شيماء مصطفى: الإسكندرية -تل أبيب لعماد مدين.. دليلك لاختبار بوصلتك الشخصية.
شيماء مصطفى ★
“قلبك وطن مهجور وقلبي مواطن مغترب”
عبارة ختامية موجزة كتبها “روبير داسا” ل”فريدة” في نهاية خطابه، واصفًا علاقتهما بعد أن تجاوزت قواعد الحب المستحيل، وليثبت بها مقولة جبران الشهيرة« من تحب ليس نصفك الآخر هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه».
تدور رواية ( الإسكندرية- تل أبيب) ل”عماد مدين” الصادرة عن دار (العين) للنشر حول الطرق الملتوية التي سلكها الكيان لخداع الجميع بلا استثناء بما فيهم أتباعه للوصول لأغراضه، صاعدًا ليس على حساب أصحاب الأرض وحسب، بل على حساب مؤيديه، فنجده مغتصبًا لحق الآخر، متاجرًا بأبنائه ليضمن استمرار الدعم الغربي له، فاستغل العوز والحاجة للبعض من أبناء الطائفة اليهودية كما حدث مع “نينو” أو الشعور بالاغتراب كما حدث مع “داسا” فيستخدمهم كعرائس الماريونيت لتنفيذ عمليات تخريبية في القاهرة والإسكندرية كما نجح في استخدام غيرهم بالعراق.
فعلى لسان “موسى مرزوق” : « لم أكن على علم بما ينتون فعله، قالوا لي دلنا على شباب من اليهود في حاجة إلى المال أو يرغبون في السفر إلى الخارج وليتني ما فعلت»
أما “ماير ميو حاس” فقال« لست صهيونيًّا أو إسرائيليًّا، أنا شاب يهودي، أحببت السينما والموسيقى والأدب، كان لدي شغف السفر إلى فرنسا، وسافرت وأعطوني مبلغًا كبيرًا، ثم أخذوني إلى إسرائيل، لم يكن لدي الرغبة في السفر إلى هناك، ولكنهم لم يمنحوني حق الاختيار »
صورة الذات وسيكوباثية الكيان
على طريقة الفريسة والصياد استطاع الكيان بشكل سيكوباثي استقطاب بعض الشباب من يهود العرب واستخدامهم كدروع بشرية في عملياتهم الاستخباراتية المشبوهة، ليسوا كعقول بل كأدوات بأسماء حركية لتنفيذ المخططات.
فالرواية تناقش نقطة حيوية وجوهرية في تاريخ صراعنا مع الكيان، ليست في جرائم الكيان ضد أعدائه فهذا أمر مفروغ منه ويعرفه الجميع، ولكن في جرائمه ضد حلفائه وأتباعه، فنجد داسا ونينو حتى بعد إثبات تقديمهم لفروض الطاعة، وبعد قضاء مدة حبسهم وذهابهم إلى تل أبيب تم منحهم الرتبة العسكرية فقط ليضمنوا سكوتهم فلا يعلم أحد عن بشاعة جنتهم المزعوم وجودها على الأرض، حتى بعد سنوات حين سُمح لهم بالحديث للإعلام كان بغرض تشويه قيادتهم بعد وفاتهم، حتى فيما بينهم جبناء لا يملكون شجاعة المواجهة، فقط يتقنون قذف الأخطاء وإلصاقها بالغير، ولذلك مخطىء من ظن يومًا أن للثعلب دينًا، ولهذا السبب أيضًا لا تتعجب من رغبة الكثيرين في الفرار من هذه الجنة الخاوية، ولا تتعجب أكثر مما يفعلونه بأعدائهم، فالخوف يدفعهم للمزيد والمزيد من الجرائم.
«الناس كانت على وشك أن تنبذ الحرب، وتتبع الأصوات التي تدعو للسلام والتعايش، ولكن للأسف طبيعة الشعوب أينما كانوا يحبون الشعارات الرنانة الزائفة التي تصفهم بالأفضل دون مبررات، يرددونها دون تفكير، ثم يصدقونها دون تشكيك ويتبعونها دون علم إلى أين ستأخذهم، على مدار شهور بعد الهزيمة، ماكينات الإعلام نجحت في إقناع الرأي العام أنها مجرد أخطاء فردية، تم تداركها».
بدا التعامل السيكوباثي بشكل آخر مع المهاجرين من دول العرب باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية .
« الإصرار على استخدام القوة ما هو إلا ضعف مستتر، يلجأ إليه الضعفاء، يتحملون نتائج أخطائهم فيما بعد، أو يدفع الثمن أبرياء آخرون، يسعى” بن چوريون” إلى دعم مالي من الغرب، غير مهتم بمن قتلوا ومن سيقتلون ويسميها لعبة السياسة».
خطأ لا يغتفر
قديمًا وللأسف الشديد في معظم أعمالنا السينمائية والتلفزيونية السابقة برز اليهود في صورة التاجر البخيل، والمرابي الأخنف، واختزلنا جولدا مائير في حاجب عريض وملابس قاتمة ووجه عابس دون مراعاة للتكوين الأيدولوچي والسيكولوچي للشخصيات، وهذا خطأ لا يغتفر.
أما في هذه الرواية فأهم ما يميزها موضوعية الطرح، فضلًا عن تناولها كما ذكرنا في السابق لجرائم الكيان في حق أتباعه، فلا يمكن النظر للآخر أو للخصم بعين غاضب أو بتدليس الحقائق؛ لأن ذلك يعني بداية السقوط وهذا الفخ كان سببًا رئيسًا في سقوط الكيان في حرب ٧٣، حين استخف بشعبه ونقل له صورة مغايرة عن الواقع لأسطورته التي لا تقهر.
