سارة عمرو★
“لقد كرَّسنا أنفسنا في زيورخ للفنون بعد مذبحة الحرب العالمية، فبينما كانت البيادق تدق الساحات كنا نغني ونرقص ونرسم ونكتب القصائد بكل قوتنا” كانت تلك المقولة التي صدَّرها الألماني الفرنسي (آرب) أحد رواد ومؤسسي حركة ثارت على العالم عندما نقدوا واعترضوا على تلك الحركة التي ثارت ضد كل ما هو اعتيادي ومنطقي، تلك الحركة التي كان هدفها الأول والأخير، إظهار الجوهر في إطار اللامعقول فما هي تلك الحركة؟
الدادا أو ما يُعرف بالدادية وهي حركة أسسها الألماني (هوغو بول وصديقته إيمي هينينغس) وتكونت من مجموعة من الفنانين الذين هربوا من بُلدانهم التي دمرتها الحروب مجتمعين عام ١٩١٦م في أعقاب الحرب العالمية الأولى هاربين لسويسرا، لينتقموا من الحرب وما سبَّبته من خراب ومجازر، فآلت أدمغتهم لفكرة عمل حركة فنية وفلسفية جديدة من أجل الثورة على الحياة ومنطقها الذي أدى إلى اندلاع الحرب، فأخذت تثور على جميع أشكال الحياة العادية والتقاليد والأعراف ساخرة من المنطق، الذي لم يُغير من أمر الحرب شيئاً، وكانت تلك الحركة ردة فعل للحرب العالمية الأولى حيث كانت الحروب هي السبب في تحول فكر ومسار هؤلاء الرجال لمحاولة العثور على السلام في شيء غير منطقي، على الصعيد الآخر أصحاب تلك الحركة اعترفوا بأنفسهم بأنها فوضى وهو المقصود منها حيث أصبحوا مُعادين للقيم والمذاهب والمُعتقدات الدينية، وحتى أنفسهم حيث رفعوا شعار (الدادية ضد الدادية)، وهذا يُظهر مدى التناقض في تلك الحركة، فكل شيء فيها قائم على العشوائية والفوضى من أجل التعبير حتى عندما قرروا اختيار اسم لتلك الحركة همُّوا بفتح المُعجم الفرنسي وأول كلمة وُجدت كانت (دادا) ومعناها حصان لعبة من الخشب الصغير بالفرنسية، وكان هذا مساراً طبيعياً بالنسبة إليهم لأن هدف الحركة هو الثورة على كل ما هو تقليدي واعتيادي، لأنه من وجهة نظرهم أن كل ما هو طبيعي ومنطقي، كان الوقود الذي أشعل فتيل الحرب فلماذا لا نعكس الوضع؟…وبسبب وجهة نظرهم تلك لم يكن هدفهم هو صناعة فن مُبهج؛ بل كان هدفهم هو قلب الأساسيات والسُخرية على ما فات.
انتشرت تلك الحركة بعد الحرب العالمية الأولى لتجتاح أوروبا وأمريكا، وتأثرت بفن البوب والحركة التعبيرية والتكعيبية، وهذا يُفسر أسلوبها على المستوى الفني، فكانت لوحاتهم عبارة عن تُحف مُشوهة، وكان هذا التشوه من جهة يُعَدُّ تمرداً على الفن والثقافات الموجودة، ومن جهة أخرى يُعَدُّ اختلافاً عمن سبقوهم، ويظهر ذلك على المستوى الفني في أعمالهم الشهيرة، فمثلاً في عام ١٩١٩م قام (مارسيل دوشامب) أحد أعضاء الحركة برسم شارب ولحية على طبعة للوحة الموناليزا للفنان ليوناردو دافينشي ساخراً منها، وكانت السُخرية من الفنون السابقة أحد أهم أهدافهم لإظهار تمردهم على سلطة الفن والثقافة.
