علاء الجابر: “فيروز الصغيرة” تعود من جديد في (سيب نفسك)!
علاء الجابر★
إنها فاطمة محمد علي، (مِكس) من روح فيروز الصغيرة، وخفة دم إسماعيل ياسين، وقفشات شكوكو، كل ذلك مغلف بكيان عاشق للفن، وذات (سابتها) فاطمة لتنطلق بلا أية حواجز في (سيب نفسك).
مونودراما تقترب من الساعة الكاملة، لكنك تشعر بأنها لم تتجاوز الدقائق، بسبب خفة دم، وتلقائية، واحترافية ممثلتها، التي قدمت العرض بإيقاع ساخن، سريع، لا يهبط أبداً، ولعب مدروس بمفردات العرض من موسيقى، وأغانٍ، وحركات إيقاعية، وعرائس، تخللت المشاهد التمثيلية التي جمعت بين الفكاهة والألم، بشكل يجعلك لا تحرك رأسك، أو تلتفت حولك، أو تنشغل بهاتفك، ولو لدقيقة واحدة.
اِستطاعت فاطمة محمد علي، أن تلوّن في الأداء، عبر التنقل من شخصية إلى أخرى، بكل سهولة ويسر في مسرحية (سيب نفسك)، التي تدور حكايتها حول عاملة نظافة (كنّاسة)، يشاء حظها العاثر قبل انتهاء (ورديتها) بدقائق، أن تواجه شخصاً يحاول الانتحار من فوق سطح إحدى البنايات، فتحاول بكل ما أوتيت من ذكاء، وخبرة حياتية، أن تمنعه من الانتحار، ليس حباً فيه، فهي ترى بأن رغبته بالانتحار – نظرا لخسارة تجارته – سبباً تافهاً، ولا يستحق الِانتحار، في ظل معاناة الكثير من البشر، الذين يفتقدون لأبسط متطلبات الحياة.
أما محاولاتها لثنيه عن قرار الانتحار، فجاءت بدافع شخصي بحت، كونها لا تريد لتلك اللحظة المأساوية، أن تتم أثناء ساعات عملها، خشية أن يؤخرها ذلك الحدث الطارئ عن شراء (البلوزة)، التي ظلت تحلم بها لأشهر طويلة، فانتحار هذا الرجل، حتماً سيؤدي إلى زيادة ساعات عملها، إلى حين لملمة أشلائه، وتنظيف المكان قبل بدء (الوردية) التالية.
عمل فني يضحكك ويبعث الحزن في قلبك بنفس الوقت، ويذكرك في كل مشاهده بتوافه الأمور، التي باتت تشغلك يومياً، وتسيطر على تفكيرك، وفي المقابل أنت تغفل عن كل النعم، التي تحيط بك… حيث تقول الكنَّاسة: “تزعل وأنت بتغسل وجهك الصبح، هناك من يغسل كليته يومياً وهو مبتسم”.
تؤكد لك، وهي (الكنَّاسة)، التي لا تمتلك من حطام الدنيا شيئاً، أن حدثاً سعيداً، أو كلمة بسيطة، وربما (طبطبة) قد تسعدها وترضيها، بل إن الدنيا علمتها، أن المال لا يمكنه تغيير كينونة الإنسان، كما تقول:” (الجزمة) حتى وإن ملأتها بالألماس، ستبقى أيضاً (جزمة)”!
(كنَّاسة) تشكل (بلوزة) قمة أمانيها، خططت للحصول عليها، وجمعت قيمتها من قوت يومها منذ شهور، لتشتريها قبل أن يرتفع سعرها، في حين أن هناك من يرغب بالانتحار، لأن شركته تعثرت مالياً!
ملأت فاطمة محمد علي، القاعة الصغيرة في مسرح السلام، بالحيوية والنشاط، ونشرت روح التفاؤل والفرح، بين غناء بصوت يجيد اللعب على كل الطبقات دون أية صعوبة، ورقص متعدد الانتماءات، وروح ترسل البهجة إلى كل فرد من جمهور العرض، لتشعره وكأن العرض له وحده، وجسد عرف متطلبات الشخصية، فتعامل معها، دون أية إضافات خارج سياقها، لتناسب شخصية “الكنَّاسة”.
الملاحظة الوحيدة الخاصة بالأداء، والتي لم أكن أتمناها في العرض، كانت دموع “الكناسة” التي انسابت في أحد المشاهد. فرغم صدق الأداء في هذا المشهد، إلا أن الممثلة لم تكن بحاجة للبكاء، في ظل أداء اشتبكت فيه مع الجمهور كثيراً، خاصة وأنها تمتلك القدرة على إيصال مشاعرها بلا دموع.
اِختار المخرج جمال ياقوت، الأسلوب البسيط الذي يفكك الحدث بطريقة انسيابية، ويوزع حركة الممثل بين الصالة الخارجية للمسرح (الاستقبال) حين تم استدعاء الجمهور للقاعة، وبين مقدمة القاعة/الغرفة، أثناء الحركات الإيقاعية، أو حديث النفس، ويمين الخشبة في لحظات الحوار، مع صاحب الشركة (الوهمي)، والشباك الذي جعله مكاناً لسرد الحكايات، للاستفادة من شكل العرائس، الذي يناسبه الصندوق، ولحظات التداول الفني بين الممثلة والعروسة الكبيرة، التي مثلت دور الكاتب المخادع، الذي يحاول إغواء (الكنَّاسة) أثناء إقدامها على تأليف كتاب يروي حياتها.
