سيف الأمير:”نحن في حاجة إلى المساعدات الكونية ” السينما حين تصغي للصمت.


سيف الأمير★
في زمن تتكاثر فيه الصور وتُختزل فيه المعاني، يُطل علينا فيلم “نحن في حاجة إلى المساعدات الكونية” للمخرج المصري “أحمد عماد” كعمل روائي قصير لا يتجاوز سبع دقائق، لكنه يُقدّم تجربة سينمائية ناضجة، تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكون من خلال عدسة عبثية ساخرة.
يُجسّد الفيلم ببراعة كيف يمكن لفكرة غير تقليدية أن تتحول إلى استعارة إنسانية عميقة؛ حيث تلعب “بعوضة” دور الوسيط الكوني في إصلاح علاقة زوجين متوترة.
يجلس زوجان في غرفة واحدة، في حالة من التوتر والصمت، لا نعرف سبب الخلاف، ولا نسمع أي حوار، فجأة، تقتحم بعوضة المشهد، وتبدأ في التحليق بينهما، لتُحدث سلسلة من التفاعلات الجسدية والرمزية، تُعيد تشكيل العلاقة بينهما.
الفيلم يخلو من الحوار، ويعتمد كليّاً على الصورة، والحركة، والإيماءة.

يُجسّد الإخراج في هذا الفيلم وعياً سينمائياً حادّاً؛ حيث يُدرك “أحمد عماد” حدود الزمن القصير، ويُحسن استثماره. اختياره لغياب الحوار يُعيد السينما إلى جوهرها البصري، ويُبرز التوتر الداخلي للشخصيات من خلال الحركة والإيماءة.
يُوظّف التصوير الكادر الثابت واللقطات القريبة لخلق إحساس بالاختناق، ثم يُحرّك الكاميرا تدريجياً مع دخول البعوضة، وكأن الكون بدأ يتنفس من جديد.
ويُراعي المونتاج الإيقاع الداخلي للمشهد، ويخلق ديناميكية سردية تُحاكي تصاعد التوتر ثم انحلاله.
ويُصبح الصوت، رغم غياب الحوار، الشخصية الثالثة في الفيلم؛ حيث يُعبّر صوت البعوضة عن التوتر، والإزعاج، ثم التحول.
يُجسّد التمثيل الداخلي للممثلين ” أحمد أبو زيد” و”مونيكا ألفونس” الانفصال الإدراكي بصدق، ويُحاكي الواقع بصمتٍ ناطق.
يُناقش الفيلم فكرة التواصل الإنساني من منظور عبثي ساخر.
البعوضة، ككائن غير عقلاني، تُصبح وسيطاً لإعادة بناء العلاقة، في إشارة إلى أن الكون أحياناً يتدخل بطرق غير متوقعة.
في السياق الثقافي المصري؛ حيث تُعتبر الحشرات مصدر إزعاج، يُعيد الفيلم تعريفها كرمز للوساطة الكونية
الرسالة واضحة: (نحن لا نحتاج إلى كلمات، بل إلى لحظة عبثية تُعيد ترتيب المشاعر).
وتُعَدُّ البنية السردية للفيلم بسيطة، لكنها فعّالة.
البداية تُقدّم حالة الصمت والتوتر، العقدة تتصاعد مع دخول البعوضة، الذروة تأتي حين يحاول الزوجان التخلص منها، والنهاية تُجسّد انفراجاً عاطفياً عبر ضحكة مشتركة.
الحبكة تُبنى دون حوار، وتُحافظ على تصاعد درامي واضح، رغم محدودية الزمن والمكان.
يُثير الفيلم تأملاً عميقاً في طبيعة العلاقات الإنسانية.
هل نحتاج إلى كلمات؟ أم أن الصمت والحدث العبثي يكفيان؟
الجمهور يتفاعل مع الفيلم بصرياً من خلال حركة البعوضة وتعبيرات الوجه، وفكرياً من خلال التساؤل عن معنى “المساعدات الكونية”.
يترك الفيلم أثراً نفسياً، ويُحفّز على إعادة التفكير في أدوات التواصل، وفي دور الصدفة والعبث في حياتنا.

“نحن في حاجة إلى المساعدات الكونية” هو فيلم قصير، لكنه يُقدّم تجربة سينمائية ناضجة، تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكون من خلال عدسة عبثية ساخرة.
الإخراج الواعي، والتصوير المتقن، والصوت المصمم بدقة، يُحوّلون غرفة واحدة إلى مسرح كوني.
يُثبت الفيلم أن السينما ليست بحاجة إلى حوار لتكون مؤثرة، بل إلى فكرة ذكية، وتنفيذ بصري صادق.
اِقتراحي للمخرج “أحمد عماد” هو أن يُواصل هذا النهج التجريبي، وأن يُطوّر أفلاماً أطول تُحافظ على هذا الحس البصري والفكري، دون أن يفقد بساطة الفكرة وعمق التأويل.
ناقد ـ مصر




