مسرح

وليد خيري: “كارمن”.. بين أنغام الحرية وندوب القدر.

وليد خيري
يعود المسرح المصري من جديد ليعيد تفكيك أسطورة “كارمن” عبر عرض متوهج بأنفاس الحرية، من إخراج ناصر عبد المنعم وبطولة ريم أحمد. جرى هذا الاقتباس عبر رؤية إخراجية جمعت بين الوفاء للأصل وبراعة ترويضه داخل بيئة مصرية معاصرة، ليصبح العرض حدثا فنيا يستحق الوقوف أمام كل تفصيلة فيه.

الإعداد المسرحي للنص وخصوصية المعالجة المصرية

انطلاق العرض من نص “بروسبير ميريميه” الأصل وروايته عن “كارمن” تداخل مع تراث الأوبرا، ليقدم خطابًا دراميًا واضحًا وملتزمًا بروح الحرية التي مثلتها “كارمن”. إلا أن ناصر عبد المنعم لم يخضع للنص في صورته الغربية التقليدية، بل أعاد كتابة الحكاية في ضوء خصوصية محلية وملامح مجتمعنا، فتم تحويل البطلة إلى شخصية ذات جذور إنسانية، تمثل الغجرية المتحررة “كارمن”، وتسكنها رغبة مجنونة في تحدي القيود والانتصار للذات.. هذه الرؤية تظهر جليًا في رسم العلاقات البشرية المتشابكة والجريئة، واستحضار نهايات مأساوية دون تجاوز للحداثة في طرح القضايا الاجتماعية والإنسانية.

الإخراج: فلسفة بصرية وسرد متداخل

ناصر عبد المنعم أبدع في توظيف تقنيات السرد غير الخطي، معتمدًا أسلوب الفلاش باك ودائرة زمنية رمزية تبدأ من المشهد الأخير خوسيه في الزنزانة، ثم تقودنا عبر دوائر سردية متشابكة تعيد إنتاج الحدث وتمزج بين الواقع والتخييل. ما ميز هذا الإخراج هو الاعتماد على ثنائية الصوت السارد بين خوسيه وقارئة أوراق الطاروط، وهو ما أضاف لطبقة الأحداث بعدًا فلسفيًا وإنسانيا، وسمح بتعدد قراءات الشخصية، دافعًا نحو موقف جمالي يعارض سلبية السرد التقليدي الذي يقدم المرأة الغجرية كفريسة للرغبات الذكورية فقط.
أسهم اختيار ريم أحمد لدور كارمن في إضفاء صدق تعبيري كبير على الشخصية، خاصة أنها تملك خلفية مزدوجة في الرقص والتمثيل، ما أنتج حضورًا جسديًا متكاملا يليق بروح الشخصية المحورية.. أضف إلى ذلك توظيف المخرج لسالي أحمد كمصممة رقصات العرض، وهو ما زاد من قوة الاستعراضات التي شكلت جزءًا عضويًا من مفهوم المسرح عند ناصر عبد المنعم، حيث تتحول الحركات إلى لغة درامية لا تُكتفى بدور التزيين بل تتورط في بناء المصائر والشخصيات.

الموسيقى: صوت الحرية وذاكرة الوجع

منذ المشهد الأول، كانت الموسيقى أحد مفاتيح العرض الأساسية، حاضرة بقوة في نبض الشخصيات وتوتر الأحداث.. لم تكتف الموسيقى بدور الخلفية، بل تماهت مع إحساس الشخصية الأم، وصنعت للعناصر الدرامية ضوءًا خاصًا. كان اللحن الأساس مستوحى من روح الغجر المشردة، في تفاعل مع الإيقاعات الشرقية والمقاطع الأوبرالية، في مزيج نادر لا يخرج عن كونه تعبيرًا عن حرية كارمن واندفاعها بغير حدود أمام صراعاتها الجسدية والنفسية مع العالم.

الاستعراضات: التمرد معجون بدم التراجيديا

لم تأت استعراضات العرض بوصفها زينة أو ترف، بل كانت مدمجة بالشخصيات وقادرة على صهر المشاهد في قلب التغيرات النفسية والدرامية.. مصممة الرقص، سالي أحمد، أعادت رسم الرقص الغجري في قالب عصري قوي، وتجلّى هذا في حالة التوتر الداخلي لكارمن وشركائها، حيث يتماهى الصراع الجسدي مع صراع المصير والقيم والثورة على السلطة، ويظهر ذلك في المقاطع التي يتداخل فيها الرقص مع الألم والرغبة، لتصبح اللغة البصرية أداة لاستجلاء أغوار الشخصية، ومساءلة مفاهيم الحرية والقدر بلغة الجسد.

