إذاعة وتليفزيونمشاركات شبابية

بيشوي عدلي: لم اختفت القنوات والصحف؟

جبال تحت الجليد

بيشوي عدلي★

توارت في الآونة الأخيرة الأهمية التي يوليها رجل الشارع،  لوسائل الإعلام التقليدي بما تشمله من قنوات تليفزيونية، تبث عبر الأقمار الصناعية، على مدار ساعات اليوم الأربع والعشرين، فضلاً عن تداعي دور الصحف الورقية، والذي لا يرجع إلى تدهور الإعلام الورقي في حد ذاته، بل إلى إهمال المطبوعات الورقية برمتها، إن كانت كتاباً أم صحيفة ورقية أم مجلة، نظراً لاحتلال رقعة مساحتها من قبل الفضاء الرقمي، وإن كان المجال لا يتسع للحديث عن هذه العملية التبادلية، التي انتابت متلقي القرن الحادي والعشرين، فيما بعد جائحة كورونا على وجه التحديد، غير إنه يتسع لتفحص إعراض نفس المتلقي عما عهدناه من وسائل الإعلام المألوفة، فما هي الأسباب التي شكلت هذه الظاهرة؟ يمكننا أن نوجز علة هذه الظاهرة فيما يلي من النقاط، التي نرجو أن تصيب من المنطق نذرًا يسيرًا.

1- المصداقية

“هنالك بعض الأدوية التي تسبب كذا وكذا ….. للأسف لن أستطيع ذكر أسمائها” …. طالما سمعت مثل هذه العبارة يتداولها ضيوف المحطات التلفزيونية، حالما يتكلمون عن أحد العقاقير أو المنتجات أو ما سوى ذلك …. قد يكون علتهم عدم التشهير بمُلَّاك هذه الأشياء، أو اعتبار ما يقولونه بمثابة دعاية غير مدفوعة الأجر، على عكس أسلوب العرض على وسائل التواصل المختلفة، والتي تكون “على عينك يا تاجر” في أغلب الأحيان، ستجد ذكر الأشياء والمنتجات والأشخاص بمسمياتها الأصلية، بل أن شركات العصر الحالي، تسعى إلى تداول اسمها بصورة أكبر على مواقع التواصل الاجتماعي عوضاً عن المنافذ التقليدية للإعلام

وبالتالي سينعكس الأمر ذاته على المتلقي الذي لا يريد مزيداً من الإجابات الهلامية، لا يريد مناقشة الأفكار الكلية عوضاً عن الأشياء الحقيقية، تخيل أنك تريد شراء أحد منتجات مصنع زيكو زيكو للأسمدة العضوية …. بمجرد كتابة اسم المصنع في يوتيوب على سبيل المثال ستجد بعض الفيديوهات التي تنقل الصورة الكاملة التي تحتاجها عن هذا المصنع ….. الأمر الذي لن تجده حتماً في الصحف أو ما شابه … قد يطالبهم زيكو بيه شخصياً، بتعويض ضخم جَرَّاء هذا.

2- المحاكاة

إذا أمْعَنَّا النظر في الصورة التي يؤطر بها مجتمع الفيسبوك مثلًا الإعلاميين على القنوات المعهودة، لوجدناها صورة ساخرة، فكاهية، لا تنطوي في أغلب الأحيان على قدر من الاحترام، وقد نعزو ذلك ببساطة إلى توجهاتهم السياسية، التي قد لا تلقى ترحيباً من هذا الطرف أو ذاك، على أننا في الآن نفسه ، نلحظ وجود المشتغلين بالسياسة أو الاقتصاد أو غيرهما على وسائل التواصل، على أنهم – راجع النقطة الأولى – لا يَدَّعُون الحيادية بأي حال من الأحوال، بل إن لكل منهم توجهاً محدداً لا يخفى على متابعيه، ولكن هذا ليس بيت القصيد.

إنما بيت القصيد هو الصورة التي يظهر بها إعلاميو التلفزيون، فطالما يرتدون الملابس الأنيقة، ويستخدمون أحدث المعدات في تصوير برامجهم، ثمة ماكيير محترف لتهيئتهم للظهور أمام الكاميرات، على عكس مقدمي محتوى اليوتيوب، الذين غالباً ما يعانون من قلة الإمكانيات بشكل واضح، الأمر الذي يجد فيه المتلقي من الطبقة الفقيرة أو المتوسطة نفسه بصورة أو بأخرى، على الأقل هذا المذيع – إن جاز تسميته كذلك – لا يستطيع طباعة اسم البرنامج الذي يقدمه على الكوب الزجاجي كما نرى في التلفاز ،إذن فهذا الرجل يمثلني بصورة أو بأخرى من الناحية الاقتصادية، فما المانع أن يمثلني بدوره في النواحي النفسية والإنسانية.

