاستعدادات الجسمانية العضلية عند اللاعبين وتبيين بعض أبجديات هذه اللعبة: تنحو الشمال بضربة فيردها نحو الجنوب ملاعب لطام رفساً بأرجلهم تساق وضربها بالكف عند اللاعبين حرام ولقد تحلق في الهواء فإن هوت شرعوا الرؤوس فناطحتها الهام

هنا يأتي الوصف المتصل بهذه اللعبة جزئياً، يفتقد في بنيته العميقة كثيراً من الدلالات ذات الصلة بالموضوع.

ولكي يتعمق فهمنا للقضية حري بنا أن نعود إلى هذا النص، الذي يحقق كثيراً من الانزياحات صعوداً وهبوطاً ضمن رؤية كلية، خرج فيها الشاعر عن المفهومات السائدة، وطفق ينسق مشاعره وينظمها بطريقة مرنة تنسجم مع طبيعة المناسبة، لكنها من حيث حيوية الدلالة تأوي بتقنياتها التعبيرية، وحمولتها الفنية إلى ربوة ذات قرار ومعين.

ما علاقة الشعر بكأس العالم.. ولماذا فلسطين ؟

لعل المغزى هو إظهار قداسة مكون مهم من مكونات الأدب العربي الذي شَكَّلَ بدوره رافداً من روافد الحضارة العربية، وبحضوره مع فلسطين حضرت القضية، وبذلك ربما يكون في حضور الِاثنين في هذه المناسبة رسالة لمن كان له قلب أو ألقى السمع.

فمن حيث الشكل

جاءت الجمل الشعرية أقرب ما تكون إلى النثر، الذي تطول أسطره وتقصر حسب ما يقتضيه الموقف والدفقات الشعورية، وكأن الشاعر يريد التخلص من كل قيد شكلي يطفئ جذوته، أو يكبت تحومه، فتكتسي معمارية النص بعداً متناغماً، يرتبط فيه مقام بداية النص بمقام نهايته.

وهنا ليس المقام مقام أفعل تفضيل أو ذم، وليس الغرض هو تتبع منهج نقدي معين يفترض في تلقي بعض جماليات النص في شكله ومضمونه، بقدر ما هي مقاربة للنص داخل حدود شعر المناسبة، ومحاولة الجواب عن السؤال، ماهي أبعاد التجديد في المناسبة؟؟؟

من حيث المحتوى

ينفتح النص على بعض القضايا الفنية المعاصرة، فيحضر الخاص ممثلاً في ذاتية الشاعر، كما يحضر العام ممثلاً في الهوية العربية بأنساقها وهويتها وحضارتها.

ولا يخلو النص من جدلية الموت والحياة.

إن هذا النص أظهر الكثير من عبقرية الشعرية العربية في رؤيتها للمناسبة، ولكنه حلق بالمتلقي إلى جماليات بكر ظلت عصية على الشعراء، الذين تعلق أكثرهم بجاذبية التراث، وظل يهمزه مهمازه القديم، وهو يعبر بكل ذلك عن بعض إلحاحات المعاصرة.

بينما تحرر بعضهم كالشاعر تميم البرغوثي من تلك العباءة المحنطة، وشرع يسيطر على الموقف، وهو يربط بين مشاعره، وبين هذه المناسبة ضمن رؤية إبداعية حبلى بالدلالات ذات الصلة بهذا الموضوع القديم الجديد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ ناقد وشاعر ــ موريتانيا

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى