رانا ابو العلا★
علينا جميعاً الاعتراف بأن الرواية أصبحت في السنوات الأخيرة المنافس الأول لكافة الأجناس الأدبية، ففي الآونة الأخيرة زاد الطلب على الرواية في دور النشر بشكل ملحوظ حتى أصبحت الرواية الداعم الأول لدور النشر المختلفة، فهي الجنس الأدبي القادر على أن تصبح أي دار نشر أكثر شهرة وتميزاً عن غيرها، وفي تلك الأثناء غابت القصة القصيرة عن الساحة، وأصبح كُتَّاب الرواية هم الأشهر حتى أنَّ من يكتب الجنسين يشتهر أكثر بالرواية، وليس بالقصة القصيرة، ولكن هل هناك أسباب دفعت المتلقي بالالتفاف حول الرواية عن القصة القصيرة؟، هذا ما سنسقط عليه الضوء فيما يلي.
تعتبر الرواية أكثر تلبية لرغبات القارئ العربي عن القصة القصيرة، وذلك لقدرتها على ان تزج بالقارئ إلى حيوات مختلفة يُهام مع أحداثها وتأرجحها بين أزمنة وأمكنة مختلفة، حيث تلعب الرواية على إضفاء جانب الخيال والمتعة وتوحد القارئ مع الأحداث الذي يعيش معها بسبب حجم الراوية، الذي يزداد أضعافاً عن القصة القصيرة، وبالتالي يُصبح لدى الرواية متسع للتعبير عن رؤيته أو أفكاره بوضوح، ومن ثَمَّ يتوَحَّد القارئ مع أحداثها التي تستمر معه لأيام طويلة، فـكاتب الرواية لديه متسع من المساحة التي تُمَكِّنُه من خلق مسارات متعددة للأحداث، وضخ شخصيات لكل منها أبعادٌ ودَوْرٌ في الفعل وتحريك حبكة العمل، ناهيك عن التشويق الذي يبرز في الرواية خاصة وان كانت للرواية أجزاء متعددة كـ روايات عمرو عبد المجيد مثلا والتي تسير في اطار خيالي عبر عدة أجزاء مترابطة مثل رواية قواعد جارتين والتي تتألف من ثلاث أجزاء ـ قواعد جارتين، دقات الشامو، أمواج أكما ـ عن القصة بكثير، وذلك لأن الأخيرة تعتمد على تكثيف الفكرة نظراً لطبيعتها، حيث تقلص حجمها في صفحات محددة تدور في حدث واحد ومكان وزمان واحد، وأيضاً شخصيات محددة، مثل قصة بيت من لحم لـ يوسف إدريس وهو ما يُصَعِّبُ من عملية إنتاج قصة قصيرة، حيث إنه لابد من اختيار الكلمات بعناية حتى تشير كل كلمة إلى حدث يربطها بالأخر، بالإضافة إلى بناء الشخوص بدقة، بما يفيد الإطار الذي تدور فيه القصة.
وعلى ذكر الشخصيات نجد أن القارئ يتوَحَّد مع شخصيات الرواية أكثر من شخصيات القصة، لأنها تحمل الكثير من التفاصيل التي تُشعر القارئ بأنه جزء لا ينفصل عن حياة الشخصية، فيقرأ وكأنه أحد صُنَّاع الحكاية، وبالتالي يتفاعل معها حتى النهاية، على أمل أن تحصل كل شخصية على النهاية التي تستحقها، وهو ما يظهر بوضوح في الروايات الرومانسية.
تتعدد ألوان الرواية كجنس أدبي، حيث تُصنف كل فئة بمعالجة موضوعاتها بأسلوب معين إلى الرومانسية، أو الرعب، أو البوليسية، أو الفانتازيا، أو الواقعية، أو السياسية، وأيضاً الروايات التاريخية مثل رواية عزازيل ورواية أولاد الناس وما إلى ذلك، ولعل هذا التنوع هو ما ضاعف الإقبال على الرواية وزيادة عدد قرائها حيث يجد كل قارئ ملاذه في نوع معين من أساليب المعالجات التي تطرحها الرواية، ولأنه يبحث عن ملاذه في هذا النوع تحقق له الرواية الوصول إلى النشوة كونه يدخل إلى هذا العالم مطلقاً لخياله العنان، ويتعايش معه في الفترة التي يُقبل فيها على قراءة الرواية، فمن بين القراء من يجد متعته في قراءة رواية واقعية، تعكس له واقعه الذي يحيا في خضمه، وآخر يُحَلِّقُ بخياله مع رواية تاريخية تسرد له وقائع تاريخية حدثت من قديم الزمن، ومنهم من يبتعد تماماً عن الواقع من خلال الروايات البوليسية أو الرعب أو الفانتازيا وهكذا، وهو عالَمٌ يجده القارئ خالياً من معاناة الواقع المحيط، ومن ثَمَّ يجد في الرواية ملاذاً كونها تجعله يحيا كما يُريد، وليس كما مفروض، بالإضافة إلى أن حجم الرواية يُمَكِّنُ القارئ من التوَحُّد مع أحداثها التي يتعايش معها لفترة لا بأس بها، وتعلق بذاكرته نوعاً ما، أكثر من القصة القصيرة، ولهذا تحظى الرواية بقبول وشعبية أكثر بين القراء.
وبالنظر إلى التلقي الثقافي وحركة الإصدارات التي تنعكس من دور النشر نجد أن نسبة إصدار الرواية تفوق بكثير نسبة إصدار القصة القصيرة بالإضافة إلى كثرة إصدارات الرواية بدر النشر الواحدة قياساً بالقصة القصيرة، التي يتقلص عددها لهيمنة الرواية على المشهد الثقافي، وأيضاً تحظى الرواية بتسليط الضوء من قِبَلِ دور النشر أكثر من القصة القصيرة، حتى أن حملات الدعاية لدور النشر بمعرض الكتاب أو غيره تستند إلى الرواية أكثر، فمثلاَ نرى أن أروقة معرض الكتاب تضم من بين عشرات حفلات التوقيع لكُتَّاب الرواية واحداً أو اثنين على الأكثر للقاص، فلا شك أن الروائيين يتمتعون بشهرة أكثر من القصاصين، حتى أن الكُتَّاب الذين يقومون بكتابة الجنسين على الأغلب يشتهرون بالرواية عن القصة، وهذا لا ينطبق على الإصدارات العربية فحسب، بل على حركة الترجمة أيضاً، فإن حركة ترجمة الرواية تزداد عن المجاميع القصصية بكثرة، لأن الغاية في تلبية رغبات القارئ والترويج لأي دار نشر، أو حتى تحقيق المكاسب للمكتبات، جعلت التسويق للرواية بهذا الشكل وسيلة.
ولكننا لسنا بصدد الانتصار للرواية أو القصة القصيرة، فكل منهما جنس أدبي قائم بذاته له مميزاته وقراؤه، الذين يُفَضِّلُون هذا الجنس عن الآخر، وإن كنا قد وضعنا أيدينا على بعض النقاط التي تحظى بها الرواية لتجعلها الأكثر شعبية بين القراء، فهناك رأي مضادٌّ للرأي السابق حيث إن بعض القُراء يجد في القصة القصيرة القدرة على الوصول إلى المتلقي بيسر أكثر من الرواية، وأنها تحمل حرية في الصياغة والإقناع، كما أن قِصَرَ حجم القصة يوجه القارئ إلى منظور بعينه دون تشويش، وبين هذا الرأي وذاك، ولأنها ليست معركة ينتصر فيها الأقوى، يبقى السؤال ما الجُرم في أن تكون الرواية أكثر مبيعاً من القصة، أو حتى من أي جنس أدبي آخر؟
فلعل الهدف الأسمى على الإطلاق هو أن يُقبل الكثير من فئات الشباب على القراءة، فإذا كانت الرواية هي ما تجذبهم إلى القراءة، فبالتأكيد ستجذبهم أجناس أخرى فيما بعد، ومن ثَمَّ ما المانع أن تكون الرواية هي مفتاحهم؛ لأن تكون لديهم ثقافة القراءة.
وأخيراً علينا أن نُشير أيضاً إلى واحدٍ من الأسباب التي ظهرت في السنوات الأخيرة حتى أصبح العنصر الأهم في الاقبال على الروايات بصورة أكثر من قبل حيث تناول الروايات في الأعمال السينمائية والتليفزيونية، فصحيح أن الأمر في حد ذاته ليس بالحدث الجديد، فهناك الكثير من التناولات والرؤى الدرامية لأعمال روائية منذ زمنٍ قديم مثل الثلاثية لنجيب محفوظ، والبوسطجي ليحي حقي، وأيضاً الحرام ليوسف إدريس، وفي بيتنا رجل، ولا تطفئ الشمس لإحسان عبد القدوس.. إلخ، وصحيح أنه قياساً بنسبة تناول الروايات في الدراما في مقابل القصص القصيرة سنجدها أقل بكثير، كما أن معظم الأعمال الفنية المأخوذة عن أعمال أدبية روائية عالقة بذهن المتلقي وبارزة أكثر، لكن على الرغم من ذلك فإن عودة الروح إلى تناول أعمال أدبية روائية بكثرة في السينما والتليفزيون من جديد في السنوات الأخيرة كـفيلم هيبتا، وتراب الماس والفيل الأزرق، وأخيراً ما وراء الطبيعة في دراما تليفزيونية، جعل الكثير من المتلقين يُقْبِلون على الروايات بمختلف أنواعها، فقد كانت تلك الأعمال الفنية سبباً في استقطاب فئة أخرى من القراء، وإقبالهم على الروايات، سواء اتفقنا او اختلفنا على بناء الرواية أو حتى رؤية الأعمال الفنية درامياً، فنحن بصدد رصد حالة المشهد الثقافي الأدبي، وما يؤثر في القارئ العربي دون التطرق إلى تحليلها نقدياً.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقدة فنية ــ مصــر