
أحمد المسيري★
تعتبر السينما والدراما، من الأدوات الأكثر جاذبية وقبولاً على المستوى الجماهيري، والأكثر فاعلية مقارنة بالوسائل الأخرى المكتوبة أو المسموعة، فللصورة السينمائية سحر خاص، وقد يستطيع فيلم أن يحرك عاطفة الجماهير ووجدانهم، أكثر من خطاب لأمهر القادة السياسيين، فهي ليست مجرد أداة للترفيه فقط، ولكنها تتعدى ذلك، لتصبح سلاحاً ناعماً، أخطر من أعتى الأسلحة الفَتَّاكة التي تمتلكها أقوى جيوش العالم، فالسلاح وسيلة لِاحتلال الأرض بغير إرادة أصحابها، بينما تخترق السينما العقول، وتسيطر عليها طواعية، وبكامل إرادة أصحابها، واليوم أصبح احتلال الأرض يبدأ من احتلال العقول، واحتلال العقول يكون عن طريق تغيير الفكر والثقافة، وأحياناً التاريخ، لتوحيد نمط الفكر السائد لدى جماعة ما، بما يتسق مع نمط التفكير للجماعة المسيطرة.
الأفروسنتريك، وتوظيفها للسينما
في الأيام الأخيرة، تسبب الإعلان الدعائي للعمل الوثائقي “الملكة كليوباترا” Queen Cleopatra من قبل منصة NETFLIX الشهيرة، والذي سيتم طرحه، بتاريخ العاشر من مايو 2023، في إثارة غضب العديد من المصريين، وإثارة الجدل في المجتمع المصري، حيث ظهرت الملكة كليوباترا بصورة مغايرة للحقيقة، بملامح إفريقية، وبشرة سمراء، وشعر مجعد، والعمل من بطولة “أديل جيمس” والتي جسدت شخصية الملكة كليوباترا، وسرعان ما أشارت أصابع الِاتهام إلى حركة ” الأفروسنتريك” Afrocentrism، أو المركزية الإفريقية، خاصة أن منتجة العمل “جادا بينكت”، زوجة الممثل الشهير “ويل سميت”، أيضاً من أصول إفريقية، سمراء البشرة.
ويعني مفهوم المركزية بصفة عامة وجود مركز قوة واحد، وكان في البداية يتحدد بأوروبا، أو بالغرب، ومصطلح الغرب كان يرتبط بمفهوم أوروبا، حيث كان يتم النظر إلى أوروبا، أنها كانت تتكون في مرحلة تاريخية معينة من قوة عظمى وقادة عظام، ومفهوم المركزية هنا قائم على التفوق العرقي، وهو مفهوم مرتبط ارتباطاً وثيقاُ بمصالح القوى المسيطرة، وهي ما يطلق عليها “المركزية الأوروبية” Eurocentrism. ([1])
وقد يرى البعض أن المركزية الإفريقية قد ظهرت كمفهوم مقابل، للمركزية الأوروبية قبل التحول إلى التطرف، والمبالغة، والتحيز الأيديولوجي من قبل البعض منها، حيث إنها ظهرت كمنظمة تحاول تسليط الضوء على إسهامات الأفارقة في تطور المجتمعات، ولا يستطيع أن ينكر أحد دورهم على مر التاريخ في المساهمة في صنع الحضارات، وكَمِّ المعاناة، التي مروا بها من تاريخ دموي استعبد بعضهم، واضطهد البعض الآخر، ومرورهم بسنوات من النضال لانتزاع حريتهم، ولكن أخذت بعض الأفكار تنحرف، وتتخطى محاولات إثبات إسهاماتها في بناء الحضارات، إلى مرحلة الهيمنة والِاستيلاء على الحضارات، عن طريق التزييف المقصود والمعلن للتاريخ، وظهرت بعض الِادعاءات التي تنسب الحضارة المصرية القديمة، وحضارة شمال إفريقيا إليهم.
وبالرجوع إلى العمل الوثائقي Queen Cleopatra الذي سيعرض على منصة Netflix، فسنجد أنه قام بتقديم صورة للملكة كليوباترا، مغايرة للصورة المنقولة عنها تاريخياً، من حيث الشكل، فمن المعروف تاريخياً أن الملكة كليوباترا كانت مقدونية، وقد ظهر ذلك أيضاً في الرسومات، وعلى النقوش والتماثيل، أو في الروايات التاريخية عنها، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، قد نجد نماذج تماثيل لصورة الملكة كليوباترا في بعض المتاحف الشهيرة، مثل “متحف الفاتيكان”، ومتحف برلين “Altes Museum Berlin “، بالإضافة إلى رسمها على واجهة معبد “حتحور” بدندرة، بصحبة نجلها قيصرون، ولم تظهر كل هذه المنحوتات أية سمات، تثبت أنها كانت بملامح إفريقية.
