بحوث ودراساتمسرح

د. أحمد شرجي: ماذا فعلت الحرب بالمجتمع العراقي؟

دراسة في المرجعيات الميثولوجية في نص في أعالي الحب لـ فلاح شكر

د. أحمد شرجي★

النص الجنين

اِعتمد النص الجنين على قصة سيدنا سليمان وسيطرته على الجن، وتنغرس هذه القصة في عمق الذاكرة الجمعية للمجتمعات العربية والإسلامية، فقد سخر الله تعالى للنبي سليمان بن داوود الجن والإنس، وعلَّمه لغة الحيوانات، وأخضع له الوحوش، وجعل الرياح تحت أمره، وجاء في سورة النمل: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) فقد كانت الجن والشياطين في خدمة سيدنا سليمان لقوله تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ). ومنحه الله القدرة على تعذيب الجن وربطهم بالسلاسل إن عصوا له أمراً، وكانت الشياطين تبني له القصور، وتأتيه باللؤلؤ من قاع البحار.

وهناك الكثير من الحكايات التي وردت في ألف ليلة وليلة، مثل: سليمان والهدهد وبلقيس، وقصته مع النمل والخيول، وسنستشهد بإحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وهي الليلة الواحدة والستون بعد الخمسمائة، لأنها تتعلق بجوهر مرجعية النص الجنين.

وتحكي شهرزاد : “بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة عبد الملك بن مروان لما تحدَّث مع أعوانه وأكابر دولته وتذكروا سيدنا سليمان، وما أعطاه الله من الملك قال: إنه وصل إلى شيء لم يصل إليه أحد حتى أنه كان يسجن المردة والشياطين في قماقم من النحاس، ويسبك عليهم الرصاص، ويختم عليهم بخاتمه…، وتردف شهرزاد: أن مركباً ضلَّ طريقه في البحر ، ورسا في أرض قوم سود الألوان عراة الأجساد كأنهم وحوش، وأن أهل المركب نزلوا يَتَفَرَّجون في تلك المدينة، فوجدوا بعض الصيادين وقد أرخى أحدهم شبكته في البحر ليصطاد سمكاً، ثم رفعها وفيها قمقم من نحاس مرصوص مختوم عليه بخاتم سيدنا سليمان بن داوود عليهما السلام  فخرج به الصياد وكسره، فخرج منه دخان أزرق التحق بعنان السماء، فسمعوا صوتاً منكراً يقول:  التوبة يا نبي الله، ثم صار من ذلك الدخان شخص هائل المنظر مهول الخلقة تلحق رأسه الجبل ثم غاب عن أعينهم.

فأما أهل المركب فكادت تنخلع قلوبهم، وأما السودان فلم يفكروا في ذلك، فرجع رجل إلى الملك، وسأله عن ذلك فقال له: اِعلم أن هذا من الجن الذين كان سليمان بن داوود إذا غضب عليهم سجنهم في هذه القماقم، ورصص عليهم ورماهم في البحر، فإذا رمى الصيادون شباكهم، يطلع بها القماقم في بعض الأحيان، فإذا كُسرت يخرج منها جني، ويخطر بباله أن سيدنا سليمان حي، فيتوب ويقول: التوبة يا نبي الله…”([1]). ونلاحظ أن المؤلف فلاح شاكر اِستثمر هذه الحكاية داخل النص من خلال شخصية الجني، التي وظفها بشكل إسقاطي على الواقع العراقي، من خلال خلق عالمين: الوهم ويمثله الجني، والواقع وتجسده المرأة.

وخضعت كل تحولات الشخصية لمرجعية الحكاية ثقافياً واجتماعياً، كما يعزى تعارض سلوكها (الحب) مع الواقع إلى عدم اتخاذها القرارات وفق تلك المرجعية.

لقد استثمر فلاح شاكر تابعية الجني وطاعته العمياء لسليمان الحكيم الذي سجنه داخل “القمقم”، مقابل ذلك عبودية المرأة داخل سجن الانتظار الذي فرضته الحرب، وبالتالي تصبح الحرب سجناً مجتمعياً للمرأة.

فاستثمار البعد الرمزي داخل الشخصيتين، وخلق مزاوجة وتداخل لهروب كل منهما من مصيره، أوجد علاقة تضادية بينهما من أجل تحقيق القصدية الدرامية. وعليه، فإن هناك مسارين حَدَّدَا خريطة النص الجنين: أولهما: حكاية الجني وسيدنا سليمان، أي: عالم الجن والإنس بكل حمولاته الدينية والميثولوجية، وثانيهما: المرأة بوصفها رمز المجتمع العراقي الآني/ زمن النص، إشارة إلى الواقع المرير الذي تعيشه/ يعيشه داخل سجن، انتظار الحرب التي لن تنتهي، وهو ما تحقق عبر استحضار الجني لشخصيات فقدتها المرأة أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980­1988)، وكلها شخصيات ذكورية (الخطيب، الحبيب، ابن الجيران)، ترسخت في ذاكرة المرأة، مما جعلها في حالة انتظار دائم، ولذلك وجدت في الجني/ الوهم شخصية بديلة، بيد أن الجني منزوع القلب، وما دام يأتمر بأوامر سليمان الحكيم، فإن الحب معناه العصيان المفضي إلى الاحتراق، وقد آثر الجني خطاب القلب ونوازع الحب ، واختار الحرق لعشقه المرأة التي وجدت في الجني ملاذاً ينسيها ويلات الحرب وقسوة الانتظار، إنه التعلق بالوهم لإشباع رغبة الحب، رفضاً لواقع عنيف قوامه العنف والتقتيل والرعب.

مشهد من عرض في أعالي الحب

رسم فلاح شاكر مسارات نصه من خلال ثنائية: الوهم والواقع وتداخلهما؛ فالجني بدوره يعاني من عزلة داخل “القمقم”، تقابلها عزلة المرأة/ المجتمع، داخل سجن الحرب ومآسيها المتواصلة، ولذلك يبدأ النص بكلمة القتل على لسان الجني، وينتهي بالحب على لسانه أيضاً، فإذا كان الجني يصرخ لعزلته، فان المرأة تطلب إيقاف خساراتها:

الجني: سأقتل أول من يفتح لي باب القمقم، آلاف من السنوات وأنا أنتظر أحدهم يفتح لي الباب فأصرخ شبيك لبيك عبدك بين يديك ، فاطلب ما تريد ولم يفتح لي احد، لاسيد لي بعد الآن ، من يفتح الباب سأرديه قتيلاً، القتل، القتل لكل من سيكون فضولياً ويزيح الباب (يصرخ) إفتحوا.

المرأة: (صامتة)

الجني: شبيك لبيك عبدك بين يديك، أأمريني فألبي.

المرأة: أوقف هذه الحرب المجنونة ([2]).

منذ البدء تبوح الشخصيتان بمعاناتهما، ليشرع الحدث الدرامي في التشكل، إذ يسعى النص إلى الهروب من عالم الواقع إلى عالم الوهم، بعد أن طالت سنوات الحرب، وخلَّفت الكثير من الضحايا، ومقابل سنوات انتظار الجني داخل القمقم، هناك المرأة التي ترمز إلى كل النساء، والحبيبات، والأمهات، والزوجات داخل ثقافة المؤلف، ومجتمعه العراقي في زمن الحرب؛ ولذلك استند النص الجنين إلى مرجعيات بيئية وثقافية واجتماعية توفرت في داخل النص الدرامي فيما بعد، مثل: حكاية عشق المرأة/ الفتاة لابن الجيران، وحضور/ غياب شخصيات الحرب، وذاكرة المرأة/ المجتمع التي يستحضرها الجني، لإيقاف نزيف الحرب والعودة إلى الواقع المليء بالحب المتجسد عبر شخصيات: الطفل، والحبيب، والخطيب، وذلك من أجل انفتاح النص وتأكيد بعده الثقافي؛ ولأن الحب يمثل أمنية مشتركة لدى أفراد المجتمع العراقي أثناء الحرب، فقد كانت أولى الكلمات التي تلفظت بهم المرأة داخل النص.

تشكل الحرب مرجعية النص الجنين بكل تداعيتها الانسانية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي فهي تمثل الواقع؛ أما عالم الوهم فيجسده الجني الذي يشكل حضوره المادي داخل المتن الحكائي محاولة للهروب من سلطة الرقيب، والانفلات من سلطة النظام، وهو ما يفسر اجتهاد المؤلف للمزاوجة بين العالمين: الوهم والواقع وفق ثنائيات درامية: الحضور والغياب، الواقع والخيال، وتحضر الفكرة الرئيسة للنص وإسقاطاته الواقعية من خلال هروب المرأة الفنطازي من الواقع باتجاه الوهم أو عالم الخيال الذي تخاله ملاذاً لحيوات بعيدة عن ويلات الحرب والانتظار القسري للأحبة، هروباً من الواقع المعاش المفعم بالانكسارات المتوالية، والطافح بالذوبان الروحي، والعذاب الجسدي بعد أن غادره الحب اتجاه الحرب.

مشهد من مسرحية في أعالي الحب

مرجعيات النص الثقافية

حمل النص الدرامي كَمَّاً هائلاً من العلامات الثقافية والاجتماعية والبيئية، وارتباطا بالعلامات اللغوية فقد اعتمد المؤلف ( في مواضع معينة) على اللهجة المحلية لتعميق الحس العاطفي والبعد الثقافي داخل النص على لسان رمزه الواقعي المرأة: اعتبرني مثل أختك، وكذلك حوارها عند مشاهدتها لخطيبها فيصل ورفاقه الجنود في ساحة المعركة كما هو الحال في الأمثلة التالية: “يا عيني عليهم، و”اسم الله عليك؛ وتمثل تلك المفردات الشعبية أيقونات لغوية بيئية متداولة داخل ثقافة المؤلف، ويصعب إزاحتها عند خضوع النص لقراءة جديدة ومغايرة داخل سياق ثقافي آخر، يجهل القصدية الاجتماعية والبيئية الأصلية للنص، وقدرتها الهائلة على التأثير الحسي والعاطفي على الشخصية.

يتمحور النص حول حياة الفرد العراقي أثناء الحرب وتداعياتها، متخذاً ­ كما ذكرنا سابقاً ­ المرأة نموذجاً لانتظارات متعددة؛ فالنص يرفض الحروب بكل أشكالها، من خلال شخصيتين تنتميان لعالمين مختلفين، تلخصان دمار الإنسان والإنسانية، حفل النص بحمولات شعرية وشاعرية، وكأنه قصيدة شعرية طويلة، رغبة في خلق عالم الخلاص الوهمي للواقع الذي يعيشه المجتمع العراقي في زمن الحرب؛ ولذلك كثفت ثنائية الوهم والواقع المتن السردي والحكائي للنص، عبر استحضار المرأة للجني لعله يُدخل الفرح والسعادة إلى قلبها وروحها اللذَيْنِ أضعفهما انتظار الغياب، وهو ما استلزم تحولات على مستوى الشخصيات، وتغييرات زمانية ومكانية، بدا معها النص الدرامي وكأنه عبارة عن لوحات، بعبارة أوضح: قُسِّم النصُّ الدرامي وفق آلية عملية الاستحضار، وتسلسلها الزمني والمكاني ، وجَسَّد تحولاتِ الشخصيات التي حدَّدَها النصُّ الجنين التداخل بين الوهم والواقع، ولتأكيد هذا المعطى، شكلت المرأة ­ وهي تداعب مصباحاً فيخرج لها الجني­ بؤرة المتن السردي، ولتدعيم قسوة الواقع الذي تعيشه المرأة لم تعره أي اهتمام، لأن الواقع بالنسبة لها أكثر فزعاً من ظهور جني، وبالمقابل هناك قسوة سجن الجني الذي ظل أسيراً آلاف السنين داخل المصباح/ القمقم، حتى قرر قتل أول شخص يفتح له باب السجن، وهنا يشير المؤلف إلى أول تداخل بين العالمين: الوهم والواقع، ما دام واقع المرأة أيضاً سجناً؛ ولكنه ليس بحجم “قمقم” الجني.

إننا أمام شخصيتين تتقاسمان الانتظار وإن اختلفت أشكاله؛ فالجني يعيش داخل سجن فرضه سيده، في حين تعيش المرأة داخل سجن انتظارات متعددة فرضتها الحرب؛ ولذلك يعلن النص عن قصيدته الإسقاطية لثنائية الوهم والواقع، فهروب المرأة من عالمها مبرر من جهة بحثها عن خلاص لحياتها الطافحة بالتفجع والمأساة.