الديكور: تخليق فضاء الاغتراب

حافظ الديكور على خصوصية المسرح الغجري بنكهة مصرية.. فضاء مفتوح تعلوه علامات الترحال والتحرر، مع حضور ثابت لرموز السيرك وأوراق الطاروط والعربات الغجرية، لينحت صورة للاغتراب في قلب المدينة. استطاع محمد عطية مصمم الديكور أن يضع المتفرج داخل عالم كارمن: عالم ينوس بين العشوائية والنظام، الفوضى والانضباط؛ ملامح متغيرة تعكس صراعات النفس البشرية وتستدعي صور الكرنفال والفجيعة في الوقت ذاته.

الإضاءة: تجسيد العلاقات والصراعات

اللعب الضوئي كان عنصرًا أساسيًا في تفكيك النزاعات، وإبراز التوتر بين الشخصيات، حيث استخدم المخرج إضاءة ديناميكية تراوح بين الظلال الحادة والإشراق الشاعري لخلق لحظات التأمل والذروة. الإضاءة هنا ليست فقط تابعًا للحدث بل مؤسسًا للجو النفسي العام، تزداد حدة عند لحظات الكشف، وتخفت عند التأملات الإنسانية والدينية، فتحول المسرح أحيانًا إلى فضاء أسطوري، وأحيانًا أخرى إلى حضن مأساوي لا بديل عنه.

الملابس: لغة الطبقات وأيقونة التمرد

أزياء الشخصيات حملت خطابًا صارخًا حول الانتماء والمقاومة.. ثياب الغجر جاءت ملونة وحرة ومتداخلة بين القديم والعصري، فنقلت ببراعة حرب الشخصيات للانعتاق من الأغلال الاجتماعية.. كان زي كارمن تصميم سالي أحمد أيقونة للأنوثة المتوحشة والزهد المغوي، في حين أظهرت الملابس الرجالية تناقضات السلطة والرغبة واختلاف الانتماءات.

التمثيل: ريم أحمد في قلب الأسطورة الجديدة

تمكنت ريم أحمد من تفكيك شخصية كارمن وتخليقها من جديد.. لم تعتمد على الإغواء التقليدي بل أضافت أبعادًا نفسية عميقة وحركات معبرة عن الصراع الداخلي والرغبة والتمرد.. أظهر أداؤها حضورًا جسديًّا قوياً، مع براعة دلالية في الانتقال بين حالات الشخصية، من البراءة والثورة إلى الإغواء والعذاب، فحولتها إلى أيقونة تجمع بين النقاء وعهر الجسد، وتنتقل بالمشاهد بين التعاطف والدهشة والغضب.
التشكيل الثاني أتى من خوسيه العاشق المهزوم، حيث نجح في إبراز انكسار النفس والأسى الداخلي، وأسهم دعم الممثلين المساعدين في إثراء المناخ الكرنفالي للعمل، خصوصًا قارئة أوراق التاروت التي أثرت الحدث بقراءات متعددة وإشارات رمزية صنعت من حول كارمن هالة أسطورية معاصرة.

السينوغرافيا: المشهد الدائري واختزال صخب العالم

استمر التصميم السينوغرافي في خدمة الرؤية الإخراجية عبر توزيع العناصر على المسرح بما يشبه دوائر السرد المتداخلة، حيث التحول من فضاء خارجي واسع إلى زنزانة ضيقة يعيد إنتاج القهر والاغتراب، كما جاءت المشاهد الاستعراضية لتحاكي مأساة الشخصية وتوزيع القدر على الجميع، بينما تظل الزخارف والرموز تفتح أبواب التأمل في مصير الإنسان، وتضع كارمن في مواجهة مستمرة مع نفسها والعالم.

حرية كارمن سؤال فلسفي

تميز العرض برؤية إخراجية معاصرة جمعت بين الحداثة واحترام التراث، منح اللغة المسرحية قوة واقعية ورمزية في آن، وجعل من ريم أحمد تجسيدًا حيًا لصرخات المرأة المتوحشة المنحازة لحريتها.. الموسيقى عززت حس الدرجة القصوى للمأساة والاندفاع، الاستعراضات صنعت لغة جديدة للجسد المقاوم، الديكور أطلق طاقات الاغتراب الاجتماعي، الإضاءة شيدت جدرانًا بين التوتر والهدوء، والملابس تمردت على الأنماط التقليدية، بينما أظهر الأداء التمثيلي تجلي شخصية كارمن كأيقونة للحرية والقدر.
هكذا خرج العرض من دائرة المحاكاة ليؤسس لسؤال فلسفي حول حرية الإنسان والتوق للفناء والإبداع على حد سواء، ويمنح المسرح المصري مأساة جديدة لا تقل عن الأصل في عمقها الدرامي، ولا تبتعد عن الزمن إلا لتضيء في قلبه حقيقة الإنسان المنكسر والساعي للتحرر، مؤكدًا أن “كارمن” ستبقى أبدًا جرحًا مفتوحًا في ذاكرة المسرح والعاشقين للفن والثورة على القيود.


★سيناريست وباحث مسرحي ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى