سينما

علاء عباس: فيلم «Beau Is Afraid»: كيف يُحول القلق حياتك لكابوس سيريالي طويل؟

 

علاء عباس

‏حب الأم لأبنائها يُعد من أنقى أنواع علاقات الحب التي عرفها الإنسان أو حتى الحيوان، لكن ذلك الحب الغير مشروط قد يتحول في بعض الظروف لحب تملك ثم يصبح مشروطًا بتقديم فروض الولاء للأم وحدها دونًا عن غيرها، وهنا تصير حياة الأبناء عبارة عن زنزانة من الجحيم لا مفر منها.

‏الأم المُسيطرة لا تعترف أبدًا بأن لأبنائها الحق في صُنع خياراتهم واتخاذ قراراتهم بأنفسهم، تُحاول طوال الوقت أن تجعلهم يشعرون بالعجز عن إتمام أي شئ ليظلوا بحاجتها للأبد مهما تقدموا بالعمر وأصبحت لهم حيواتهم الخاصة، تتدخل بحياتهم الشخصية دون أن يعلموا بذلك بدايةً من البحث في مُتعلقاتهم أثناء غيابهم، ووصولًا للتحدث لأصدقائهم من خلف ظهورهم أو حتى قراءة رسائلهم الخاصة والتجسس على صفحاتهم الشخصية بوسائل التواصل الاجتماعي، ومع كل ذلك تخلق حولهم بيئة من الشعور بالذنب الدائم حيال ردود أفعالهم وتصرفاتهم تجاهها وتُقنعهم أنهم لن يكونوا أبدًا جيدين كفاية وليسوا جديرين بكل الحب الذي تمنحه لهم، فيعلق الأبناء في دائرة مُفرغة لا تنتهي من مُحاولات نيل رِضاها والشعور بالقبول ولو لمرة واحدة.

‏وهذا ما يقودنا لموضوع فيلم Beau Is Afraid الأساسي، حيث تتميز مواضيع أفلام المخرج الشاب آري أستر بالخوض في تاريخ الصدمات العائلية وعلاقة الآباء بالأبناء بطريقته المُضطربة الخاصة، وتجلى ذلك في فيلمه السابق المميز Hereditary ثم في هذا الفيلم توسع بشكل أكبر وبطريقة أكثر مباشرة لا تخلو بالتأكيد من السيريالية والجُرعات المُكثفة من الرعب النفسي الملئ بالرمزيات ومُطعم بغرابة ببعض الكوميديا السوداء.

‏قلق دائم وخوف من المواجهة:

‏المشهد الافتتاحي للفيلم عبارة عن عملية ولادة لا نراها بشكل واضح حتى يظهر الجنين، ثم نسمع صوت الأم التي تصرخ على الأطباء ليتأكدوا من سلامة طفلها الواضح بشكل بيّن أنه لا يُعاني من أي ضرر، ليُوضح لنا آري أستر هوّس الأم بابنها “بو” منذ اللحظة الأولى ومبالغتها في حمايته من العالم حوله، بعد ذلك ننتقل لعيادة الطبيب النفسي ونجد “بو” نوعًا ما يشكو تحكم والدته به الدائم، إلى أن يسأله الطبيب السؤال الحاسم الذي يهرب منه طوال الوقت عمّا إذا كان يتمنى لو أن والدته كانت ميتة.

‏منذ تلك اللحظة وحتى نهاية الفيلم نرى كل شئ بعيون “بو”، كيف يرى العالم وكل شئ من حوله، وكيف يُخيِل له عقله الأشياء، فنرى أن الشوارع تعمها الفوضى، قتلى في وسط الطريق لا يُعيرهم أحد انتباهًا، أُناس تركض خلف بعضها البعض باستمرار، الشوارع مُنفلتة تمامًا ولا يوجد أي حِس أمني، عالم مُوحِش عليه أن يظل حذرًا فيه طوال الوقت لتفادي العواقب الوخيمة.

‏في شقته يحاول أن ينام ليذهب لأمه في الصباح والتي تركت له العديد من الرسائل الصوتية عندما كان عند الطبيب، لتؤكد على موعدهم وتُخبره بأنها تحبه مرارًا وتكرارًا في كل رسالة، لكن ذلك يتبدد سريعًا ويتحول لتأنيب ضمير عندما اتصل بها في اليوم التالي ليُخبرها أنه فقد مفاتيحه وشنطة سفره في ظروف غامضة، “بو” هنا لم يفقد أي شئ لكن عقله جعله يتخيل ذلك لأنه لا يريد الذهاب لمقابلة أمه.

‏لاحقًا يتصل بوالدته للتخلص من الشعور بالذنب لكنه يُصدم بشخص غريب يُجيبه ليُخبره بأنه وجدها ميتة، هنا يدخل في حالة إنكار مؤقتة ثم هيستيريا مصحوبة بتسلسل من الأحداث الغريبة والسيريالية تنتهي باصطدامه بحافة وفقدانه للوعي.

‏الموت لن يُنهي المُعاناة

‏يفيق “بو” بعد الحادث في شقة لزوجين لطيفين “روچر وجريس”، تُخبره الزوجة بأنها صدمته بحافلتها ثم أعادته لمنزلها حيث عالجه زوجها بصفته طبيب جراح، هنا يجب أن نتذكر أننا نرى كل شئ بعيون “بو” فعلى الأرجح هذا البيت ما هو إلا مستشفى والزوجين غالبًا مجرد طبيب وممرضة.

‏يتذكر “بو” وفاة والدته فيُجري اتصال ليكتشف أنها أوصت ألا يتم دفنها أبدًا إلا بحضور ابنها، وهنا ينهار “بو” الغائب عن الوعي منذ ثلاثة أيام فيما معناه أن والدته لم تُدفن كل هذا الوقت، وصية أخيرة تختتم بها الابتزاز العاطفي الذي فرضته عليه طوال حياته، لتُرسخ داخله أنه حتى وبعد مماتها لا يستطيع أن يُوفيها حقها بالرغم من عدم قدرته بسبب إصاباته البالغة.

‏تأنيب ضمير وشعور بالذنب يجعلان “بو” أعمى عن الشئ الوحيد الذي لطالما تمناه، والذي تجسد في روچر وجريس اللذان يعرضان له رعاية واهتمام غير مشروطين، ولكنه يريد أن يذهب لأمه رغم حالته الصحية السيئة حتى لا يُدنس ذكراها، حتى يُصبح ابن جيد في عيون والدته ولو لمرة واحدة.

‏حياة موازية وومضات من الطفولة

‏يهرب “بو” من منزل روچر وجريس ليلحق بوالدته المتوفية فيصطدم بفرع شجرة فاقدًا للوعي، لننتقل إلى حلم سيريالي طويل يتخيل فيه حياته التي لم تكن، حيث تزوج وحظيَّ بثلاثة أولاد يحبهم ويحبونه، ولكن حتى في أجمل أحلامه وأحلاها، يظل شبح قلقه واكتئابه يُلاحقه فيفقد عائلته ويعيش حياته كلها يجوب الأرض آملًا في لقائهم مرة أخرى.

‏ننتقل لومضات من طفولة ومراهقة “بو” حيث نرى أمه تضعه في السرير وتحكي له عن والده الذي توفى بمجرد أن أقام معها علاقة لأول مرة حيث اعتقد أنه سيكون مختلفًا عن والده من قبله الذي توفى كذلك بمجرد وصوله للذروة الجنسية لأول مرة، قصة زرعتها والدة “بو” في عقله وكبرت معه لتحتفظ به لنفسها فقط دون مُنافسة من أي امرأة أخرى قد تخطفه منها، الأمر الذي أشير له في وقت سابق عندما سأله روچر عن سبب تضخم غدده التناسلية بشكل كبير كرمزية على خوفه المرضي من أن يلحق بمصير أبيه ومن قبله جده.

‏حتى عندما نراه بفترة مراهقته يُبدي اهتمامًا لفتاة بنفس عمره فيخبرها بحالته لكن لا يستطيع مقاومة تقبيلها، الأمر الذي أثار حفيظة والدته فأبعدتها عنه، لتُصبح الفتاة الوحيدة التي حظيَّ بارتباط عاطفي معها واحتفظ بصورتها معه طوال حياته على أمل أن يلتقي بها مرة أخرى.

‏مواجهة أخيرة ومُحاكمة

‏يصل “بو” لمنزال والدته أخيرًا ليجد أنها لم تمُت وأنها دبرت القصة بأكملها لترى إن كان سيحضر جنازتها أم لا، وتبدأ على الفور في لومه على أنه لم يظهر سوى بعد أيام رغم أنها ترى الإصابات البالغة التي يُعاني منها.

‏يحاول “بو” الهروب مستقلًا قارب في وسط المُحيط لنصل لآخر مشاهد الفيلم حيث يصل آري أستر بدوره لأعلى نُقطة ممكنة من السيريالية جاعلًا كل الأحداث السابقة مقارنةً بها وكأنها لم تكن، فيخلق مسرح روماني كبير حول “بو” في وسط المُحيط ليواجه نتائج أفعاله في مُحاكمة تشهدها الآلاف.

‏يصيح أحدهم عليه بالنيابة عن والدته ويسرد له مواقفًا من حياته لم يكن فيها مُمتنًا لها ولا شاكرًا لكل الحب الذي طالما منحته له، يرمي عليه بالتُهمة تلو الأخرى واللوّم يليه الآخر بدون توقف، ومن بعيد جدا يظهر صوت بالكاد يُسمع يبدو أنه محامي “بو” يُحاول الدفاع عنه بالرد على كل موقف وتبرير أفعال مُوكِله التي لم يكن له يد بها يومًا، ولكن هيهات أن يُسمع ذلك المحامي الذي يرمز بشكل مباشر لصوت “بو” الذي ظل مكبوتًا طوال حياته، الصوت الذي لم يستطع أبدًا مُجابهة صوت أمه كلما قامت بتأنيبه وإلقاء اللوم عليه، ذلك الصوت قد آن الأوان أخيرًا لأن يختفي بلا رجعة، فرغم خفوته إلا أنه لم يكن له فائدة يومًا.

‏يتلاشى القارب وبداخله “بو” داخل دوامة كبيرة وسط المُحيط، بينما تتلاشى معه كل تلك الأصوات الصارخة عليه من المُدرجات من حوله، لتنتهي معها وأخيرًا حياته المليئة بالقلق والخوف من المجهول تاركًا خلفه ابتزاز والدته العاطفي وضميره الذي ظل يؤرقه في كل ثانية عاشها، حياة كتلك خالية من أي معنى أو هدف لم تكن تستحق أن تُعاش من الأساس.


★كاتب ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى