إذاعة وتليفزيون

مروة أحمد: After life..الحياة هشة كفراشة

مروة أحمد★

نردد دائماً أن الحياة قصيرة جداً، والوقت يمر في لمح البصر، نعتاد الأشياء والأحباب وكل ما يُمثل كينونتنا، وأسباب وجودنا الحقيقي، حتى نفقد حبيباً، أو صديقاً عزيزاً، يغيبه الموت، ليترك وراءه وحشة الفقد وألماً جديداً وجُرحاً غائراً لا يبرأ، ونبدأ فصلاً جديداً من تلك الحياة ملؤها الذكريات والصور والأماكن لا يزاحمها فيها سوى محاولة تجاوز الحزن ولو قليلاً.

في بداية عام 2022، بدأ عرض الموسم الثالث من مسلسل After life البريطاني على منصة نتفيلكس الرقمية، وهو كوميديا سوداء ساخرة قدَّمها ريكي جير فيه كتابة وإخراجاً وإنتاجاً، وقام أيضاً بدور البطل الرئيسي- (توني) – في ست حلقات لم تتجاوز الحلقة الواحدة الثلاثين دقيقة، والذي أعتبره أفضل ما شاهدته خلال هذا العام.

تدور الأحداث حول توني الذي فقد زوجته ليزا مؤخراً بعد صراع مع مرض السرطان، وتتركه وحيداً مع كلبتها التي تنقذه مرة بعد مرة من الانتحار، يعمل توني في مجال الصحافة المحلية، وهو عمل ممل ورتيب؛ فرغم ألمه الذي لا يزول إلا أن غرائب وطرائف مدينته التي يغطيها يومياً، تزيد حنقه وتدفعه للغضب، الجميع يحاول أن يخفف عنه حزنه إلا أنه لا يستطيع تجاوز فقدها الموحش.

يقول محمود درويش: “الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء”

ينجح (جيرفيه) في أن يجسد مقولة درويش في مرثية صادقة، وكتابة تليق بحجم الوجع، لا يكتب نصاً عميقاً ولا إشكالية عصية على التجسيد؛ بل ببساطة شديدة، تتوحد معاناته مع معاناتنا، الكل يعاني الفقد، ربما كان أكبر مخاوفنا جميعاً أن نفتقد شيئاً ما ولا نستطيع أن نعوضه، كانت ليزا تعرف توني جيداً، تُحَسِّنُ من سلوكه وتُحَجِّمُ مغامراته، لذلك كانت حريصة على تسجيل مقاطع فيديو كثيرة له تطلب منه أن يستمتع بحياته، وأن يكون لطيفاً مع الآخرين. فالكل يعاني، وأن يبدأ حياته من جديد، إلا أنه لا يستطيع، ربما كانت علة وجوده الحقيقية بجانبها فقط، وهنا أتذكر مشهد الراحل سامي العدل في فيلم “أحلى الأوقات” عندما قال لابنة زوجته أبلغ ما قيل في الفقد: “لما قالولي في المستشفي أن نجوى ماتت، مكنتش عارف أعمل ايه، كنت عاوز أروحلها البيت عشان تقولي أتصرف إزاي”.

يقول إدوار الخراط في روايته” اسكندريتي”: ” لا غفران أبداً لقسوة العالم، قسوة نهائية مطلقة، لا شئ يرجحها أو يفسرها، ونبض دمي يضرب في الوحشة والصمت”.

أرى أن جيرفيه في بنائه لشخصيات هذا العمل؛ اعتمد أن يتسلل إليها الوحشة والصمت والفقد، الكل يعاني من قسوة الحياة، ويحمل بداخله ألمه الخاص، صديقته في العمل تعاني من الوحدة، وساعي البريد كذلك، وصديقته العجوز التي ترافقه في الجلوس إلى قبر زوجها أثناء وجوده بجانب قبر ليزا تشاركه أوجاعه، كل شخصيات العمل مهمشة، حتى أن عمل توني بصحيفة محلية يغطي غرائب وطرائف مهمشي المدينة الذين على الجانب الآخر من الحياة التي لا تشبه الحياة، وربما مقولة الكاتب العالمي نجيب محفوظ  أيضاً من رواية ثرثرة فوق النيل: بأنَّ “كلنا صائرون إلى موت، إنما أعني موتاً أفظع- ليس ثمة ما هو أفظع من الموت- ثمة موت يدركك وأنت حي”  تعبر عن قسوة العالم في سكونه وصمته ووحشته دون رحمة أو هوادة.

بخفة شديدة يطرح جيرفيه سؤالاً فلسفياً يحتاج إلى كتاب كامل للإجابة عليه، ماذا يوجد بعد الحياة؟  هل الموت؟ ما كنهه؟ ماذا ينتظر أحباؤنا هناك؟

لا تستطيع ليزا الإجاية، عندما سألها عن الموت؛ قالت له: “ربما سأكون في السماء أو إلى حلم فيه سكينة أو ما شابه ذلك” أراد توني أن تؤمن بوجود الملائكة، فربما هي إحداهن.

وأخيراً بعد رحلة طويلة من الألم النفسي ومتاهات الحياة، والأرواح العالقة في وحدتها وأحزانها، لا يطيق توني صبراً حتى يموت – هكذا يقول لصديقه- رغم كل المحاولات بأن يبدأ من جديد. وينتهي الموسم الثالث في الحلقة السادسة منه، عندما يقرر توني أن يكون لطيفاً لأول مرة مع الجميع، ينجو الجميع؛ بينما يقرر ألا يتجاوز الألم والموت سوى بالموت نفسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة فنية ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى