شيماء مصطفى: ” نـاحوم أفنـدي” لـسهير عبد الحميد.. أسرار الرجل الذي فقد وطنه!
شيـماء مصطفـى ★
بتزامن مع احتدام الصراع الفلسطيني الصهيوني والذي وصل لذروته بعد أحداث الـ 7 من أكتوبر 2023، صدر عن الدار المصرية اللبنانية كتاب” ناحوم أفندي” للكاتبة الصحفية سهير عبد الحميد ( أسرار الحاخام الأخير ليهود مصر).
تحت عنوان “« ترنيمة وطن» بدأ الكتاب بتقديم من السيدة ” ماجدة هارون” رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، بكلمات مؤثرة عن نشأتها في مصر
وسعادتها بكتاب ناحوم أفندي والذي تزامن إصداره مع العثور على مقبرته بعد بحث استمر لأكثر من 50 عامًا.
ثم أعربت عن حزنها الشديد لما تعرض له أهالي غزة على يد الكيان، متمنية ألا يخلط الجميع بين اليهودية كديانية والصهيونية كحركة.
وقد اتسمت المقدمة في سرديتها باجترار الذكريات، واستدعاء مشاعر مختلطة ما بين الخوف والقلق والسعادة والغضب والحنين.
لم يقتصر الإصدار على التتبع السردي لسيرة حايم ناحوم أفندي سواء فترة تواجده في كنف الخلافة العثمانية قبل تفكيكها ودوره في إنهاء خلافة السلطان عبد الحميد الثاني أو في إلغاء الجواز الأحمر، أو بعد انتقاله إلى مصر ليكون الحاخام الأكبر والأخير ليهود مصر حتى وإن خلفه حايم دويك، ولكن جاء السرد بشكل تقريري متوغلًا ومتعمقًا داخل الوجود اليهودي وجذوره في الشرق والغرب متضمنًا بشكل تفصيلي أقسامه وتصنيفاته على أساس عرقي وديموجرافي متباين أشد التابين في العادات والتقاليد والطقوس والأعراف مدللة على ذلك بطريقة توثيقية كالاستشهاد بجهود وسعي ناحوم أفندي باعتباره الحاخام الأكبر لليهود لتقليص الفجوة بين اليهود القرائيين واليهود الربانيين واليهود السامريين، أو بين اليهود أنفسهم وباقي الطوائف الأخرى في المجتمع ، أو بالتطرق إلى الحديث عن استعلاء وعنصرية التصنيف بين يهود أوربا، ويهود العرب ويهود إفريقيا وسعي الكيان المستمر لتهويد الوسط الإفريقي، ومعاملة يهود الفلاشا باعتبارهم يهود درجة تانية، أو بالاستشهاد بحادثة الخلاف الذي نشب بين يهودي رباني وزوجته الإسرائيلية واللجوء للمحاكم المختلطة.
كما تم التطرق إلى علاقات الحاخام ناحوم أفندي بالساسة سواء في دولة آل عثمان ومعاصرته لفترة حكم السلطان عبد الحميد ، ومعاصرته لبعض حكام الأسرة العلوية في مصر وبعد ثورة يوليو وعلاقاته بالرئيسين محمد نجيب و جمال عبد الناصر، وقد عززت سهير عبد الحميد سردها بالصور فنجد ناحوم بين القادة الأتراك ، ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر ومع الملك فاروق، وهو المترجم للملك فؤاد الذي ترجم له 1800 فرمان شاهني من التركية منذ فتح مصر وحتى عصر عباس حلمي الثاني.
الأدب منه وإليه نعود
السياسة لعبة الشعوب المتأخرة، والأدب فن الشعوب المتقدمة، وقد طغت أسطورة الحركة الأدبية على أرض السياسة وروضتها ومهدت للأحداث، فجاء الأدب في خدمة الصهيونية سابقًا الحراك الصهيوني بعشرات الخطوات، ومنها ما قاله الشاعر بايرون:
” لليمامة عشها، وللثعلب كهفه، ولكل شعب أرضه، إلا اليهودي فليس عنده إلا قبره” .
وهو نفسه من عاد ليقول:
الكلب له بيت.. الحصان له بيت.. أين بيت اليهودي؟ بيت اليهودي فلسطين.
حتى بعد الحراك لم يتوقف مثقفو اليهود من أدباء وشعراء عن بيان أحقيتهم في وجود وطن قومي لهم، فنجد المحامي والشاعر مراد فرج في القديسات يقول:
ألم تكن القدس لليهود قبلا؟ ..أيحرم أن يعودوا أو ينيبوا؟..أليس من العدالة أن يُؤدى؟إلى أصحابه الحق الغصيب.
كذلك الأديبة الإسرائيلية عادا أهاروني في روايتها الخروج الثاني صرحت بذلك:
« لقد كان الشعب المصري كريمًا معنا ، ولكني لا أريد أن أكون ضيفًا محتملًا في أرض غريبة بعد الآن، لقد حان الوقت لنشكرهم على حفاوتهم، والبدء في التفكير في وطننا الحقيقي»
ورغم التزام ناحوم الصمت إلا أنه لم يسلم من الطرفين وضغطهما لبيان موقفه بشكل حاسم، فجاء ألبرت موصيري الكاتب والصحفي والطبيب الصهيوني مستنكرًا موقف الحاخام
« كيف يمكن للإنسان أن يكون مواطنًا مخلصًا لبلد مولده، في حين يكون مواطنًا مواليًا للوطن القومي اليهودي؟!»
وعلى الجانب الآخر يأتي الكاتب محمود شاكر بسؤال للحاخام:
« إن الصهيونية تزعم أنها تتحدث باسم يهود ، فما الضمان الذي يقدمه سيادته ” ناحوم أفندي” حتى تطمئن قلوبنا، بأن يهود مصر ليسوا كيهود العالم»
وجملة القول ما أتى به الكاتب محمد حسنين هيكل ليزيد من علامات الاستفهام حول ناحوم أفندي بقوله:
«كان معارضًا للصهيونية ومشروعها، ولكن كان في النهاية منحازًا لأهله، فإذا كانت هناك دولة يهودية على وشك أن تقوم في فلسطين ، فليس أمام الحاخام مفر من تأييدها، حتى جاءت خطواته بطيئة متثاقلة».
واستنادًا إلى إصدار ” ناحوم أفندي” فإن أهم النقاط التي تم تناولها برأيي كانت:
ـ على الجميع معرفة الفرق بين اليهودية والصهيونية.
ـ حتى اليهود الرافضين للصهيونية وعلى رأسهم الحاخام الأكبر لليهود حايم ناحوم ، والحاخام دويك الذي خلفه لا يعارضون في إقامة وطن قومي لليهود، وقد بدا ذلك من خلال موقفين للحاخام ناحوم أولهما في زيارته لأول مستعمرة بتاح تكفا الصهيونية في فلسطين عام 1910، وثانيهما في سعيه إلى إلغاء جواز السفر الأحمر حين أرسل مذكرتين لوزير العدل لإلغاء القيود المفروضة على اليهود في الحصول على مساحة من الأراضي خارج القرى والمدن في فلسطين ، وفيما يخص دويك فقد سافر إلى إسرائيل لحضور مراسم عرس ابنته.
ـ لم يكن العرب وحدهم ضحية التآمر الصهيوني الماسوني حين أشاعوا أن الفلسطينيين هم من باعوا أرضهم، في حين أن البيع تم عن طريق الرشوة لموظفي الدولة العثمانية، ولكن اليهود العرب أيضًا وقعوا في الفخ حين صور لهم الكيان بأن إسرائيل جنتهم على الأرض مدبرين حرائق الإسكندرية والقاهرة لزج بهم في وجه المدفع ولإرغامهم على الهجرة لفلسطين، وفي الوقت نفسه لضمان استمرار الدعم الغربي لهم.
ـ لم يكن الدعم الغربي للكيان إلا رغبة في التخلص منهم وضمان عدم عودتهم لبلادهم.
تنتهي من القراءة وتتأمل الصور ولا يمكنك أن تحدد موقفًا صريحًا وواضحًا لناحوم أفندي في موقفه من القضية الفلسطينية، ولكن يمكن للجميع الإجماع على أنه أفضل حاخام بين الدبلوماسين وأفضل دبلوماسي بين الحاخامات، فقد كان بمثابة موسوعة فريدة في اللغة العربية وعضوًا بارزًا في مجمع اللغة العربية، على صلة وطيدة بساسة مصر ومثقفيها كأحمد لطفي السيد وتوفيق الحكيم والعقاد، إذ كانت كلمة العقاد في رثائه بمجمع اللغة العربية العربية صادقة ومؤثرة.
أما عن الكتاب نفسه فقد اتسم بالموضوعية الشديدة في السرد والعرض دون أية أحكام أو انحياز للعاطفة، فضلًا عن تنوع المصادر والمراجع التي استندت إليها في رحلة نبشها عن الحقائق معززة كل ما توصلت إليه بالصور باعتبارها مصدرًا أوليًّا يدعم ما توصلت إليه، وعن السرد فقد مزجت فيه بين عدة مستويات تتسق وكل فصل وطرحه، وإن كان هناك تحفظ ففقط في استخدام كلمة إسرائيلي في أحداث سبق وقوعها قيام دولتهم، فحتى بلفور نفسه في وعده والذي عرف بوعد من لا يملك لمن لا يستحق ، لم يقل إسرائيل بل قال :
” إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين”.
القارىء للعمل سيكتشف حقائق صادمة عن ما هية الصراع وجذوره، وسيعرف كيف احتضنت مصر اليهود بعد سنوات من الشتات والسبي البابلي، ونيران النازية، فضلًا عن البحث الجاد والجهد الواضح للكتابة في العمل، وسيوقن بأن شرارة البدء دائمًا تنبع من الأدب والفنون وليست السياسة كما يتوهم البعض.
★ سـكـرتيـرة الـتحـريـر.