سارة سراج الدين:”كورستروما “.. تمازج الفن والتاريخ في رقصة واحدة ..العرض الوطني الروسي الذي أقيم في دار الأوبرا المصرية.


سارة سراج الدين ★
اِحتفلت دار الأوبرا المصرية، بليلة من ليالي السحر الفني، مع استضافتها للذوق العالمي الرفيع للعرض الوطني الروسي “كوستروما” الذي أُقيم وسط حضور جماهيري كبير من عشاق الفنون الكلاسيكية والرقص المسرحي، جاء العرض كاحتفاء بالتراث الثقافي الروسي العريق، وكنقطة تواصل بين حضارتين عظميين، الروسية والمصرية.
هذا العرض لم يكن مجرد استعراضٍ للباليه، بل حالة متكاملة لعناصر العرض المسرحي والفنون الأدائية، كان تحفة فنية متكاملة، جمعت بين الأداء الحركي المذهل، العناصر الفنية المتقنة، والعمق الدرامي الذي ميَّزَ فقرات العروض الروسية على مَرِّ العصور.
يتطلَّبُ لنفهم هذا العرض، تفكيكاً لعناصره الجمالية والتقنية، مع التركيز على التفاعل بين الأداء الحركي، التصميم الفني، والبعد الدرامي.

يُمَثِّلُ المسرح الراقص أحد أكثر الأشكال الفنية تعقيداً، إذ يجمع بين الأداء الجسدي والدرامي والتشكيلي في آن واحد.
وفي ضوء العولمة الثقافية وتبادل الإنتاجات الفنية بين الدول، يبرُزُ العرض الوطني الروسي كدراسة حالة مثالية لتحليل الأداء الحركي ضمن سياق ثًقافي مختلف؛ حيث يُقدَّم في مصر – بلد ذات تاريخ فني عريق – عرضٌ مستوحًى من التراث الروسي العميق، جامعاً بين الباليه الكلاسيكي، الرقص الشعبي، والتعبير الحركي الحديث.
خلال دراسة الأداء الحركي والبصري كوسائط رمزية تعبّر عن هوية ثقافية وتاريخية روسية، وتنقل عَبْرَ لغة الجسد معاني إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية.
فمن إطار المنهج البنيوي وفق تصور”رولان بارت” و”فلاديمير بروب”؛ حيث يُنظر إلى العرض بوصفه نصاً بصرياً ذا بنية داخلية تتضمن وحدات حركية قابلة للتحليل.
أما من إطار المنهج السيميولوجي: اِستناداً إلى أعمال “كيس تورنر” و”باتريس بافي”، في اعتبار الجسد علامة دالَّة تنقل خطاباً مرئياً ثقافياً .

فمن منظور التوليف الفني (Artistic Synthesis) ؛ حيث تتضافر مجموعة من العناصر المستقلة لإنتاج تجربة جمالية موحدة، تتجلَّى هذه التوليفة في:
التصميم الميسانسينه (Mise-en-scène) يشمل هذا المفهوم جميع العناصر المرئية والسمعية، التي تساهم في تكوين الفضاء المسرحي ؛ حيث تَكَوَّنَ العرض من سلسلة لوحات فنية راقصة متكاملة منفصلة، تجمعها بنية مفاهيمية لا خطية، تنتمي إلى ما يُعرف بـ”المشهد المفتوح” (Open Form Scene). تكرّرت التيمات الأساسية مثل الوطن، الصراع، الأسطورة، والهوية. كل مشهد كَوّن سردية بصرية قائمة بذاتها، توظف الجسد بوصفه فاعلاً درامياً، صُممت لتُجسد الملامح التاريخية والثقافية لروسيا عبر العصور
اِفتُتِحَ العرض بمشهد بانورامي ضخم بعنوان “الأرض الروسية”، حمل فيه الأداء طابعاً احتفالياً يعكس القوة الجماعية؛ حيث امتلأت خشبة المسرح بالراقصين في ملابس تقليدية نابضة بالألوان الدافئة، أدوا رقصات شعبية بروح جماعية متناغمة، مزجت بين الأداء المسرحي والحركة الموسيقية الحية.
تميَّزَ عرض “كوستروما” بدمج متناغم لعناصر العرض المسرحي، مما خلق تجربة بصرية وسمعية غامرة للجمهور.

صُممت الديكورات Scenography بخاصية التحوّل الديناميكي المستمر؛ حيث تم توظيف تقنيات الإسقاط الضوئي (Projection Mapping) بشكل دقيق، ما أتاح الانتقال بين بيئات مكانية وزمانية متعددة، دون الحاجة إلى تغيير مادي في عناصر الخشبة؛ حيث وُظفت تقنيات حديثة من الإسقاط الضوئي، بما يعزز الوظيفة التخييلية للمكان المسرحي، وقد مكّنت هذه التقنية من الانتقال بين الفضاءات دون قطع درامي.
على سبيل المثال، تحوّل المسرح في إحدى اللحظات من غابة شتوية إلى ساحة ملكية روسية، دون تغيير مادي للديكور، في إحالة إلى وظيفة “الفضاء القابل للانضغاط”.

وقد ساهمت هذه التقنية في إنتاج بيئة افتراضية تخدم البُعد الجمالي والرمزي للنص الحركي.
واختيرت ببراعة لتعكس الأجواء الروسية الأصيلة، من المناظر الطبيعية الشتوية المتجمدة، إلى قصور القياصرة الفخمة ، استخدمت الخلفيات المتبدلة والمناظر الطبيعية لتخلق أجواءً تحاكي الطبيعة الروسية، من الغابات الثلجية إلى السهول الذهبية.
تم توظيف الديكورات كعنصر سردي يُحَدِّدُ الأطر المكانية والنفسية للمَشَاهد المختلفة، فهذه التصميمات التي تحاكي البيئة الروسية، من المناظر الطبيعية الشتوية إلى العمارة القيصرية، لم تكن مجرد خلفيات، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من السرد البصري، مُساهمة في بناء عالم العرض.

وقد لعبت الإضاءة Lighting Design) كأداة دلالية قائمة بذاتها، تُستخدم لتشكيل الفضاء البصري وخلق مستويات زمنية وحسية متعددة، ولعبت دوراً حيوياً في تعزيز الرسالة البصرية للعرض، وكان لها دورٌ حيويٌ في تعزيز الحالة المزاجية لكل مشهد، حيث تدرجت من الأضواء الخافتة التي توحي بالغموض والبرودة، إلى الأضواء الساطعة التي ترمز إلى الدفء والحياة، هذا التلاعب بالإضاءة يعزز التعبير الدرامي، ويوجه انتباه المتلقي، هذا التنوع ساهم في تفعيل الوظيفة السيكولوجية للإضاءة، ودعم القراءة العاطفية للعرض.
فالتنوع بين الإضاءة الباردة ـ التي توحي بالجمود والعزلةـ والإضاءة الدافئة في مشاهد الفرح ـ والإضاءة الزرقاء القاتمة التي رافقت المشاهد التراجيدية أو الأسطورية ، هي أداة ديناميكية في المسرح، تتجاوز وظيفتها الأساسية للإضاءة؛ لتصبح عنصراً تشكيلياً.
هذا التناغم بين الديكور والإضاءة، أضاف بُعداً بصرياً عميقاً للعرض.

كانت الأزياء Costume Design في حد ذاتها عملاً فنياً مستقل بكيانه، كما لو أنها لوحات جمالية صُممت بعناية فائقة؛ لتناسب كل شخصية ومشهد وحقبة، واعتمد تصميمها على دراسة دقيقة للأنثروبولوجيا الروسية، بما يتوافق مع مدرسة ستانيسلافسكي في توحيد الشخصية والمظهر الخارجي، هي ليست زينة، بل وُظفت الأزياء بوصفها عنصراً تشكيلياً وسيميائياً، يترجم الطابع الزمني والجغرافي للشخصيات؛ حيث تميزت باستخدام نسيج زخرفي مستوحًى من الزخارف الروسية التقليدية، مما عزَّز الهوية الثقافية للنص البصري.
كانت رمزاً بصرياً يعكس بُعداً درامياً واضحاً للشخصيات ومكانها وتاريخها مع الاهتمام بأدق التفاصيل ، لعبت بجدارة دوراً محورياً؛ حيث عبّرت عن اختلاف الطبقات الاجتماعية والمناطق الجغرافية، من ملابس الفلاحين البسيطة إلى فساتين القصور الإمبراطورية المطرزة بعناية.
كانت أزياء الباليه كلاسيكية بالبدء أبرزت رشاقة الراقصين، إلى الأزياء الشعبية الروسية ذات الألوان الزاهية والتطريزات الشديدة التعقيد، ان كل زي ساهم في رسم صورة حقيقية متكاملة للعرض.
من أبرز ما ميّز هذا العرض هو تنوع أنماط رقصات الباليه المقدمة، فإلى جانب الرقصات الكلاسيكية المأخوذة من باليهات شهيرة مثل “كسارة البندق” و”بحيرة البجع”، ظهرت رقصات مستوحاة من التراث الشعبي الروسي مثل “الهوباك” و”البارينيا”، وهي رقصات تعتمد على القفزات الحادة والحركات الأرضية السريعة (glissade) (Allegro)
التي تتطلب لياقة بدنية فائقة وانضباطاً حركياً دقيقاً.
ففي إحدى اللوحات البارزة بعنوان “حكاية الأميرة”، جسَّدت راقصة الباليه الرئيسية الصراع الداخلي لشخصية أسطورية عبر رقص منفرد (solo) مليء بالتعبير الحركي الرشيق، اِتسم بالانتقالات السلسة من الوضعيات الثابتة إلى الحركات الديناميكية، في تناغم رائع مع الموسيقى الكلاسيكية المصاحبة.
كما برزت الرقصات الجماعية المنظمة ( corps de ballet ) التي أظهرت التناسق المذهل بين الراقصين والراقصات، سواء في الدوران الثنائي، أو التشكيلات الدائرية المتحركة، أو الرقصات القصيرة المرحة (divertissements) كدليل واضح على دقة التدريب والاحترافية العالية.
يُظهر العرض أن الجسد المسرحي يمكن أن يكون حاملاً لهوية ثقافية قابلة للنقل والتلقي في بيئات مغايرة، ما يعزز مفهوم “التداول الجمالي العالمي”.

الموسيقي هي العمود الفقري للباليه، وتتجاوز وظيفتها الخلفية لتصبح جزءاً لا يتجزأ من السرد الحركي، فهي قلب العرض النابض ؛ حيث اختيرت المقطوعات الموسيقية بعناية؛ لتتناغم مع كل حركة ورقصة، من الأنغام الكلاسيكية الروسية التي تثير الشجن والعاطفة، إلى الألحان الفولكلورية إلى الإيقاعات السريعة، التي تزيد من حيوية الرقصات الشعبية، هذا التنوع خلق تآزرًا بين الصوت والحركة ، كانت الموسيقى توجه الإيقاع الديناميكي للرقصات، وتُعزز من التعبير العاطفي، وتُثير استجابة حسية لدى الجمهور، ما يُعبر عن مبدأ التزامن الحسي (Sensory Synchronization ) قد خلقت الموسيقى جوا عاطفياً، وتفاعل معها الجمهور بشكل كبير، ما زاد من تأثير العرض، هذاالمزج بين الموسيقى والحركة مزج الحركة الراقصة مع البنية الموسيقية بشكل تبادلي، ففي بعض المشاهد، كانت الحركة تابعة للإيقاع الموسيقي، بينما في مشاهد أخرى سبقت الحركة اللحن، في نوع من “القيادة الجسدية للصوت”، وهو أسلوب معاصر مستوحى من مقاربات “موريس بيجار” و”جون نويمير”.

حيث أدّت الموسيقى أحياناً دور القائد للإيقاع، وأحياناً أخرى تبعت حركة الجسد، ما يشير إلى علاقة جدلية بين الصوت والحركة، وقد تميز التوزيع الموسيقي باستخدام أعمال لمؤلفين روس كبار أمثال “تشايكوفسكي” و”ريبين”، أُعيد توزيعها بأسلوب معاصر يحافظ على طابعها الكلاسيكي.
لا تُعد الموسيقى مجرد خلفية مرافقة للحركة، بل هي شريان الحياة الذي يغذي الأداء الحركي، ويُشكّل التعبير الجسدي، والعكس صحيح.
تتجلى العلاقة بين هذين العنصرين في تكافل ديناميكي؛ حيث تُوّجه الموسيقى الرقصة، وتُفسر الحركة الموسيقى، بينما يُصبح الجسد وسيلة للتعبير عن هذه العلاقة المعقدة.
1 العلاقة بين الموسيقى والحركة: تكامل وتفسير
تُعتبر العلاقة بين الموسيقى والحركة في الباليه علاقة تزامنية وتفسيرية (Synchronous and Interpretive):

التزامن الإيقاعي والديناميكي:
الإيقاع (Rhythm): تُحدد الإيقاعات الموسيقية وتيرة وسرعة الحركات.
في “جليد ونار”، يمكن ملاحظة كيف تُملي المقطوعات الموسيقية السريعة والنابضة بالحياة (كما في الرقصات الشعبية) حركات سريعة ومفعمة بالطاقة، بينما تُشجع الأنغام البطيئة والمديدة (في المشاهد الدرامية أو الرومانسية) على حركات أكثر انسيابية وتأملاً.
الإيقاع هو الأساس الذي تُبنى عليه الهيكلية الزمنية للرقصة.
ديناميكية (Dynamics): لا يقتصر الأمر على الإيقاع، فديناميكية الموسيقى – التغيرات في مستوى الصوت وشدته – تُترجم مباشرة إلى ديناميكية في الحركة.
على سبيل المثال، قد تُقابل المقطوعات الموسيقية الصاخبة والقوية (Forte) قفزات عالية وحركات واسعة ومُركَّزة، بينما تُقابل الأجزاء الهادئة والرقيقة (Piano) حركات أكثر نعومة ودقة وتعبيراً داخلياً.
هذه الترجمة للديناميكية الصوتية إلى ديناميكية حركية تُعزز من قوة التعبير العاطفي.

التفسير اللحني والتوافقي:
اللحن (Melody): يُقدم اللحن الموسيقي خطاً سردياً أو عاطفياً يُفسره الراقصون من خلال أجسادهم.
الألحان الحزينة أو الشجية تُمَكِّنُ الراقصين من التعبير عن الألم أو الشوق من خلال حركات بطيئة، ممتدة، أو ملتفة.
في المقابل، الألحان المبهجة تُعزز من الحركات الاحتفالية والدائرية، الراقصون لا يُحركون أجسادهم على اللحن فقط، بل يُجسدون اللحن ذاته.

التوافق الهارموني (Harmony): تُساهم الهارموني في خلق الجو العام والمزاج العاطفي للمشهد.
التوافقات الكبيرة (Major Chords) قد تُشير إلى الفرح والأمل، وتُترجم إلى حركات مفتوحة وصاعدة.
بينما تُعبر التوافقات الصغيرة (Minor Chords) عن الحزن أو التوتر، ما ينعكس في حركات أكثر انغلاقاً، أو حتى حركات تُظهر صراعاً داخلياً.
إن تفاعل النغمات مع بعضها يخلق نسيجاً يُترجم إلى نسيج حركي مُعقد.
الموسيقى هي “النص” الغير المرئي للباليه، من خلال استخدام “اللايت موتيف” (Leitmotif) – وهي ثيمات موسيقية تُخصص لشخصيات أو أفكار معينة – تُساعد الموسيقى الجمهور على تتبع السرد العاطفي والدرامي للعرض. فعند ظهور لايت موتيف معين، يستطيع الجمهور ربطه بشخصية أو حدث معين، مما يُمَكِّنُ الراقصين من التعبير عن هذا الرابط من خلال حركاتهم حتى لو لم تكن الشخصية حاضرة جسدياً.
فهي تُثير المشاعر الداخلية للراقصين، وتُمَكِّنُهُم من نقل هذه المشاعر بصدق إلى الجمهور.
فالرقص ليس مجرد حركات مُتقنة، بل هو تجسيد للموسيقى، وهو ما يُضفي عليها عمقاً درامياً.

التعبير الجسدي
هو الأداة الأساسية للسرد غير اللفظي، الراقصون لا يرقصون، بل “يتحدثون” بأجسادهم.
فالعلاقة بين الموسيقى والحركة في فن الباليه، علاقة عضوية وجدلية، إذ لا تُؤدَّى الحركة بِمَعْزِلٍ عن النسيج الصوتي، كما أن الموسيقى لا تُختار على نحو اعتباطي.
في العرض الوطني الروسي، بُني هذا التفاعل على ما يُمْكِنُ تسميته “التماثل البنيوي الإيقاعي” بين التركيب الموسيقي والتكوين الحركي (Rhythmic Structural Symmetry)، ما أنتج خطاباً أدائياً بصرياً عالي التنظيم والجمالية.

الحركية التابعة للصوت (Musically-led Kinesis):
في المشاهد المستلهمة من باليه “بحيرة البجع” و”كسارة البندق”، بدت الحركة خاضعة تماماً للإيقاع والنظام الزمني الموسيقي؛ حيث يتم توقيت القفزات، التوازنات، والدورانات وَفقاً للنغمات الموسيقية، بما يتماشى مع مدرسة الباليه الكلاسيكي، التي تؤمن بأن الجسد هو مرآة للموسيقى.