تداعب امرأة مصباحاً يخرج منه جني، مردداٌ (شبيك لبيك عبدك بين يديك، اُطلبي ما تريدين)، فتطلب منه أن يوقف الحرب التي تدمر بلدها/ مجتمعها ،ويعتذر الجني، لأن تحقيق رغبات المجتمع والأفراد تقع خارج قدراته؛ ولذلك يحاول إدخال السعادة إلى قلبها من خلال الرجوع بالذاكرة إلى الوراء، واستحضار شخصيات أحبتها وطبعت ذاكرتها الاجتماعية والشخصية: طفل للشعور بمذاق الأمومة، والحبيب الأول ابن الجيران، وخطيبها المنتظر فيصل الذي ذهب إلى الحرب، ولم يأتِ ؛ وقد حقق لها الجني رغبتها بالذهاب إليه، لتراه كيف يختبئ في ملجئه من الرصاص، ويخبرها خطيبها بأنه هرب من الموت لينعم بقربها:

فيصل: … كيف أموت وحيداً، لماذا لم نمت مع بعض؟

المرأة: عجزت عن اللحاق بموتك، فلدي بعض الأنفاس ([3]).

لا تريد المرأة الموت، فتحتمي بالجني، ولأن قلبها مرتبط بفيصل، فما ما كان من الجني إلا أن جاءها بهيئته، ويقابل رؤيتها للموت تمسكها بالجني، بوصفه حبيباً لا يموت إلا بعصيانه أوامرها، هروباً من واقع مفزع يلفه الموت من كل جهاته، فالجني قادر على رسم حياة أكثر جمالاً وإنسانية، حتى ولو كانت وهماً؛ ولذلك تحاول المرأة التمسك بهذا الأمل/ الوهم، وكأنه واقع، من خلال الاستجابة لأهواء القلب اتجاه الجني، فهي لا تخجل من الإفصاح عن حبها له؛ بيد انه ليس مخيراً، إذ لابد من أخذه الإذن من سيده سليمان الحكيم، لأن عصيانه معناه الاحتراق، كما أنه لا يحق له الحب فهو ليس إنساناً، ولذا عليه الاختيار: إما عصيان مرجعيته الميثولوجية وقبول الحب، مما يعني احتراقه، أو رفض الحب، أي: عصيان أمر سيده صاحب المصباح.

الفكرة الفلسفية للنص الدرامي وهي: التغير الذاتي لحياتنا التي يتحكم بها الآخرون، ومصائرنا التي لا نمتلك حرية اختيارها، فالاختيار معناه امتلاك الحرية، ويخضع الجني لقرار/ حرية القلب، ليحرق بعد ذلك، وهذا يتنافى مع قراره الأول القاضي بقتل أول من يفتح له باب “القمقم”، فقد أصبح مفتاح الباب، هو مفتاح القلب، والهروب من حياة الانتظار، وينطبق الشيء ذاته على المرأة، فقد هربت من واقعها إلى الوهم/ الجني، لأنه أدخل السعادة إلى قلبها وشعرت بإنسانيتها وأنوثتها، هروباً من انتظار لا طائل منه، وهكذا يقرران تغيير مصائرهما التي فرضها الآخرون عليهما.

إن النص الدرامي تأسس على ثقافة بيئية مرحلية عانى منها المجتمع العراقي، وهو ما دعمته الشحنات الدلالية المتضمنة في العلامات البصرية واللغوية التي تنتمي إلى ثقافة المؤلف ومجتمعه.

مسرحية “في أعالي الحب” تداخل بها الوهم بالواقع، للهروب من سلطة الرقيب الأمني داخل المجتمع العراقي كما ذكرنا سابقاً؛ ولذلك جاءت لعبة الوهم والواقع للاحتيال على الرقيب السلطوي لتمرير خطاب إنساني وجمالي، ومن جانب آخر، توثيق زمن الانتظار العراقي أثناء الحرب، التي نخرت المجتمع من الداخل، وليس أمامه سوى الخلاص، حتى لو كان الهروب مع جني إلى واقع آخر وعالم لاتسود فيه رائحة الموت المجاني، ومن ثم امتلاك حرية القرار، ورفض هذا الواقع الاجتماعي.

إن النص الدرامي سار بمسارين حددهما النص الجنين، ممهداً للتحولات الدرامية اللاحقة؛ فالمسار الأول تمثله حكاية سيدنا سليمان الحكيم مع الجن وقدرته التي منحها الله تعالى إياه بالسيطرة عليهم وإحراق كل من يعصي أوامره، وهو مسار ميثولوجي عقائدي يستمد مرجعته من الثقافة الإسلامية بحكم ورود ذلك في القرآن الكريم في أكثر من سورة؛ أما المسار الثاني فتجسده المرأة بكل رمزيتها الاجتماعية والبيئية والمحلية لمجتمع المؤلف وثقافته، بوصفها رمزاً لكل الانتظارات العراقية في زمن الحرب.

لقد عمل فلاح شاكر على إسقاط مسارات النص الثقافية على الواقع العراقي؛ فالمنقذ هو عالم الوهم الذي تتمسك به المرأة، وترفض العيش مع شخوص ذاكرتها التي أتعبها أزيز الرصاص، وقد بين لنا جدول العلامات التطور الدلالي للحدث، وطرائق تداخل الواقع بالوهم، والوهم بالواقع، وهو تداخل فرضه النص الجنين، وسار المسار الثقافي وفق زمنين مختلفين، يتعارضان تارة ويتوافقان تارة أخرى، بهدف اندماجهما هروباً من الواقع الدموي المليء بالانكسارات التي تعيشها المرأة/ المجتمع بسبب الحرب، ويعاني الجني أيضاً من وحشة الانتظار داخل محبسه، والعبودية التي فرضها عليه سليمان الحكيم.

ترمز المرأة إلى الزمن الآني الذي يعيشه المجتمع العراقي، وهو زمن الحرب وتداعياتها على المجتمع، فقد أضحت المرأة سجينة انتظارات لا تنتهي إلا بإيجاد خلاص ذاتي، ورفض الواقع المعاش وويلاته، ولا تهم طبيعة الوسيلة أو شكل المخلص، حتى لو كان جنياً؛ ولذلك توافقت مصائر الشخصيات: فالجني يريد الخلاص من سجنه، والمرأة تتوق لخلاصها من سجن الانتظار، حتى أصبحت حياتها عبارة عن وداع أزلي لكل الأحبة.

وخدمة لهذا الغرض، اِستند النص الدرامي إلى ثنائية الحضور والغياب التي باتت سمة لازمة للثقافة العراقية أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980­1988). ولذلك جاء النص انعكاساً لبنية المجتمع العراقي التواقة إلى الخلاص الفردي، لتمتلك الذات حرية قراراها من خلال رفض الواقع بكل أشكاله، لعلها تساهم في تغيره.

شكلت ثنائية الوهم والواقع وتداخلهما البؤرة المركزية للحدث الدرامي، وهي ثنائية رمزية تتأطر بين عالمين/ زمنين: زمن ماضوي يجسده عالم الجني وعلاقته بسيدنا سليمان الحكيم، وزمن آني: يتحدد في عالم المرأة الذي يرمز إلى المجتمع العراقي.

والملاحظ أن كليهما ينتظران المخلص، بمعنى سطوة ثقافة الانتظار بكل حمولتها الثقافية والاجتماعية والعقائدية، فالجني ينتظر منذ آلاف السنين لمن يفتح له باب محبسه، والمجتمع ينتظر من يفتح له باب الخلاص من الحرب التي فرضت عليه الانتظار؛ وبالتالي فإن استحضار الشخصيات ذو بعد رمزي اجتماعي داخل النص الدرامي، فالمرأة رمز الأمومة المفقودة بسبب الحرب التي اغتالت الأحلام، وحتى الحياة القادمة التي يرمز إليها حضور الطفل داخل النص أضحت قاتمة وسوداوية، فقد حولت ثقافة الانتظار نساء البلد إلى عوانس وأرامل، وقُّدم فيصل في النص الدرامي بوصفه أحد أدوات الحرب، ومسلوب الإرادة، وفرض عليه القتال. أما حضور الحبيب فهو دلالة افتراضية لزمن منفلت تتمناه المرأة، ولذا تعيش وهماً كما رسمته مخيلتها: حبيب يلازمها ويظل بقربها، وهو ما وجدته في الجني بوصفه بديلاً عن حياة قوضتها الحرب، حبيب لا يغادرها إلا بأمرٍ منها، ولا يمكن أن يعصي لها أمراً، فالحب كفيل بتضميد الجراح والانكسار النفسي، حتى لو انتهى بالحرق أو الانتحار.

المراجــــــع:

[1] ألف ليلة وليلة، الليلة:561.
[2] شاكر، فلاح، في أعالي الحب (مسرحية)، مخطوطة.
[3] نفسه.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتب ومخرج ــ العــراق

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى