جواد عامر : البنية مشروعية الامتداد في الحقول المعرفية.
جواد عامر★
يمتد مصطلح البنية إبستمولوجيا إلى البلاغة العربية وتحديداً مع الإمام عبد القاهر الجرجاني حين أثبت أن إعجاز القرآن مرده إلى النظم وليس إلى اللفظ أو المعنى ، فحضر مصطلح النسق في مواطن كثيرة من كتابه “دلائل الإعجاز”، والتقطت اللسانيات البنيوية هذا المصطلح وجعلته دعامة مفاهيمية استطاعت أن تمتد إلى حقول معرفية ونظريات فلسفية مختلفة ، بل إن مصطلح البنية أوجد مقاماته في أمكنة لا يمكن تخيلها كالطبخ وتصميم الأزياء، منداحة من دوائر المعرفة العالمة الممتلكة للجذور الإبستمولوجية كالأنتربولوجيا واللغويات والسيكولوجيا وعلم الآثار والتاريخ والنقد والنحو والاقتصاد لتغدو البنية سيدة العلم والفلسفة بدءاً من الستينيات حين ستصبح البنيوية “موضة ” العصر و”موضة ” الثقافة والجامعات ، فبعد إعلان نتشه عن موت إله العصر وهو العلم وإعلان فوكو عن موت الإنسان أعلنت البنيوية موت المؤلف لتحتل البنية موقع الريادة في الحقل الابستمولوجي ، عبر إحداث نوع من القطيعة الابستمولوجية مع الفلسفات الي تنطلق من ” الكوجيطو”، من أجل فهم الواقع ومن هنا كان رفض البنيوية للظاهراتية والوجودية لأنهما تنطلقان من التلاحم الكائن بين المعاش والواقعي .
البنية في الحقل اللساني
عمل” فردناند دي سوسير” على إرساء مفهوم جديد للغة التي أصبحت موضوعا إبستمولوجيا لأول مرة في تاريخ الفلسفة الحديثة ، فبدأ اللغويون منذ “دي سوسير” يدرسون اللغة البشرية بعدما حدد السويسري موضوع علم اللغة خارج أسوار الثقافة والتاريخ والظروف الفيزيقية والاجتماعية وغيرها مما هو خارج نسق اللغة ، فأرسى مبدأ دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها فانبثقت الثنائيات السوسيرية المعروفة كاللغة والكلام والدال والمدلول واللغويات الداخلية والخارجية والدياكرونية والسانكرونية ، وقد اعتبر سوسير اللغة نسقاً منظماً من العلامات Signes ، تتشكل من اتحاد عنصرين أحدهما هو الدال ( الصورة الصوتية ) والمدلول ( التصور الذهني)، لذا فالدلالة هي نتاج هذا الاتحاد ومن هنا كان دي سوسير للغة بورقة نقدية وجهها هو الدال وظهرها هو المدلول حيث يؤدي تمزيق الدال إلى تمزيق المدلول والعكس بالعكس مثلما يستحيل عزل الصوت عن الفكر إلا إذا تعلق الأمر بعملية فونولوجية من أجل الدراسة العلمية ، ولهذا فاللساني مطالب بالبحث في نظام اللغة عبر دراسة العلامات مما يجعل اللغة ذات صبغة سيميولوجية بدرجة كبيرة.
ويمضي دي سوسير في تشبيهاته للغة فيقدمها في صورة لعبة الشطرنج للدلالة على أنها نظام خاص ونسق داخلي له قواعده التي تنتظمه فلو أننا غيرنا قطعة من قطع اللعبة المصنوعة من مادة بأخرى مصنوعة من مادة أخرى لما أحدث هذا التغيير شيئا ، لكننا في حالة زيادة قطعة أو إنقاص أخرى فإن النظام سيختل وستفقد اللعبة نسقها القديم ، لأن قواعد اللعبة ستتغير وربما لن تنتظم فوق الرقعة ، ومعنى هذا الكلام أن اللغة تمتلك نسقها الداخلي المنظم عبر العلاقات التي تشكل هذا الكل المتلاحم والمنسجم، لهذا رفض فرديناند دي سوسير اللغويات الخارجية لأنها تظل خارج أسوار اللغة ولا تستطيع ـ بفعل خارجيتها ـ أن تقارب ما هو بنيوي مادام أنها شديدة الارتباط والتعالق مع اللغويات النفسية والاثنولوجية والسوسيولوجية، ولعل تأثير العلوم الطبيعية التي عملت على دراسة الوحدات في إطار العلائق بينها كان له دوره الابستمولوجي في توجيه البحث اللساني نحو بنية اللغة ونظامها الداخلي والعلائقي بين العناصر، فاستطاعت بنيوية سوسير بهذا النهج العلمي أن تتجاوز ما صنعته الدراسات التاريخية التي وقفت عند الحدود الخارجية للغة ولم تتمكن من كشف بنيتها الداخلية باعتبارها صورة لا جوهراً فكانت دعوة سوسير قوية إلى ضرورة إحداث قطيعة إبستمولوجية مع المنهج التاريخي واعتماد المنهج الوصفي الذي يقصي النزعة الذرية لتحل البنيوية محلها كمنهج علمي قادر على كشف البنى الداخلية للغة وعلاقات الوحدات داخل نظامها.
