سارة بدار★
شوكت حلمي وفان جوخ، مأساة أن تكون عبقرياً في مجتمع غير مؤهل إلا للأشخاص العاديين، فيجعلونك تبدو كمجنون، أو مدعاة للسخرية والتنكيل.
شوكت حلمي الأمير السابق، الذي يجيد عدة لغات، ويعزف باقتدار كبير أوصله إلى أن يؤلف سيمفونيات، كان عليه أن يستسلم لرأي رجل لا نعرف قيمته ووزنه في عالم الموسيقى، يخبره أن الناس ربما ستفهم فنه بعد مرور عشر سنوات.
اتُخِذَ هذا الكلام على محمل الجد، ويئس بعدها الأمير شوكت من أن يكون موسيقاراً عبقرياً.
هل عدم إعجاب الناس دليل على رداءة عمله، وبوصلة صحيحة لتغيير مساره؟ كم من أفلام فشلت تجارياً في زمنها، والآن نعتبرها تحفة فنية؟!
“إنني أحاول جاهداً أن أكون نفسي، ولا يهمني كثيراً هل يقبل الناس أم يرفضون” لم يبع فان جوخ سوى لوحة واحدة طوال حياته، وهو الذي رسم ما يقرب من 2100 لوحة وباع من هم أقل منه موهبة وفنًا الكثير من اللوحات.
أما هو وعلى الرغم من أنه لم يرَ نجاحه، لم يستسلم أبداً مثل الأمير شوكت.
هل يوجد من لا يعرف اسم فان جوخ الآن؟ بعض لوحاته لا تقدر بثمن، ربما حول الناس فان جوخ إلى بائس، مريض، ولكنه لم يتحول أبداً إلى المسخ الذي أرادوه.
المجتمع وما أدراك ما المجتمع؟ إنه مصاص الدماء الذي يمص دمك، ويقنعك بأنك ستعيش لمدة أكبر إذا ما اسلمت له روحك، أي حياة تلك التي نحياها بلا روح؟ بلا بصمة مختلفة، فقط ليتقبلنا “المجتمع”!
سافر فان جوخ إلى بلدان كثيرة باحثاً عن نفسه، بينما رحل الأمير شوكت عن نفسه ليشغل وظيفة عادية جداً، ربما براتب أقل بكثير مما كان يعطيه لسائقه، وهو ما اعتبره الجمهور، وكل من حوله من أبطال في الفيلم نجاحاً، وفي الحقيقة أراه انسحاقاً، كأنه يطلب ممن سلب ثروته، وأضاع كل ممتلكاته إحساناً لا وظيفة.
الوحدة، إنها سلاح المجتمع الذي لا يُخطئ أبداً لترويض المختلفين عنهم، ينبذونك فتقبل بشروطهم، وتتحول تدريجياً إلى شخص لا وصاية له على حياته، ويفعل ما يريدونه.
الخوف من الوحدة هو من جعل الأمير يقبل بوجود الدكتور في “حتى” ذي القميص المهلهل، الذي ما لبث بعد أن رأى كرفتات الأمير حتى انهار قائلاً “عندك كل الكارفاتات دي ومش لاقي تاكل، اسرح بيهم”.
قبل بوجود شخص لا يعرفه، ولم يقدم له سوى “كوز” ذرة بعد أن تخلى عنه الخدم لقلة ماله، ولم يتوانَ أحد الخدم عن تقليد طريقة “برم” شارب أحد أجداد الأمير ليتفنن في كيده، وكأن كل ما حدث لا يكفيه.
وبتمويل من جيهان ابنة الأمير، جلس الدكتور مُنعماً في قصر ومال الأمير، متظاهراً بأنها خدمة إنسانية، لم يكتفِ الدكتور بذلك، بل انتقده كما ينتقده الآخرون -هو الذي لا يعمل أيضاً، وشارك في مؤامرة تغييره إلى مسخ لا يشبهه -.
مول ثيو شقيق فان جوخ أيضاً بول جوجان ـ صديق فان جوخ ـ ليأتي ويجلس مع أخيه، يعينه على وحدته، ويرسمان معاً، ظن ثيو أنه بذلك يسعد أخاه، ولكن ما لبث جوجان أن انتقد فان جوخ بطريقة سببت له جرحاً كبيراً، لم يتوافق فان جوخ مع شخصية جوجان المغرورة والخشنة، و لم يتغير فان جوخ في طريقة رسمه مثلما أراد جوجان ، ولكنه أثر عليه للحد الذي جعله يقطع أذنه، ويذهب إلى المستشفى في هذه الفترة، وأيّاً كانت الأسباب الحقيقية وراء قطع الأذن، فإن وجود جوجان لم يزد الأمر إلا سوءاً ولكن فان جوخ لم يتحول إلى نسخة جديدة من جوجان، واستمر في طريقته.
سمح الأمير شوكت للناس أن ينالوا منه، ليس فقط في حلم أن يصبح موتسارت أو بيتهوفن القادم، بل أيضاً في تقديم الدور الوحيد الذي يجيده، وهو أن يكون أميراً.. الجميع يدرك مثلما قال دكتور “حتى” إنه سيفوز بكل تأكيد، ولكن تأتي لجنة التحكيم ذات العقليات “الميديوكر” ليتهموه بأنه بعيد كل البعد عن الدور، وأنه يصلح للقيام بدور رجل “فهلوي” تلهث وراءه النساء.
لو أن فان جوخ خرج الآن من قبره، واشترك في مسابقة لرسم لوحات تشبه لوحات فان جوخ، فإنه بكل تأكيد لن يفوز، هذا إن لم يتم نصيحته بترك الرسم نهائياً.
وعلى عكس النهايات السعيدة التي في أغلب الأحيان لا تتواجد إلا في الأفلام، نجح فان جوخ في أن يكون نفسه، ويصل لحلمه بالرغم مما عاناه من رفض في حياته، بدءاً من والديه، مروراً بالكنيسة، وانتهاءً بالنساء، وحتى عدم شراء لوحاته حتى شاخت روحه، ورسم لوحته الشهيرة “على أعتاب الخلود”، يظهر فان جوخ في هذه اللوحة باكياً عجوزاً.
يظن الناس أن فان جوخ قد انتحر، وفي الحقيقة ذهب لموعده مع الخلود، بينما انتحر الأمير شوكت الذي استسلم لتجريد المجتمع له من كونه أميراً مرتين، وسخروا من عبقريته، فتحول إلى حيوان أليف، قد تم ترويضه بكل قسوة، ولا أجد جملة لرثائه أبلغ من “ايه اللي سموك عامله في نفسك ده؟”
ــــــــــــــــــــــــ
★ كاتبة ــ مصــر