ونجد هذا جليّا على لسان “داسا” في القطار المتجه من الإسكندرية إلى القاهرة، حين سُئل عن موقف شعب الكيان عقب الهزيمة فأجاب:« كانوا كالزوج المخدوع».
بآلة زمن حديثة الإمكانيات وذاكرة لا تتلاشى منها أدق التفاصيل استطاع داسا – رغم اعترافه أن لا يحب مصر ولا المصريين- أن يوثق كل لحظة عاشها في مصر فظلت الذكريات عالقة بذهنه حتى بعد أن هاجر إلى هناك، ما زال بداخله حنين جارف لذكرياته بمصر، فالتشبيهات لدى “داسا” أكدت ذلك
«كان القطار من القاهرة إلى الإسكندرية كالدودة في الحقول».
«كان الشعب الإسرائيل بعد الحرب كالزوج المخدوع».
حتى صمويل اكتشف ذلك ولكن بعد إدراكه أنه لا طريق للتراجع
« كانت أصواتهم تهتز لها القاعة فزادت من حماسته قبل المباراة، الحماسة التي قابلها المنافس بابتسامة ودود، …….اعتذر الشاب ل”صمويل” بعد المباراة وقبل جبينه غير مهتم بما تلقاه من سباب من بعض المشجعين» ص١٠٥
فمصر وشعبها تعاملوا معه كمواطن مصري له من الحقوق وعليه من الواجبات.
سيكولوجيا الرجل والمرأة
أجاد عماد مدين رسم بعض المشاهد بتكوينات بصرية كما لو كانت مشهدًا سينمائيًّا متكاملًا، فنجد لحظة اكتشاف “فريدة” سقوطها في دائرة الحب المستحيل المفرغة في تكوين مميز يجمعها ب”داسا” ليدرك كلاهما أنه لا فرار من الفراق بعدما أخبرها برغبته في السفر إلى إسرائيل.
ثبات “فريدة” في حديثها، وإصرارها على عدم الاستمرار، جعل “داسا” يتأكد أنها جادة في قرار الفراق، التفت نحو تمثال سعد باشا زغلول الذي غربت عنه الشمس لتوها قبل أن يدفع كتفيه ويمط شفتيه وكأنه يحدث سعد باشا»
شكل تواجد تمثال سعد زغلول في هذه المشهد حاجزًا أيدلوچيًّا بينهما، التفاتها للتمثال، ثم نظرته إلى التمثال، جعلت الموقف محسوسًا ولا جدال في ذلك.
تكوين سينمائي آخر أثناء تواجد “ناتانسون “أمام سينما ريو،
« كانت الساعة قد تجاوزت السابعة مساءً، حين وقف “ناتانسون” يتأمل تلك القطة الساحرة نجمة هوليوود “مارلين مونرو” التي تتصدر أفيش فيلمها الأخير( نهر بلا عودة) المعروض في سينما ريو، أسرع بالخطوات نحو شباك التذاكر ، عطلة أسبوعية تتزامن مع عيد الثورة، بحضور القطة الهوليودية»
فبالتأمل لعنوان الفيلم، ونجمة الإغراء الهوليودية مارلين، وبتتبع خطواته السريعة غير المحسوبة تجده وقع في فخ الإغراء هو الآخر فذهب بلا عودة كما في عنوان أفيش الفيلم، ونجده كما اندفع في خطواته السابقة لحظة وقوعه كفريسة في يد الكيان، سقط مرة أخرى حين لم ينتبه للزحام كونهم يوم إجازة عيد الثورة فبدلًا من أن يحصد عشرات الخسائر خسر نفسه.
تكوين ثالث في المشهد الختامي للرواية لحظة وداع فريدة لداسا في المطار لتؤكد بصورة أخرى دلالية على تصديقها للقرار المخالف لحسابات القلب فشكل المطار حاجزًا آخر لما يؤول له من إقلاع وهبوط وتأرجح فلا تعرف إن كانت تقول: كن على مسافة مناسبة خشية الفراق، أم أنها تقول: كن على مسافة مناسبة خشية الاشتياق فبدا الصراع بينهما صراع إقدام إحجام.
برع “عماد مدين” في رسم نموذج رائع لشخصية فريدة في الرواية فبدت بشكل تلقائي غير مفتعل فرغم كل ما فعله داسا لم تتعامل بعنترية، ولم تتحدث بنبرة وطنية زائفة، أو بشعارات رنانة، بل تعاملت كإنسانة لم تستمر في العلاقة ولكن ما زال قلبها معه، أخذت القرار لكنها لم تتاجر به مثلما فعل به وطنه المزعوم.
ولهذا “من أحب فقد ولد من الله لأن الله محبة”، المحبة التي تنقي من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، والتطهر بالحب كما التطهر بالصلوات من الخطئية، ولأن الانسجام والتناغم شفرة كل روح فإن “داسا” لم ينسجم مع تل أبيب، وفي النهاية مثلما تجد النحلة خليتها مهما طمست وجد “داسا” ملاذًا آمنًا بعيدًا عن دنس الكيان.
القارىء للرواية سيجد مزيجًا من التشويق والتوثيق دون تنافر أو تعارض، سيجد أيضًا طرح موضوعي متجردًا من الأهواء، مخاطبًا العقل والعاطفة على حد سواء، ولهذا وقبل أي قرار عليك أن تضبط بوصلتك، فربما لا تستطيع العدول عن القرار.
★ناقدة-مصر.