تمَثِّلُ هذه العلاقة ما أطلق عليه الباحث “جون مارتن” الارتكاز الموسيقي للحركة”؛ حيث تكون الحركة بمثابة تجسيد عضوي للصوت، وتتحول النغمة إلى حدث جسدي محسوس في الفراغ. الحركية القائدة للصوت (Kinetically-led Sound):
في لوحات أخرى، خاصة تلك ذات الطابع المعاصر أو الشعبي، لوحظ أن الحركة كانت تتقدم الموسيقى؛ حيث يظهر ما يُعرف بـ“الإيقاع الداخلي” للراقص، والذي يمنح العرض طابعاً تعبيرياً مستقلاً، في هذه الحالات، بدا أن الجسد هو الذي يوجّه النغمة، وليس العكس، ما يمنح الراقص حرية تأويل وتعبير خارج القوالب الجاهزة.
يشير هذا إلى تحول جوهري في الوظيفة الفنية للباليه، من التزام صارم بالبنية الموسيقية، إلى حوار تشاركي بين الحركي والسمعي، يتيح نشوء “فضاء تأويلي متعدد الطبقات”.
تعبيرات الوجه، وخاصة العينين، حاسمة في نقل المشاعر الدقيقة، من النظرات الحزينة إلى الابتسامات المبهجة، تُضيف تعابير الوجه طبقة من العمق لشخصية الراقص، وتُكمل السرد الحركي.
وضعية الجسد (Posture) والإيماءات (Gestures): كل جزء من الجسد يُساهم في التعبير، وضعية الجسد تُعبر عن الثقة، الضعف، الفخر، أو الخوف.
الأكتاف المنحنية قد تُشير إلى الحزن، بينما القامة المستقيمة تُشير إلى القوة.
الإيماءات باليدين والذراعين تُستخدم لرواية قصص، التعبير عن الحب، الوداع، أو اليأس.
ففي الباليه، كل حركة، مهما كانت صغيرة، تحمل معنى.
نظراً لأن الباليه لا يعتمد على الحوار اللفظي، بل يترك للجسد مسؤولية حمل المعنى.
في العرض الوطني الروسي، ظهر هذا جلياً من خلال ما يلي:
الجسد بوصفه علامة (The Body as a Signifier):
طبقًاً للمنظور السيميولوجي، فإن كل حركة جسدية تمثل علامة ذات دلالة محددة.
في العرض، اِستُخدمت الوضعيات الثابتة (Pose) والانتقالات الحركية (Transitions) لتجسيد الانفعالات، مثل الحزن، الفقد، الأمل، أو الانتصار. فمثلاً، في أحد المشاهد التي صوّرت قصة أسطورية، اِستخدمت الراقصة حركات انقباضية وانبساطية متناوبة؛ لتعبّر عن صراع داخلي بين الخوف والرغبة، في استدعاء دقيق لمفهوم “الحركة النفسية” في الباليه التعبيري.
الجسد السردي (Narrative Body)
بعض الراقصين والراقصات أدّوا ما يُعرف في الأدبيات المعاصرة بـ”المنولوج الحركي”، وهو أداء منفرد يستخدم تقنيات الباليه؛ ليروي قصة دون نطق.
في أحد أبرز المشاهد، استخدمت راقصة باليه حركة متكررة لليدين تغلف الجسد كمن يحتمي من خطر؛ لتروي بذلك سردية اللاوعي المرتبط بالخوف القومي أو الشخصي، في إشارة محتملة إلى سرديات ما بعد الحرب في الذاكرة الروسية .
في اللوحات الجماعية كان التكوين الحركي الجماعي أداة رمزية؛ حيث تحوّل الحشد الراقص إلى كيان تعبيري، لا مجرد عنصر تزييني.
وقد تم توظيف تقنيات التكرار الحركي (Repetition) والتراكب الحركي (Overlay) لنقل مشاعر الانتماء أو التفكك. كما أن التناسق التام في الحركة بين أجساد متعددة يحيل إلى مفاهيم القوة والانسجام، بينما الانكسار في هذه التناسقات يُستخدم عمدًا للتعبير عن الاضطراب أو الفوضى.لخطوط الجسدية (Lines of the Body): تُشكل امتدادات الجسد – من أطراف الأصابع إلى أطراف القدمين – خطوطاً بصرية تُعبر عن الحالة النفسية.
الخطوط الطويلة والمفتوحة قد ترمز إلى الحرية والانفتاح، بينما الخطوط المتعرجة أو المتقطعة قد تُشير إلى الاضطراب الداخلي أو الصراع.
في غياب الحوار المنطوق، يُصبح التعبير الجسدي هو الوسيلة الوحيدة لسرد القصة.
يُقدم الراقصون شخصياتهم ودوافعهم، ويُبينون علاقاتهم ببعضهم البعض، ويُعبرون عن التحولات الدرامية من خلال الحركات، التعبيرات، والتفاعل مع الآخرين.
يتقاطع هذا التفاعل بين الموسيقى والحركة مع أطروحات “موريس بيجار” الذي رأى أن “الباليه الحديث لا يُفهم إلا كنص مفتوح تتحكم فيه الحواس لا الكلمات”.
وفي العرض الوطني الروسي، نلحظ هذا التوجه في الانفتاح على الموسيقى المعاصرة، والاستفادة من الطابع التعبيري للجسد، لا كوسيط تمثيلي فحسب، بل كأداة تفكيك للواقع وإعادة تأليفه عبر الأداء.
الخطوط الجسدية (Lines of the Body): تُشكل امتدادات الجسد – من أطراف الأصابع إلى أطراف القدمين – خطوطاً بصرية تُعبر عن الحالة النفسية.
الخطوط الطويلة والمفتوحة قد ترمز إلى الحرية والانفتاح، بينما الخطوط المتعرجة أو المتقطعة قد تُشير إلى الاضطراب الداخلي أو الصراع.
في غياب الحوار المنطوق، يُصبح التعبير الجسدي هو الوسيلة الوحيدة لسرد القصة.
يُقدم الراقصون شخصياتهم ودوافعهم، ويُبينون علاقاتهم ببعضهم البعض، ويُعبرون عن التحولات الدرامية من خلال الحركات، التعبيرات، والتفاعل مع الآخرين.
يتقاطع هذا التفاعل بين الموسيقى والحركة مع أطروحات “موريس بيجار” الذي رأى أن “الباليه الحديث لا يُفهم إلا كنص مفتوح تتحكم فيه الحواس لا الكلمات”.
وفي العرض الوطني الروسي، نلحظ هذا التوجه في الانفتاح على الموسيقى المعاصرة، والاستفادة من الطابع التعبيري للجسد، لا كوسيط تمثيلي فحسب، بل كأداة تفكيك للواقع وإعادة تأليفه عبر الأداء.
الحركة تُصبح “كلمات” يُمكن للجمهور “قراءتها”، يُمكن للمشاهد فهم أن شخصية ما تعاني، أو أنها سعيدة، أو أنها تُخطط لشيء ما، فقط من خلال حركاتها.
التفاعل بين الراقصين (Inter-Dancer Interaction):
في رقصات الثنائيات (Pas de Deux) أو رقصات المجموعات (Ensemble Dances)، يُصبح التعبير الجسدي جماعياً.
التزامن بين الراقصين، ردود أفعالهم على بعضهم البعض، وتناسق حركاتهم تُعزز من السرد القصصي العام، هذا التفاعل هو الذي يُمَكِّنُ الجمهور من تتبع الديناميكيات الاجتماعية والعاطفية داخل العرض.
باختصار، الموسيقي ليست مجرد خلفية سمعية، بل هي المُوَجِّهُ الرئيسي للحركة، الذي يُوفر الإيقاع واللحن والديناميكية، التي يستجيب لها الجسد الراقص.
في المقابل، يُصبح الجسد وسيلة تُترجم هذه الموسيقى إلى لغة بصرية معبرة، من خلال التعبير الجسدي، وتجسيد المشاعر، وسرد القصص دون الحاجة إلى الكلمات.
هذه العلاقة التكافلية هي جوهر فن الباليه، وهي ما جعل عرض “كوستروما” تجربة فنية عميقة ومؤثرة للجمهور.
إن العلاقة بين الموسيقى والحركة في عرض الباليه لا تُفهم بوصفها علاقة ميكانيكية، بل كعلاقة تبادلية بنيوية وسيميولوجية.
أما التعبير الجسدي، فهو ليس مجرد أداء تقني، بل خطاب جمالي يحمل أبعاداً سردية وثقافية عميقة.
العرض الوطني الروسي، في هذا الإطار، يُعَدُّ نموذجاً متقدماً لتكامل الأداء الموسيقي- الحركي في الفنون الأدائية – ويُمَثِّلُ استجابة فنية راقية للتحديات الجمالية للعصر الحديث.
البنية الحركية الأدائية الدرامية والمكونات الفنية للمشهد المسرحي …
أولاً: البنية الدرامية للعرض المسرحي
اِنطلق العرض من منطق العرض الكوليجرافي، متعدد المشاهد
(Multi-Scene Choreographic Structure)،
إذ لا يعتمد على سرد خطي متسلسل، بل على تجزئة المَشَاهد إلى لوحات درامية مستقلة، ذات طابع رمزي وشاعري.