كانت الإضاءة كاشفة طوال العرض، بما يتسق ومنهجية العرض، وكما هو مفترض في مكان كالسطح، مع بعض التغيير في محاولة لمجاراة الحالات الإنسانية المتغيرة للشخصية، وإن شكل تغييرها السريع في بعض الأحيان، مصدر قطع لاسترسال المتلقي مع العرض.
وأعتقد أن الديكور، وإن كان معبراً عن أجواء سطح البناية، إلا أنه لم يكن موظفاً بالكامل، فرغم صغر حجم القاعة، إلا أن هناك عدة مناطق لم تستخدم على الإطلاق، وعدة قطع بدت زائدة عن المتطلبات الدرامية.
كما أعتقد، وأنا المتابع لإبداع وتكنيك المخرج ومصمم الرقصات مناضل عنتر، بأن هناك ما لم أتبينه في هذا العمل، لأنني لم أجد أثراً لبصمة عنتر المميزة، التي أعرفها جيداً، والتي أجزم بأنني لم أشاهدها في هذا العرض على الاطلاق، على الرغم من وجود اسم عنتر أمام الاستعراضات على بوستر العمل!
أما الأشعار كانت مبهجة، وموظفة بشكل يتناسب وطبيعة العرض تماماً، وحملت لغة انسيابية جميلة، تبعث على الحياة والمرح، والحيوية، كما أن الألحان، كانت متماشية مع روح تلك الأشعار، بما يحث على الأمل والتفاؤل. كما ساهمت الموسيقى الحية، في تشكيل العرض، وإضفاء الحيوية عليه، وبدت وكأنها تنطق من داخل الشخصية، حيث تحكمت فيها الممثلة، بشكل يشعرك بأنها هي من ترتجل نوع الموسيقى، وتحدد مسارها وماذا تريد منها (رغم أن تلك المقطوعات، متفق عليها بالطبع).
حتى الدخول في حواريات مع الجمهور، ودمجها بالعرض، جاءت متناغمة بفضل قدرة فاطمة محمد علي على أن تُضَفِّرَ كل ما يتعلق بالجمهور بتفاصيل ومقتضيات العرض، وتدير كل ذلك باحترافية فنية عالية، دون أن تجعل ذلك يفلت منها، سواء لصالح الممثلة بداخلها، أو لصالح المتداخل معها من الجمهور.
فاطمة محمد علي، مزيج من قدرات فنية تحتار في تصنيفها، فهي تجمع بين الغناء والاستعراض، والتمثيل بجميع أشكاله، بالإضافة إلى قدرات فنان ستاند أب كوميدي أيضاً، وأعتقد أن عدم التصنيف هذا، بدلاً من أن يكون في صالح فاطمة محمد علي، أصبح ضدها، حيث إن ما نالته من مكانة فنية حتى اليوم، لا يتناسب أبداً، وما تمتلكه من موهبة فنية، لا يمكن لأي شخص لديه عيناً ناقدة، أن يغفل عنها.
وأعجب حقيقة من أن فنانة شاملة مثل فاطمة محمد علي، لم تأخذ ما تستحق من فرص فنية تتلاءم وقدراتها حتى اليوم، مما جعلها تلجأ لوسائل التواصل الاجتماعي، التي قدرتها بما يتناسب وموهبتها، وإن كنت أعتقد أنه ليس موقعها، الذي يجب أن تكون فيه.
العرض المونودرامي (سيب نفسك) عرض ناجح بكل عناصره الفنية، يستحق المشاهدة، خاصة من قبل الشباب المتشائم، والثائر على حياته، لأتفه الأسباب.
وهو عرض يستحق التحية، لجهة الإنتاج ممثلة بمسرح السلام، ومديره (محسن منصور)، الجهة التي قدمته في ظل الانحسار الكامل لعروض المونودراما.
شكراً لجميع صناع العرض، وعلى رأسهم (فاطمة محمد علي) التي بذلت جهداً كبيراً في سبيل أن نخرج من العرض، بطاقة إيجابية محبة للحياة بشكل أكبر، وتحية لكل من ساهم في وصول العرض للجمهور.
فريق عرض (سيب نفسك) تأليف: مارك إيجيا، ترجمة: د. نبيلة حسن، دراماتورج وإخراج: د. جمال ياقوت ديكور: أحمد أمين، أزياء: نهاد السيد، تصميم وتنفيذ عروسة المؤلف: د. نبيل الفيلكاوي، تصميم وتنفيذ عرايس الصياد والحورية: د. أمير عبد المسيح، إضاءة: إبراهيم الفرن، أشعار: د. محمد مخيمر، موسيقى وألحان: حاتم عزت، اِستعراضات: مناضل عنتر، دعاية وسوشيال ميديا: محمد فاضل، هيئة الإخراج: نهى فؤاد، منال حامد، منى مهدي. |
___________________
★ رئيس التحرير