لقد شكلت البنية أو النسق أو النظام في لسانيات سوسير جوهراً منهجياً جعل من اللغة ” بنية ” ذات طبيعة رمزية تقصي ما هو تاريخي وبالتالي تلغي القوانين التطورية التي أقامها لسانيو القرن التاسع عشر على أسس ذرية ما طبع لسانيات سوسير بالصبغة السانكرونية بسبب الطبيعة الاعتباطية بين الدال والمدلول ، وهو أمر لم يسلم به لغويون آخرون خاصة رواد مدرسة براغ الذين وظفوا المنهج الدياكروني في تعقب التطور الذي قد يسم مرحلتين مختلفتين في دائرة لغوية واحدة ، تشكلان بنيتين ترتبطان بعلاقات تستوجب من اللساني البحث في باطنها ، ولعل ما فعله ياكوبسون وتربوتسكوي وأندريه مارتينه دليل قاطع على محاولات هؤلاء تجاوز الطرح السوسيري القائل بمنح الأولوية للسانكروني على حساب الدياكرونية .
البنية في الحقل السيكولوجي .
استطاع “جاك لاكان” عبر مباحثه في مجال الطب العقلي أن يتعرف على فرويد، من بوابة اللاوعي باعتباره بنية متخطيا مسار الحركة الابستمولوجية التي كانت تدعو إلى الرمز عدم الاكتفاء بالواقع والخيال، راسماً قطيعته الابستمولوجية مع أنصار النزعة الثقافية الأمريكية المتطرفة والنزعة الفرويدية الحديثة التي انفصلت عراها عن نظرية التحليل النفسي ما جعل “لاكان” يعود إلى “فرويد” عودة تميزت بإعادة القراءة لمفاهيم النظرية لإعادة تأسيس النظرية بشكل علمي ، ولعل الصعوبة التي واجهها (لاكان) كانت كامنة في تجاوز الصبغة الذاتية التي تسم التحليل النفسي والإعلاء من شأن البنية خاصة وأن شجرة النظرية الفرويدية لا تزال تلقي بظلالها في كل الأنحاء.
ولعل هذه العودة كانت في جوهرها عودة إلى اللغة التي شكلت بؤرة الاهتمام الفرويدي في نظرية التحليل النفسي ، لذا كان نقد لاكان لكل الأنساق التي تدور خارج اللغة أمراً مشروعاً كالنسق التجريبي البافلوفي والنزعة الظاهرية وعلاقة الموضوع الذي جاء به ” كارل آبرهام “، فاللغة في نظرية التحليل النفسي جوهر ما جعل لاكان يعود إلى منبع النظرية الفرويدية ويعيد محاورة مفاهيمها الدقيقة خاصة اللاشعور باعتباره يمتلك بنية لغوية تم إهماله من قبل أدبيات التحليل النفسي ما بعد فرويد Post freudisme، فقد استطاع “لاكان” أن يقتحم عمق نظرية التحليل النفسي ويستكشف مكمن الجوهر المحرك لها ممثلاً في اللغة التي تختبئ في اللاشعور وتتفجر عبر الأحلام والهفوات لمختلف أشكالها كما فصّلها فرويد في محاضراته الأربعة ، وفي الأمراض التنفسية وفي الجنون الذي يعبر فيه صاحبه بواسطة اللغة عن رؤيته للعالم فتتشكل اللغة كلاماً بغير ذات، ومن هنا كانت اللغة عند “لاكان” من حيث هي نسق بنيوي نتاجا يتجاوز الذات باعتبارها المنتج الرسمي للغة إلى وسيلة تضفي عليها دلالاتها وتمنح وجودها عبر العلة الرمزية التي تعد البنية الحقيقية المشكلة للوجود الإنساني.
إن الطرح الذي قدمه ” لاكان ” جعل من اللغة جوهراً بنيوياً يتحد مع اللاشعور ما يقصي الذات المنتجة للفعل اللغوي فيكون المتكلم بهذا المعنى هو : “الهو ” بالمعنى الفرويدي وليس ” الأنا” وفي ذلك إعادة اعتبار للمهمل والمنسي في النظرية الفرويدية حيث القول يحتل الريادة فيها ، ونحن حين نتكلم عن اللاشعور فإننا نقصي الفهم الفلسفي الذي يغوص به في المجهول والمجرد ونسيجه في إطار التحليل النفسي من حيث هو بنية لغوية تمتلك رموزاً لغوية تحتاج إلى المحلل النفسي ليفك شفراتها، ولعل تفسير الأحلام والهفوات والدراسة السيكوباثولوجية للحياة العادية كتب دلت على اعتمال اللغة داخل اللاشعور كبنيات نحوية لها أنساقها التي تجعله حديث الآخر الموصل إلى الحقيقة.
البنية في الحقل الثقافي
عمل ميشيل فوكو على تقديم كشف للمجتمع الأوروبي خلال عصر النهضة بنيويا عبر الحفر في طبقات اللغة باعتبارها بنية ثقافية بعدما ظهرت الحاجة الملحة إلى نظرية في الثقافة تستخدم التاريخ أداة لدراسة الثقافة باعتباره الأداة الوحيدة التي يمتلكها الإنسان ، ليتم الانعطاف نحو دراسة الثقافة من الناحية التاريخية ، فكان كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي وتاريخ العيادة والألفاظ والأشياء نماذج فلسفية أظهرت عمق الطرح الإبستمولوجي لميشيل فوكو تجاه قضايا كبرى عدها أساسات في تشكيل البنية الثقافية ، فكان الجنون بالنسبة له وسيلة لتكوين الواقع الثقافي وليس مجرد واقعة ثقافية مسلم بها ونمارس تجاهها ردود فعل بواسطة تحكيم العقل لأنه في نظر فوكو لا يصح البتة أن نحكم على الجنون بمعيارية العقل لأنه يمتلك رؤية للعالم تختلف عن رؤيتنا يتحكم فيها الجنون ، ولذلك أدان ردود الفعل اللاإنسانية التي مورست في حق المجانين في التا ريخ الأوروبي ، ولجوء “فوكو” إلى دراسة الجنون مرده إلى رغبته في إدراك التمييز بين العقل والجنون والمرض والصحة والجميل والقبيح والحسن والسيء ما جعل التعرف على الجنون ظاهرة حضارية يستلزمها العصر وضعها فوكو في سياق المقارنة بواسطة استدعاء التاريخ ، ففي الوقت الذي كان فيه الجنون ظاهرة مرتبطة بالأرواح والطقس الغيبي لدى الحضارات القديمة يصير الآن في المجتمع الأوروبي شذوذا وانحرافا يستلزم الإقصاء بشتى الطرق ، بل صار النظر إلى الجنون على أنه عار ومذمة ومسكن للأرواح الشريرة تجعل المجنون شاهداً على وجود عالم آخر يختلف عن العالم الدنيوي كما زعمت ذلك الكنيسة ، فتم التعامل معه على أنه كائن مختلف لابد من وضعه في أماكن حجز ( البيمارستان)، ونظر إليه في الثقافة الرأسمالية على أنه كائن لا إنتاجي ، ما جعل ” فوكو” يحاول إيجاد تمييز بين العقل والجنون على أساس ثقافي باعتبارهما كيانين يحددهما المجتمع وفق معايير اجتماعية وثقافية ترسم لهما الحدود ، ومن هذا المنطلق فإن فوكو ظل يبحث في داخل الجنون بحثا أركيولوجيا يحفر في بنيات اللغة وطبقاتها معتبراً أن الجنون له معنى كما هو شأن الحلم ، ففسح المجال للجنون لكي يتكلم ويعبر عن رؤيته للعالم في مقابل عمليات الإقصاء والقمع التي مارسها المجتمع الأوروبي في حق المجنون.
لقد أكد ” فوكو” على أن تاريخ الجنون ذو طبيعة بنيوية لما يحتويه من قوانين وقواعد وأنظمة في كليته التاريخية ممتدة من العصر الوسيط إلى عصر الأنوار واضعاً أسس علمية قوامها الحفر الأركيولوجي للمنهج البنيوي بعيداً عن السردية التاريخية التي يقوم بها أي مؤرخ يعتمد على تتبع الأرشيف وجمع عناصره وإنما عمد الفيلسوف الفرنسي إلى تفسير وتحليل الظواهر والقواعد التي تحكمت في إصدار الآراء أو دحضها حول الجنون والعقل ليكون كتاباه ” مولد العيادة” و” الألفاظ والأشياء ” استمراراً لنفس النهج البنيوي والحفر في طبقات اللغة من أجل فهم المعرفة الطبية وآليات تغير الخطاب التي اكتنفت الممارسة العلاجية في التاريخ الطبي كاشفاً عن المجال الإبستمولوجي لكل حقبة تاريخية ليجعل كل حضارة تتكلم بلغتها وهو ما أطلق عليه فوكو بالإبستيمية épistémé ، تماماً كما صنع “نيتشه” في بحثه الجينيالوجي و”ماركس ” حينما حفر في البنية التحتية.
البنية في الحقل الأنتربولوجي
كان لمصطلح البنية دور كبير في الحقل الأنتربولوجي مع “كلود ليفي ستراوس” الذي عد البنيوية الأنتربولوجية منهجاً لا نظرية مؤكداً على أن الظواهر الاجتماعية يتم تناولها في إطار علمي، ما دام أنها تخضع للفعل التجريبي ، وقد عمل ليفي سيتراوس على دراسة العلاقات الاجتماعية في إطار رياضي ومنطقي عبر إنشاء نموذج ودراسة خصائصه وسماته بنزعة تجريبية كما يحصل تماماً في المختبر العلمي، من أجل الوصول إلى كشف حقيقي وعميق لاعتمال البنيات الداخلية في الظاهرة الاجتماعية، ولابد أن ستراوس وهو يرسي مفهوم النموذج لم يكن منفصلا إبستمولوجيا عن التصور اللساني للبنية عند دي سوسير في محاولة لتنقية العلوم الإنسانية ومنها الأنتربولوجيا ـ ميدان الاشتغال ـ من كل شوائب الميتافيزيقا التي ظلت عالقة بها في اتجاه إرساء نزعة عقلانية تحكمها العلمية في الممارسة.
لقد شكل الجوهر اللساني عمق التصور الأنتربولوجي عند ستراوس الذي اعتبر الاستعانة بالعلوم اللسانية أمراً ضرورياً لما بين رآه من تماثل بين الظواهر الاجتماعية و بنية اللغة التي تؤدي ما سماه بالوظيفة الرمزية، فقد درس العلاقات بين القرابة عبر نماذج لسانية ودرس الأسطورة وغيرها من المنتجات مستحضرا البنية اللاشعورية الكامنة وراء كل نظام اجتماعي، او ممارسة أو طقس ، فأكد ستراوس على أن علاقات القرابة والعلاقات اللغوية ذات طبيعة جدلية تمنح القرابة صبغة تواصلية شأنها في ذلك شأن اللغة، فقد عد العلاقات في القرابة ذات طبيعة لغوية تتأسس على الزواج والمصاهرة ما يخلق تواصلاً وحواراً بين أفراد الجماعة الواحدة ما يستلزم دراسة الظاهرة وفق المنهج البنيوي ، أما بالنسبة لمسألة زواج الابنة والأم والأخت فقد تحدث عما سماه قاعدة الهبة ، فتكون النساء بمثابة تعبيرات رمزية، شبيهة بكلمات اللغة.
وستخضع الأسطورة عند “ستراوس ” لنفس النهج، معتبراً إياها تفكيراً غير سابق على المنطق إذ تكشف بنياتها على أنها تقوم على التصنيفية ما جعل “ستراوس” يتجاوز التعامل مع الأسطورة في حدود منهج عزل الرموز الذي دأبت عليه الدراسات الاجتماعية قبله، لأن مضمون الأسطورة ليس هو الأهم في نظره بقدر ما تهم البنيات الداخلية التي أنتجت الوعي الأسطوري وجعلته يتعقل كما يتضح من تصور ليفي ستراوس في كتابه:” النيئ والمطبوخ “، حين قال :” إننا لا نزعم لأنفسنا أنا قد بينا كيف يتعقل البشر الأساطير أو كيف يتصورون الأساطير، لقد بينا كيف تتعقل الأساطير من خلال البشر، وعلى غير وعي منهم”.