هذا النمط يُماثل ما يُعرف في الدراسات البنيوية بـ”الخطاب الحركي المفتوح”، الذي يتيح تعددية في التأويل وإدماج الجمهور في عملية إنتاج المعنى ، كل لوحة جسّدت بُعداً من أبعاد الهوية الثقافية الروسية، سواء عبر نماذج من الرقصات الشعبية، أو عبر استدعاء الرموز الوطنية والأسطورية.
وتميزت اللوحات بانسيابية الانتقال بينها دون انقطاع سمعي، أو بصري، مما عزَّزَ وحدة البناء الكلي، بالرغم من تنوُّع المحتوى.
ثانياً : الأداء الحركي الكيوجرافي
الحركة كأداة دلالية رمزية:
اِعتمد العرض على توظيف الباليه الكلاسيكي، بوصفه لغة للتعبير الرمزي والتاريخي؛ حيث تم اقتباس أجزاء من أعمال كلاسيكية مثل “بحيرة البجع” و”جيزيل”، ودمجها ضمن سياقات جديدة تعبّر عن الصراع الوجودي أو التوق للتحرر، مما منح العرض بعداً فلسفياً يتجاوز الجمال الحركي الظاهري؛ حيث لجأ الراقصون إلى توظيف حركة الجسد بطريقة تتعدى حدود الأداء الجمالي؛ لتصل إلى التعبير عن أبعاد وجدانية وفكرية، كالوطنية والحزن والفقد، وفق ما يعرف في أدبيات الباليه بـ”الدراما الصامتة” (Silent Dramaturgy).
التكوين الجماعي (Corps de Ballet):
شكّلت التكوينات الجماعية محوراً مركزياً في العرض، عَبْرَ تشكيلات حركية دائرية، وخطية تميزت بالتناغم التام، ما يعكس دقة التدريبات، وصرامة النظام الكوريغرافي الروسي المعروف بالانضباط العالي.
هذه التكوينات لم تكن عشوائية، بل اعتمدت على مبادئ علم الحركة (Kinesiology) والتوازن البصري في التوزيع على المسرح.
3.المنولوج الحركي (Solo Performance):
تألقت بعض الراقصات في عروض منفردة (SolO) تم فيها استدعاء الطاقة الداخلية للجسد وتوظيفها في تعبير درامي، خاصة في المشهد المسمى “النداء الأخير”، الذي قدّمت فيه راقصة منفردة سرداً وجودياً بلغة الجسد، بلغ ذروته في توظيف السقوط والانبعاث كرمزية للموت والانبعاث، بما يُحيل إلى مفاهيم الذاكرة الوطنية، والانتصار بعد الفقد.
يمثل الأداء الحركي في الباليه الروسي، ذروة الانضباط البدني والتعبير الفني، فقدَّم راقصو الباليه الروس أداءً حركياً مبهراً أكثر رشاقة ودقة، أظهر مستواهم الفني الرفيع، ودقتهم المتناهية منها رقصات كلاسيكية، تميَّزَت بتقنيات من الرشاقة والخفة والدقة؛ حيث أظهر الراقصون قدراتهم الفائقة في تنفيذ حركات الباليه المعقدة، وتميَّزَ أداء راقصي الباليه الروس بالالتزام الصارم بتقنيات الباليه الكلاسيكية، التي تشمل:
“Chênes” و”Fouetté turns” وهي”Pirouette”. كانت كل حركة مدروسة ومنسجمة مع الموسيقى، ما جعل المشاهد يشعر وكأنه يرى لوحة فنية متحركة مثل :
البوزيسيونات (Positions): الإتقان المطلق لوضعيات الجسم الأساسية، مما يُشكل الأساس للهيكل الحركي.
التورنات (Turns) والقفزات (Jumps): وهي الدقة في تنفيذ الحركات الدورانية، مثل “البيغيه” (Pirouette) و”الفوويتيه” (Fouetté)، بالإضافة إلى القفزات المعقدة، التي تُظهر القوة والرشاقة.
هذه الحركات تتطلب تحكماً عضلياً فائقاً وتوازناً مثالياً.
الليونة والإطالة (Flexibility and Extension): وهي القدرة على تحقيق خطوط جسدية ممتدة وجمالية، تُعبِّرُ عن مفهوم “الخط النظيف” (Clean Line) الذي يُعَدُّ جوهر الباليه الكلاسيكي.
ـ “باس دي دو” (Pas de Deux): وتُعَدُّ رقصات الثنائيات اختباراً لانسجام الراقصين وقدرتهما على التعبير عن العلاقة الدرامية من خلال التفاعل الجسدي والدعم المتبادل والقدرة على نقل العاطفة عبر الحركات المعقدة، والتي كانت سمة بارزة بوضوح.
التعبيرية الجسدية (Corporeal Expressivity): حيث يتجاوز الأداء مجرد تنفيذ الحركات التقنية؛ ليصبح لغة للتعبير عن المشاعر والأفكار؛ حيث استخدم الراقصون أجسادهم كأدوات للسرد، مُجسدين شخصياتهم ودوافعهم من خلال تعابير الوجه، ولغة الجسد، والتفاعل مع الفضاء المكاني، هذه التعبيرية تُعَدُّ حجر الزاوية في فن الباليه الدرامي.
كانت رقصات الثنائيات (Pas de Deux) مليئة بالعاطفة والتعبير؛ حيث نقل الراقصون قصصاً من الحب والشوق من خلال تعبيرات أجسادهم.
لم يقتصر العرض على الباليه، فقد استند العرض إلى بنية مسرحية متعددة المستويات، تجمع بين الرقص الكلاسيكي و تضمن أيضاً عناصر من الباليه الحديث والمعاصر، والتعبير الحركي الشعبي، ضمن رؤية درامية متكاملة تعتمد على السرد البصري والرمزية الحركية.
أضاف هذا التنوع بُعداً جديداً للعرض؛ حيث أظهر الراقصون قدرتهم على التكيف مع مختلف الأساليب الحركية، مقدمين بذلك رقصات أكثر حرية وتعبيراً، مع الحفاظ على الانضباط ودقة الخطوات.
كانت الرقصات الشعبية الروسية عنصراً حيوياً ومبهجاً في العرض؛ حيث تميَّزت بالحيوية والطاقة، مع استخدام حركات مميزة تعكس التراث الثقافي الروسي الغني ، تفاعل الجمهور بشكل كبير مع هذه الرقصات، التي أضفت لمسة من البهجة والاحتفال على العرض ككل ، إن إدراج الرقصات الشعبية الروسية لم يكن مجرد استعراض فلكلوري، بل كان عنصراً يُثري النسيج الثقافي للعرض، ويُبرز التنوع في الحركات والأداء.
هذه الرقصات، التي تتميز بالديناميكية والإيقاعية، تُقدم تبايناً مثيراً مع رصانة الباليه الكلاسيكي، وتُبرز العلاقة بين الفن الرفيع والفنون الشعبية.
ختاماً….
لقد كان عرض “كوستروما” في دار الأوبرا المصرية، أكثر من مجرد أمسية ترفيهية؛ لقد كان درساً في الفن والإبداع.
جَسَّد العرض الروح الروسية بكل جمالها وقوتها، مقدماً للجمهور المصري تجربة ثقافية لا تُنسى، مثل هذه العروض تعزز التبادل الثقافي وتفتح آفاقاً جديدة للفهم والتقدير بين الشعوب.
لقاء بين الثقافات بروح الفن هو نموذجٌ غنيٌ لدراسة التوليفة الفنية في فنون الأداء؛ حيث تتفاعل عناصر التصميم المسرحي والأداء الحركي والموسيقى؛ لخلق تجربة جمالية ودرامية متكاملة، فقد أثبت العرض الوطني الروسي في دار الأوبرا المصرية أن الفن لا يعترف بالحدود، وأن اللغة الحركية للباليه، قادرة على التعبير عن مفردات إنسانية تجمع الشعوب رغم تنوعهم، فقد شكّل العرض جسراً جمالياً بين ثقافتين، ووصل إلى جمهور مصري وعربي ذواق للفن الراقي، من خلال تناغم عناصر العرض المسرحي، ودقة الأداء الفني، وثراء الرقصات الحركية، التي تجلّت فيها روح روسيا العتيقة على أرض مصر الحضارة من خلال دمج عناصر الرقص الكلاسيكي والمشهد المسرحي البصري، في بناء تجربة جمالية مكتملة، تُقرأ على مستويات متعددة: تاريخية، رمزية، وجمالية.
بكل جدارة هو مثالٌ حيٌ على كيفية توظيف الفنون الأدائية في نقل الهويات الثقافية، وتفعيل المساحات المشتركة بين الشعوب.
يستحق العرض أن يُسجل ضمن أهم الفعاليات الثقافية، التي احتضنتها دار الأوبرا هذا العام، تاركاً أثراً في ذاكرة المتلقين، وأفقاً جديداً للتبادل الثقافي بين الشعوب.
★ناقدة ـ مصر