ومن أشهر أعمال تلك الحركة على الإطلاق عمل مارسيل دوشامب أيضاً الذي أطلق عليه اسم (Fountain أو المبولة) وقع عليها باسم مُستعار (R.mutt أي R المُغفل) وكان قد قدَّم هذا العمل الفني باسم (النافورة) وهو في نظر مارسيل عمل فني لأنه يرى أن صناعة عمل فني لا يحتاج لمجهود كبير، فكل شيء في تلك الحياة يمكنه أن يصبح عملاً فنياً حتى لو كان مُبتذلاً، وكانت هذه حجته ليُواجه بها العالم ساخراً منه عندما رفضوا عمله الفني هذا بحجة أنه قطعة من أدوات الصرف الصحي، فلماذا يكون عملاً فنياً؟ لكنه عُرِضَ في معرض جمعية الفنانين المستقبليين عام ١٩١٧م، ويعتبره فنانو مدرسة الطليعة أنه من أهم الأعمال الفنية في القرن العشرين.
يرى أيضاً (هوغو بول) أن الحرب بجانب شرعيتها المعدومة أنها خلطت بين الرجل والآلة فجرَّدته من مشاعره وإنسانيته، وهذا جعلهم يسخرون من فكرة التجرّد من الإنسانية بسبب تأثرهم بالتكنولوجيا والتطور الحديث، فأخذوا يُشبهون الإنسان بالآلة في أعماله مُضيفين إليه التروس والمعادن والبكرات والعجلات، ليؤكدوا أن الحرب قد حوَّلت الإنسان لتلك الهيئة المُجرَّدة من الإنسانية، ومن أهم أعمال تلك الحركة التي تُعبر عن هذا لوحات الفنان (أوتو ديكس) الذي رسم العديد من اللوحات الرمزية الدادية وأهمها لوحة The skat players) (أو لاعبي التزلج رُسمت عام ١٩٢٠م، وتُظهر اللوحة رجالاً يُرمز لهم بالجنود الألمان بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، يلعبون القمار، والقمار هنا رمز للحرب، ويَظهرون مشوهين للغاية حيث إن أطرافهم مبتورة وصناعية، فمنهم من يلعب بقدمه التي وضعت مكان ذراعه، ومنهم من يملك فكاً معدنياً وعيناً زُجاجية، والآخر يلعب بِيَدَيْ إنسان آلي، وهي كلها رموز وإشارة للرجال المشوهين والفاسدين في المجتمعات بعد الحروب، وفكرة الأطراف الصناعية إشارة إلى الجنود الذين أُصيبوا في الحروب، وعاشوا بعاهات مُستديمة بشعة طوال حياتهم، فكانت تلك اللوحة تعاطفاً معهم أيضاً، وهي في نفس الوقت نقد للمجتمع الذي عجز عن علاجهم مع تطور التكنولوجيا.
تُعد الحركة الدادية واحدة من أهم الفنون التي ظهرت على الساحة العالمية، وأثرّت في الفن الحديث، وكانت هي الأرض الصلبة التي أنبتت الحركة السريالية فيما بعد؛ ولكن برغم ذلك لم تستمر تلك الحركة طويلاً، لأن قوامها الأساسي هو الهدم وليس البناء، وذلك يَظهر من مقولة آرب: “إن الهدم كان ضرورياً ليستطيع هؤلاء الماديون البؤساء أن يتعرفوا في الأطلال السابقة على ما هو جوهري”
ولكنها برغم ذلك ما زالت تُذكر حتى يومنا هذا، ومازال السويسريون يحتفلون بتلك الحركة في الخامس من فبراير لكل عام، وقد سُمِّيَ المبنى الذي أسسوا فيه تلك الحركة باسم مبنى دادا، ويحمل هذا المبنى العديد من الصور واللوحات والسِّيَر الذاتية لمؤسسيه، ومعظم أعمالهم موجودة في المتحف الوطني في سويسرا، وتحديداً في مدينة زيورخ، ويبدي السويسريون إعجابهم الشديد بتلك الحركة وأعمالها الفنية حيث تم صناعة فيلم وثائقي يُدعى (الدادا حياتي) وقامت سويسرا بإحياء ذكرى الدادا من خلال عمل مشروعين مشروع يُسَمَّى (بيانات الدادا) وهو عبارة عن احتفال إعلامي يشمل أربع لغات، وتشارك فيه الإذاعة والتلفزيون السويسري، والآخر يُعَدُّ مشروعاً رَقْمِيَّاً يخُصُّ دار الفنون في زيورخ، وتُحَمِّلُ تلك الدار ما يُقارب (٥٤٠) عملاً فنياً دادياً على الإنترنت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ كاتبة ــ مصــر