البنية عند ماركس وألتوسير
لعبت البنية دوراً كبيراً في النظرية الماركسية، بل شكلت جوهر المعمار الإبستمولوجي للنظرية، فكان حديث ماركس عن بنيتين تنتظمان المجتمعات البشرية بنية فوقية تتألف من الأجهزة الإيديولوجية (مدرسة، إعلام، مناهج تربوية، مؤسسات دينية، حركات سياسية..) وأجهزة قمعية (شرطة، جنود..) وبنية تحتية تتألف من وسائل الإنتاج وقوى الإنتاج وعلاقات الملكية وظروف رب العمل..، وتظل البنية التحتية عند ماركس هي المحدد لوجود البنية الفوقية، وقد تمت إعادة قراءة ماركس من قبل ألتوسير الذي سيكون له دور أكبر في ملء الفراغ الاستمولوجي الذي تركته النظرية الماركسية وطبع النظرية بالصبغة البنيوية باعتبارها علما يفحص البنى الموضوعية، فالدولة في نظر الماركسية البنيوية تعمل على خدمة مصالح البرجوازية لأطول أمد ما يجعلها وسيلة لتنظيم الصراع الطبقي وتوتر العلاقة بين البروليتاريا والبرجوازية عبر تقنين هذا الصراع وتنظيم التناقضات الجدلية.
لقد لا حظ “ألتوسير” غياب التنظير العلمي للنظرية الماركسية ما دفعه إلى إعادة قراءة ماركس وملء الفراغات التي احتوتها نظريته الي كانت مركزة على الاقتصاد السياسي وإن حاول أن يتخلص من وهم الإيديولوجيا الذي ظلا يلقي ظلاله على تصوره الفلسفي فإنه لم يستطع لما تمتلكه الإيديولوجيا من قوة السيطرة على كل شيء، ومن هنا أخذ” ألتوسير” على عاتقه مهمة إلباس الفلسفة الماركسية لباسا وجوديا للكشف عن البنية النظرية للفكر الماركسي محررا إياه من ربقة “الدوجماطيقية “، ملتقطا مفهوم القطيعة الابستمولوجية من “باشلار” ومفهوم البنيوية من حقلها اللساني واللاشعور من نظرية التحليل النفسي ، فكانت هذه الاستعارات وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى وسيلته في تشييد بناء نظري متين محبوك الخيوط عبر إعادة القراءة التي تجلت بالمعنى السيكولوجي في قراءته لكتاب “الرأسمال”، أي أنه حاول استنطاق المخبوء وكشف المستور داخل الكتاب انطلاقاً من ماركس نفسه دون إقحام لإيديولوجية خارج أسوار النظرية الماركسية ، وهذا حقيقة يحسب لألتوسير لأنه ظل وفياً لماركس ، وهو يكشف عن طبيعة القراءة مميزاً بين القراءة الساذجة والقراءة التشخيصية التي تستنطق الصمت وتجلي المعنى في سياقاته بالاتكاء على المرجع البنيوي ، ما يمنحها المقبولية في نظر “ألتوسير” خلافا للقراءة الساذجة وهي قراءة سطحية لا تستطيع حتى عبر المقارنات أن تميز بين المختلف والمتماثل لأنها تقوم بعمليات عزل اللفظ من سياقه ما يجرده من الدلالة الحقيقية، فالفهم لا يتحقق إلا داخل البنية من خلال عناصرها وإدراك العلاقات بينها.
إن وفاء” ألتوسير” لماركس تجلى في تناول نظريته خارج أسوار الجدل الهيجلي وكأن ماركس لم تربطه علاقة تتلمذ بأستاذه هيجل، ما جعله يفرق بين بنية الجدل الماركسي والجدل الهيجلي الذي ينبثق من تعارض الأطروحة مع نقيض الأطروحة وانصهارهما في مستوى أعلى للتركيب كما قال “باشلار” في كتابه الجدل العلمي، إنه تمييز إبستمولوجي أملته رؤية “ألتوسير” الفلسفية لكلا الجدلين، فجدلية “هيجل” تتسم بالنزعة التبسيطية للتناقض ووحدة الأضداد التي لم يؤمن بها ماركس على الإطلاق، أما جدلية ماركس فتأسست على فهم معقد للتناقض.
لقد استطاعت البنية أن تنداح إلى حقول معرفية وتتشكل إبستمولوجيا في عمق التصورات والطروحات الفلسفية الكبيرة في العلوم الإنسانية وقدمت نفسها كسيدة لا يرد لها طلب في كل حقل معرفي فكانت وسيلة مميزة استطاعت أن تجعل نفسها ميزة فكرية لا محيد عنها شكلت قطيعة إبستمولوجية مع كل فلسفة اتخذت من الكوجيطو منطلقاً لها كالظاهراتية والوجودية لتشيد البنية نظاما عقليا جعلها كما قال ” بارث” شبيهة باللغة الشارحة لكل حضارتنا المعاصرة، فهي الوسيلة المثلى لفهم العالم من حولنا إنها الميتا ـ لغة للثقافة الجديدة.
★ ناقد ـ المغرب.