بالإضافة إلى تصريحات العديد من الأثريين، فقد ذكر “د. مجدي شاكر” كبير الأثريين بوزارة السياحة والأثار المصرية، بأن هذا الشكل عارٍ تماماً عن الحقيقة، لأن الملكة كليوباترا لها أصول يونانية ذات بشرة بيضاء، وأن لدى مصر العديد من العملات، التي تظهر فيها ملامح كليوباترا، البعيدة تمام البعد عن الفيلم، وهذا حسبما ورد في موقع الأخبار في مقال لمي السيد نشر بتاريخ 13/4/2023 ([2])، وهذا ما أكد عليه د. “زاهي حواس” وزير الدولة السابق لشئون الأثار في تصريحات له على موقع CNN بالعربية على أن العملات، التي تم العثور عليها داخل معبد “تابوزيريس ماجنا” غرب مدينة الإسكندرية، في رحلة البحث عن مقبرة كليوباترا، لم تتضمن أي سمات، أو ملامح سمراء([3]).
وعلى مستوى السينما، فقد كانت شخصية كليوباترا محل جذب لأنظار صناع السينما، وتم تجسيد شخصيتها في العديد من الأعمال، من أولها الفيلم الأمريكي الصامت “كليوباترا “، والذي صدر في عام 1917، والمأخوذ عن رواية الكاتب الإنجليزي سير “هنري رايدر هاجرد”[4])، والفيلم المصري “كليوباترا” لإبراهيم لاما في عام 1943، والفيلم الانجليزي “قيصر وكليوباترا” Caesar and Cleopatra عام 1945، والفيلم الإيطالي الكوميدي “ليلتين مع كليوباترا ” Two Nights with Cleopatra عام 1953بطولة “صوفيا لورين”، والفيلم الأمريكي البريطاني الأكثر شهرة “كليوباترا” Cleopatra، وهو فيلم تاريخي حاز على جائزة الأوسكار، وجسدت “إليزابيث تايلور” دور كليوباترا، ولم تظهر شخصية كليوباترا بملامح إفريقية في أي من هذه الأعمال السابقة، أو غيرها.
تعويض عن الإحساس بالِانسحاق الحضاري
ليست هذه المرة الأولى، التي تظهر فيها ملكة فرعونية سمراء البشرة، ففي عام 1991، صدر فيديو كليب للمطرب العالمي الراحل مايكل جاكسون بعنوان Remember The Time، وتم تصوير الفراعنة فيه على أنهم ذوو بشرة سمراء، وقد قام النجم الأمريكي “إيدي ميرفي” بأداء دور أحد ملوك الفراعنة، وبجانبه زوجته، التي كانت أقرب في المظهر والملابس، لشخصية الملكة الفرعونية الشهيرة “نفرتيتي”، ولكن افتقاد التطور التكنولوجي والانتشار الواسع للإنترنت، ومواقع التواصل الِاجتماعي، مقارنة بالوقت الحاضر، لم يساعد على إثارة الجدل، أو حتى لفت الِانتباه كما يحدث الآن، وقد استمرت محاولات البعض من حركة الأفروسنتريك في استغلال مواقع سلطتهم ونفوذهم، خاصة في مجال صناعة الصورة، للإحساس بالذاتية، والتفوق في مواجهة الشعور بالِانسحاق الحضاري والظلم، الذي وقع عليهم من قبل، حتى قاموا بتصوير الإله أيضاً، على أنه أسمر البشرة في العديد من الأعمال، ففي عام 2003 جسد الممثل العالمي “مورجان فريمان” دور الإله في فيلم ” Bruce Almighty”، أمام نجم الكوميديا الشهير “جيم كاري”، وقد تكرر الأمر مجدداً، ولكن هذه المرة في مسلسل “LUCFIER ” على شبكة Netflix، حيث جسد الممثل “دينيس هايسبرت”، صورة الإله صاحب البشرة السمراء، فهل يمكن أن يكون هذا من سبيل الصدفة؟

وتعد سلسلة أفلام “Black Panther” لشركة MARVEL من أكبر وأشهر الأعمال، التي ركزت على العرق الإفريقي بأكمله، فقام العمل بإظهاره على أنه عرق سامٍ، يتسم بالنقاء والتميز، ويتفوق على باقي العالم في العلوم والتكنولوجيا، بل ويمتلك تكنولوجيا لا تمتلكها أكبر الدول في العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى شجاعتهم، وإخلاصهم، واستعدادهم لمواجهة الشر، والتضحية بأرواحهم نيابة عن العالم كله.
صورة بألف كلمة [5]
من أكثر ما يؤكد مقولة الصورة بألف كلمة، ما حدث في السنوات السابقة، عندما قام أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا “يوري بار جوزيف” في عام 2010 بتأليف كتاب بالعبرية، يروي فيه قصة أشرف مروان بعنوان “الملاك أشرف مروان: الموساد وحرب الغفران” والذي صدر عن دار النشر الإسرائيلية “زيمورا بيتان”، وقامت دار نشر “هاربر” البريطانية الأمريكية عام 2016 بإعادة نشر الكتاب باللغة الإنجليزية تحت عنوان “The Angel: The Egyptian Spay who Saved Israel”)[6]، وفي عام 2017 تم ترجمة الكتاب للنسخة العربية بنفس العنوان، ورغم الجدل الواسع الذي أثير حول الكتاب في الشرق الأوسط، لم يحقق هذا الكتاب ضجة ونجاحاً، مقارنة بما حدث بمجرد إعلان منصة Netflix، عن تحويله إلى فيلم بعنوان “الملاك”، فأصبح محل اهتمام من قبل الجمهور العربي بصفة عامة، والمصريين بصفة خاصة، وقوبل الخبر بانتظار وترقب لعرض الفيلم، والذي وصل إلى قاعدة كبيرة من الجماهير، خاصة أن كثيراً منهم لم يكن يعلم حتى عن صدور كتاب بهذا الِاسم من الأساس.
يبدو أن حركة الأفروسنتريك، قد أيقنت قيمة الصورة في السيطرة على العقول، واستخدامها كأحد أهم أدوات القوة الناعمة، فقررت أن تخرج من قاعات المحاضرات، والبحوث، والتقارير غير الواقعية، عن وهم الحضارة المسروقة، والإعلان عن نفسها، باستخدام الوسيلة الأكثر قوة وتأثير، وهي السينما والدراما، رغم أن هذه الحركة، لديها العديد من المؤرخين، والباحثين، والكُتَّاب الذين يسعون جاهدين في إثبات أنهم صناع الحضارات وأصحابها، تحديداً الفرعونية، وحضارة شمال إفريقيا.
ويعد المؤرخ الشهير “شيخ أنتا ديوب” صاحب كتاب “الأصول الزنجية للحضارة المصرية”، الذي صدر في عام 1979، والذي يتحدث فيه عن الأصل الإفريقي للحضارة البشرية، ودورها في تطور الحضارة الغربية، في مجال العلوم والآداب والفنون([7])، من أشهر كُتَّاب هذه الحركة، ولكن لم يُحْدِثْ هذا الكتاب، وعشرات الأبحاث، والمقالات التي صدرت، ومازالت تصدر حتى الآن، تأثيراً مثلما أحدثها العمل الفني Queen Cleopatra، خاصة أنه عملاً وثائقياً، حيث تعد الأعمال الوثائقية، مصدراً استرشادياً، تؤخذ على محمل الجد، عكس الأعمال الروائية، التي تعتمد أكثر على خيال المؤلف.
خلاصة القول إذا كانت الأبحاث، والكتب، والدراسات، والمقالات العلمية هي المصدر العلمي، والرئيسي، والمنطقي لعرض الحقائق، وإثباتها، ودحض الادعاءات، فستظل السينما هي المصدر الأكثر تأثيراُ وانتشاراً، والمصدر الجماهيري الأكثر فاعلية للعامة، خاصة أنها قادرة على خلق صورة ذهنية جديدة، لم تكن موجودة من قبل في عقل المشاهد، بل واستمرارها، وبقائها، ولذلك فعلينا الِاهتمام بنوعية الأعمال الفنية التاريخية، جنباً إلى جنب مع الكتب والأبحاث.
فمن يعجز عن حكي تاريخه، وقصته، فسيحكيها عنه الغير، ولكن بأسلوبه، وتحيزاته، ورؤيته.
المراجــــــع والمصادر:
[1] – بيتر جان، مابعد المركزية الأوروبية، ترجمة: أحمد عاطف، إبراهيم فتحي، محمود ماجد، إشراف وتحرير رؤوف عباس، المجلس الأعلى للثفافة، 1998، ص22- ص26
[2]– مي السيد، بعد جدل على فيلم كليوباترا…كبير الآثريين: أصولها يونانية ومستحيل يكون هذا شكلها، بوابة أخبار اليوم، 13/4/2023
[3]– CNN عربية، غضب في مصر منفيلم نتفليكس بسبب لون بشرة كليوباترا… وحواس: كانت شقراء، 17/4/2023
https://arabic.cnn.com/entertainment/article/2023/04/17/egypt-netflix-documentary-cleopatra
[4] – H.Rider Haggard, cleopatra, first published 1889, new publisher by adamant media Corporation, 2002
https://www.goodreads.com/book/show/957186.Cleopatra
[5]– أحمد المسيري، السينما السياسية حرب الدعاية والتضليل، دار الخان للنشر والتوزيع، مصر، 2021، ص110، 111
[6]– Uri bar joseph, The Angel: The Egyptian Spay who Saved Israel, Trans by David Hazony, publisher harper, UK.2016
[7] – شيخ أنتا ديوب، الأصول الزنجية للحضارة المصرية، ترجمة حليم طوسون، الناشر دار العالم الثالث، الطبعة الأولى 1995
ـــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقــد سينمائي ــ مصــر