3- وداعاً للأبراج العاجية

هذا المنحى سيتتبع ما ذكرناه سلفاً، لنفترض أن أحد المتابعين لعمرو أديب كتب تعليقاً على إحدى الحلقات، فما احتمالية أن يرد عمرو أديب بنفسه على هذه التعليقات؟ احتمال واه، على حين تتزايد هذه الاحتمالية جداً في حالة قنوات اليوتيوب، فيحرص منشئ المحتوى حينها على إقامة علاقة، تكاد تكون شخصية مع جمهوره، تسمح بزرع شيء من الولاء والعاطفة التي تضمن استمرارية مشاهدة الجمهور للمحتوى، بغض النظر عن المحتوى المقدم نفسه، لذا فنلحظ العبارة المنتشرة “إعجاب قبل القراءة / قبل المشاهدة”

فلم يعد هذا الإعلامي إذن يقبع في برج عاجي، يحول بينه وبين التفاعل المباشر مع المتلقي، الأمر الذي معه قد تتعجب عند انضمام بعض رواد الإعلام البديل إلى الإعلام التقليدي إثر بعض الفعاليات، مثلما حدث مع المذيع ممدوح نصر الله الذي اشتهر بتقديمه للمحتوى الكروي، إذ انضم لطاقم تحليل قنوات bein الرياضية، مما جعله يفقد الكثير في رأيي من رونقه التلقائي الأخاذ الذي يتمتع به في قناته الخاصة، التي هي بطبيعة الحال لن تحتم عليه أي صيغة رسمية مملة أو حيادية للنقاشات، إذ طالما يتبع مقدمو البرامج سياسة القناة ، ولا يحيدون عنها

4- على كل لون يا محتوى

هذه الجزئية تتعلق بنوع المحتوى المقدم، فإن المحتوى الذي يقدم على مواقع هو: أي محتوى يمكن تخيله، قد تجد في الإعلام التقليدي محتوى رياضي، أو محتوى عن الطبخ، لكن لن تجد محتوى تعليمي مثلاً بسهولة، أو محتوى ترفيهي مثل محتوى الألعاب، أو حتى محتوى تقييم الأجهزة الكهربائية والتكنولوجية، إذ يظل المحتوى المقدم يتماس بصورة كبيرة مع ما يريده المتلقون فعلاً، مع ما يشغل أذهانهم، ومع ما يفيدهم على المستوى الشخصي، فقد لا يهتم الشاب العادي كثيراً بأخبار الحرب الروسية الأوكرانية، قدر اهتمامه بتعلم أشياء تساعده في سوق العمل مثل اللغة الإنجليزية، وبرامج الكمبيوتر، الأمر الذي لا نجده إلا لماماً في حالة الإعلام التقليدي، وهذا بدوره ينقل رسالة ايجابية للمشاهد، والمتابع نفسه، في إمكانية تقديم محتوى مماثل، كما يفعل مئات الآلاف من البشر حول العمل.

5- التلصص

لا يخفى على أحد تيسر نقل الأخبار، كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مما أسهم في تحقيق المقولة الدارجة “العالم قرية صغيرة ” لتضحى حقيقة وليست مجرد مجاز، إلا إنه يجدر بنا التوقف حول ماهية الأخبار، هذه الأخبار لا تقتصر على الأخبار المحلية أو الدولية، وإنما تتعدى ذلك إلى نطاق الأشخاص المقربين منا، زملائنا في العمل أو في الدراسة، جيراننا، الأمر الذي أتاح لنا إشباع قدراً أكبر من حاجتنا إلى التجسس على الآخرين، وعلى ما ينتوون  فعله، وما يدور بخلدهم، الشيء الذي لن يتطلب منَّا أي معاناة، بل مجرد بعض التصفح البريء كافٍ لتعرف هذه الأخبار “الشخصية والخاصة” عوضاً عن معرفتك بتحركات الأمم المتحدة، ومكان وموعد إقامة حفل عمرو دياب الجديد، وبهذا أصبح الإعلام يتمركز حول المتلقي في المقام الأول.

ونلحظ هذا على مستوى الصورة الذهنية، فإنني أرى أن السبب الرئيس في إدمان موقع مثل الفيسبوك مثلًا، يرجع لتلبية رغبة الإنسان الدفينة في الظهور، واعتبار أن كل ما يجري في هذا العالم، هو مجرد خلفية وديكور عاكس لحياة هذا الفرد وانجازاته – حتى وإن كانت وهمية مثل تغيير المستخدم لصورة البروفايل – وبث هذه الحياة التكرارية التي قد لا تتجاوز حياة غيره من البشر، باعتبارها مثالاً فريداً من نوعه، جديرة بالخلود، في الواقع إن تغذية مواقع التواصل الاجتماعي، للغرور البشري يطول شرحه.

وأخيرًا فإننا نضيف الأساس الذي يحوي هذه النقاط جميعها، وما يزيد عليها، وهو الحرية، الحلم السرمدي الذي سعى إليه الإنسان منذ بدء الخليقة، فالعامل الأهم هو الحرية التي تسمح للمتلقي بمشاهدة ما يشاء وقتما ما يشاء، وبأي لون من المحتوى الذي يريده، وسمحت له بأن يكون أداة فاعلة في هذه الصنعة الإعلامية، تارة بالمحتوى الذي قد يقدمه هو نفسه برغم ضعف الإمكانيات، وتارة بتفاعله هو نفسه مع المحتوى المطروح، والذي من شأنه تعديل دفته إلى حيثما يشاء، وعلى الرغم من تباعد الفجوة ما بين جبهتي الإعلام التقليدي والبديل، إلا أن الإعلام التقليدي، يحاول الفوز بشريحة جديدة من الجمهور، بواسطة صفحات الجرائد والقنوات على السوشيال ميديا، فهل تميل الكفة ناحيتها مرة أخرى ؟ سؤال ينتظر إجابة الزمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتب ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى