د.أحمد عيد:” متحف هندية”.. لوفر العرب في الأردن.
د.أحمد جمال عيد★
أحياناً، يأخذك الفن إلى عوالم ساحرة دون أن تغادر مكانك، ولكن أن تجد كل هذا السحر والألوان بين يديك في مكان واحد، في منطقة البقعة بالأردن وسط جبال خضراء وإطلالات خلابة، فهذا شيء مختلف تماماً! هناك، في قلب الطبيعة، يتربع متحف هندية للفنون، أو كما أطلق عليه زواره ومحبو الفن “لوفر العرب”، بكنوزه من روائع الفن العالمي والعربي.
تجربتي في زيارة هذا المتحف كانت تجربة استثنائية، أخذتني في رحلة بين لوحات ليوناردو دافنشي وبيكاسو، مروراً بجورج بهجوري وحلمي التوني من أعلام الفن العربي.
متحف هندية هو نتاج جهد شخصي ومشروع شغوف بأسمى المعاني، حيث قام الأستاذ سامي هندية، مؤسس المتحف، بجمع هذه الثروة الفنية المُدهشة على مدار أكثر من 20 عاماً. من خلال زياراته المتعددة إلى دول العالم، وحضور الفعاليات الفنية، وتمسكه برؤية ملهمة، استطاع أن يجمع أكثر من 5000 عمل فني أصلي من إبداع كبار الفنانين العالميين والعرب. هؤلاء الفنانون ليسوا مجرد أسماء، بل هم رواد تركوا بصمتهم على صفحات تاريخ الفن، بدءاً من ليوناردو دافنشي وبيكاسو، وصولاً إلى الفنانين العرب مثل جورج بهجوري وحلمي التوني وأشرف زكي، الذين أضافوا لمسات من ثقافتنا وأصالتنا العربية.
ما أن تدخل المتحف حتى تشعر أنك انتقلت إلى بُعد آخر، وكأنك تتجول في صفحات تاريخ مرسومة بألوان وأساليب مختلفة، وكل زاوية تحكي قصة بصرية تجعلك تتوقف لتستمتع بها. طريقة العرض في المتحف مثيرة للإعجاب؛ كل عمل فني له مساحته الخاصة التي تتيح للزائر التمعن في التفاصيل بوضوح. ومن حيث الأرشفة، فإن المتحف منظم بشكل مذهل؛ حتى أن بعض اللوحات والمقتنيات مرفقة بمعلومات توضيحية عن تاريخها وأهميتها، مما يساعدك على فهم السياق الذي خرجت منه كل لوحة أو منحوتة. هذا المستوى من الاحترافية يجعل من زيارتي للمتحف تجربة غنية تُضاف لخبرتي الفنية، ويجعلني أُدرك حجم الجهد المبذول في حفظ هذا التراث.
الأستاذ سامي هندية هو عاشق حقيقي للفن، ليس مجرد جامع لوحات بل مُحب للفن ومتذوق له بعمق. بدأ رحلته منذ سنوات طويلة، يحمل حلمه في جمع أعمال من الفن التشكيلي كأنها قطع نادرة من حكايات التاريخ. على مدار عقدين من الزمن، قام بزيارة معارض ودول عديدة، وحضر مزادات، وشارك في العديد من الفعاليات الفنية. هدفه ليس فقط عرض هذه الأعمال بل جعلها متاحة للجمهور ليعيشوا تجربة الفن كما عاشها هو. سامي هندية يُعد اليوم رمزاً للشغف والإصرار، وشخص استطاع بجُهده الشخصي ومبادراته الفردية أن يبني صرحاً ثقافياً عملاقاً يستحق كل التقدير.
أروع ما في متحف هندية ليس فقط محتواه الفني، بل موقعه الذي يُضفي عليه سحراً من نوع خاص. يقع المتحف في منطقة البقعة بالأردن، منطقة معروفة بجمالها الطبيعي، حيث تحيط به الجبال الخضراء وتتخللها إطلالات ساحرة تأسر القلب. ما إن تصل إلى هناك حتى تشعر بأن الطبيعة والفن اتحدا ليشكلا معاً ملاذاً للفن والجمال. هذا الموقع المميز يجعل من زيارة المتحف رحلة مثالية، حيث يتداخل الفن مع الطبيعة ليخلق تجربة لا تُنسى.
لنلقي نظرة أقرب على بعض الأعمال التي يحتويها متحف هندية. تخيل أن تقف أمام لوحة لليوناردو دافنشي، تشعر بأنك ترى عبقريته تخرج من الورق لتلامس روحك. ثم تنتقل إلى أعمال بيكاسو، وتجد نفسك في عالم من الألوان والأشكال التي تحاول فك رموزها. لكن ما يُميز هذا المتحف هو عدم اقتصاره على الفنانين الغربيين؛ فهنا يمكنك رؤية أعمال لفنانين عرب مثل جورج بهجوري، الذي يعكس بأسلوبه الساخر والساخن الحياة العربية بتفاصيلها ومفارقاتها، وحلمي التوني، الذي تأخذك لوحاته إلى عالم من التراث والأساطير برؤية عصرية.
ولا يُمكن أن نتجاهل أعمال حسن الشرق، الفنان المصري الفريد بأسلوبه، الذي يُحول الموروث الشعبي المصري إلى لوحات نابضة بالحياة، وأيضاً إبراهيم الدسوقي، الذي يتلاعب بالألوان والأشكال ليعبر عن الهوية المصرية بروح إبداعية. أما أشرف زكي، فهو من الفنانين المعاصرين الذين نجحوا في إحياء تقنيات جديدة، مما يخلق تنوعاً مذهلاً بين مدارس وأساليب الفن.
متحف هندية ليس مجرد مكان للعرض، بل يمثل نقطة تلاقي للفنانين وعشاق الفن من كافة أنحاء العالم. كثير من الفعاليات الفنية تُقام هنا بشكل دوري، مما يجعله منصة للتبادل الثقافي والحوار الفني. تخيل أن تكون في مكان تلتقي فيه بتجارب وأفكار فنانين من خلفيات متنوعة، مما يفتح آفاق جديدة للتعبير الفني ولتذوق الفن بشكل أعمق.
زيارتي لمتحف هندية كانت أكثر من مجرد جولة؛ كانت رحلة ثقافية وبصرية ألهمتني وجعلتني أرى كيف يُمكن للشغف أن يصنع المعجزات. الأستاذ سامي هندية نجح في بناء جسر بين الحضارات عبر الفن، جامعاً بين اللوحات العالمية والكنوز العربية في مكان واحد. هذا المتحف هو كنز لا يقدر بثمن، ومبادرة تستحق كل الدعم والتقدير. فهنيئاً للأردن وللوطن العربي بهذا الصرح الفني، وهنيئاً لنا بزخم فني يُضاف إلى ثقافتنا، ليكون “لوفر العرب” منصة لأجيال تتذوق وتتعلم وتستمتع بالفن.
★ناقد وفنان تشكيلي ـ مصر.