محمد القلاف:قراءة نقدية لمسلسل “كان إنسان” من “الرقّي” إلى الهاوية ..تراجيديا إنسانية.


محمد القلاف★
مسلسل «كان إنسان» (كويتي) من فكرة علي كاكولي، تأليف فاطمة العامر، وإخراج علي العلي.
هو عمل درامي-تراجيدي إنساني، يتمحور حول الصراع الأزلي بين الخير والشر داخل النفس البشرية، وكيف يمكن للإنسان أن ينزلق من البراءة إلى الجريمة تحت ضغط الطمع والخيانة والصراعات الطبقية والاجتماعية. يتألف المسلسل من ثماني حلقات قصيرة، منسجمًا مع الموجة الحديثة للمسلسلات المركّزة التي تعكس سرعة إيقاع الحياة المعاصرة.

في الغرب، نجد تناصًا واضحًا مع أعمال تناولت الانهيار الأخلاقي (Moral Downfall)، أبرزها رواية دكتور جيكل ومستر هايد حيث يتصارع الخير والشر داخل شخصية واحدة، أو مسلسل Breaking Bad الذي جسّد تحوّل معلم بسيط إلى مجرم بسبب الظروف والضغوط. كذلك، يحاكي «كان إنسان» التراجيديات الشكسبيرية مثل عطيل ومكبث، حيث يتحول البطل من البراءة إلى السقوط المأساوي بدافع الرغبات والضغوط المحيطة.

بهذا المعنى، يلتقي «كان إنسان» مع نمط المأساة الإنسانية (Human Tragedy)، التي تقدم الإنسان ككائن هشّ يتأرجح بين الفضيلة والخطيئة، ويدفع في النهاية ثمنًا باهظًا.
البطل وملامح التحوّل
بطل المسلسل (علي كاكولي) الذي اصبح ايقونة المؤلفة فاطمة العامر في اعمالها الدرامية لمدرستين (الواقعية والطبيعية) خاصة في مسلسل محامية الشيطان سابقاً وحالياً كان إنسان، هذه الشخصية الرئيسية هو بائع بسيط للبطيخ (الرقي باللهجة الخليجية)، يسعى لتأمين حياة كريمة لعائلته، مثقلًا بعبء الفقر وأبيه المقعد. لكن الضغوط الطبقية والاجتماعية والاضطهاد تدفعه نحو صراع داخلي بين واجباته العائلية وبين إغراءات الفساد، فيتحول من إنسان عادي إلى شخصية مأزومة تمزقها ثنائية (الإنسان/الوحش).
هذا الصراع يمر بأربع مراحل
ـ السياق الاجتماعي (الفقر والطبقية).
ـ القدر والذنب (بين الابتلاء والاختبار).
ـ الأسرة والمرأة (عنصر ضابط وكاشف لانهياره).
ـ الأخلاقيات (الرسالة الوعظية: من يبتعد عن قيمه يهلك).
هكذا يصبح البطل نموذجًا هجينًا يجمع بين التراجيديا الكلاسيكية (السقوط بخطأ مأساوي)، والمأساة الحديثة (بطل عادي يمثل الإنسان البسيط)، والدراما النفسية (الصراع الداخلي بين الخير والشر).

وإذا اتينا لشبكة العلاقات في مسلسل كان إنسان تتجسد الشخصية الرئيسية يوسف بدور البطل، وهو شاب فقير بلا هوية ينتمي إلى أسرة معدمة، يعيش بحثًا دائمًا عن حياة أفضل، لكنه يضحي بدراسته وصحته ومتعه الشخصية في سبيل إعالة أسرته. دوافعه تنبع من الطموح والخوف من الفشل، فيما يعيش صراعًا داخليًا بين قيمه النزيهة وبين إغراءات المال والانزلاق نحو الحرام.
ترتبط شخصية يوسف بشبكة من العلاقات المتناقضة؛ فصديقه القديم يعقوب يغدر به بدافع المال ويخطط للإطاحة به ظلمًا، بينما يعاني يوسف من أجل توفير لقمة العيش لأمه وأبيه وأخته، إلا أنّ الأم تنجرف إلى تصديق الكذبة التي حيكت ضد ابنها البريء. في المقابل، نجد المغنية التي آمنت ببراءته ووقفت إلى جانبه، بل اعتنت بأسرته أثناء فترة سجنه. داخل السجن يلتقي يوسف برجل كان بمثابة الأب، ينقل إليه خبرته في مواجهة قسوة الحياة.

أما على صعيد الخصومة، فهناك رجل الأعمال الثري والد نورة، الذي يستخدم أساليب الغدر والمكائد لتوريط يوسف وإبعاده عن ابنته، التي أحبها يوسف. ومع تطور الأحداث تخونه نورة نفسها وتتزوج من آخر، كما يتخلى عنه معظم من حوله.
رحلة البطل تمر بتطور ملحوظ؛ إذ يبدأ نزيهًا متمسكًا بقيمه، ثم يسقط تدريجيًا في مغريات الحياة، ليعود في النهاية إلى نفسه، فيستعيد توازنه وينتقم من خصومه، معلنًا بداية حياة جديدة. ومن هنا فإن رمزية يوسف في العمل تمثل الإنسان العادي في صراعه الأزلي بين الخير والشر.
أداء الممثل علي كاكولي جاء الأعمق والأكثر إقناعًا، إذ جسّد الشخصية بواقعية واحترافية، مما يفرض أن تكون الشخصية المقابلة له في مستوى أدائه لضمان التوازن الدرامي. ورغم مشاركة بعض الوجوه الجديدة التي ربما ما زالت في بداياتها، فإن وجود خبرات كبيرة مثل جاسم النبهان، محمد العجيمي، يوسف محمد، طيف، ونور الدليمي أنقذ الكثير من المشاهد ومنحها قوة ووزنًا. كما برزت طاقات واعدة مثل مشاري المجيبل وآلاء الهندي اللذين قدما أدوارهما بجدية واجتهاد يستحقان التقدير.
الفوارق مع الغرب
تتجلى خصوصية مسلسل «كان إنسان» في اختلافه عن النماذج الغربية رغم وجود تشابه في البناء التراجيدي. ففي الأعمال الغربية غالبًا ما يكون السقوط نتيجة قرار فردي خاطئ يصدر من شخصية تعيش في مجتمع رأسمالي فرداني، حيث الضغوط الاقتصادية والفردانية هي المحرك الأساسي لانهيار البطل. أما في «كان إنسان» فنحن أمام بنية مختلفة، إذ يأخذ الذنب بعدًا دينيًا-قدريًا؛ فهو يُفهم أحيانًا على أنه ابتلاء إلهي أو اختبار من الله، لا مجرد خطيئة شخصية أو قرار خاطئ. هذا البعد الإيماني يضفي على التراجيديا الكويتية طابعًا روحيًا يجعلها أكثر ارتباطًا بالوعي الجمعي للمتلقي الخليجي.
كذلك، تلعب الأسرة والمرأة دورًا محوريًا في القصة. فإذا كانت المرأة في الأعمال الغربية إما محركًا للأحداث كما في مكبث، أو ضحية للنظام الاجتماعي، فإنها في «كان إنسان» تمثل الضابط الأخلاقي أو الكاشف لانهيار الرجل، بل قد تكون الضحية الكبرى نتيجة سقوطه، كما يتضح من معاناة أمه وأخته والمرأة التي يتعرف عليها في بداية الأحداث. هنا تصبح الأسرة ليست مجرد خلفية، بل ساحة الصراع الرئيسية. ومن ثم يمكن القول إن التراجيديا الغربية غالبًا ما تُقدَّم كتجربة فكرية أو فلسفية حول طبيعة الشر، بينما في «كان إنسان» تتحول إلى خطاب أخلاقي موجّه للمجتمع، يذكّر بأن الابتعاد عن القيم الدينية والاجتماعية يقود حتمًا إلى الهلاك.
«كان إنسان»… الدراما كمرآة للفقر والطبقية ومسؤولية التغيير
يسلط الفن الضوء على الفئات المحرومة عبر تناوله لظاهرة الفقر وتفاوت المستوى المعيشي، من خلال تجسيد معاناتهم وكشف أبعاد الحالة الاقتصادية والتعليمية، بل وحتى الطبقية والاجتماعية، وخاصة ما يتعلق بالأخلاقيات والزواج بين الطبقات المختلفة؛ الغنية والفقيرة من جهة، والمتوسطة والفقيرة من جهة أخرى. وقد استُخدم الفن كوسيلة للتوعية والتعبير عن هذه القضايا، كما في مسلسل كان إنسان، الذي سعى إلى إيقاظ وعي المشاهد ودفعه نحو التفكير وإحداث التغيير الاجتماعي.
وقد نجحت الكاتبة فاطمة العامر في إبراز هذه القضية وتوضيح ملامحها بوضوح، لتؤكد على الدور التوعوي والمسؤولية المجتمعية للفن في البحث عن حلول ومعالجة مثل هذه المشكلات. وهنا يتجلى دور الدراما بوصفها مرآة للواقع ووسيلة لتسليط الضوء على قضاياه الملحة، واللافت في أسلوب الكاتبة أنها استلهمت من قصة النبي يوسف عليه السلام ما تعرض له من ظلم وافتراء، لتُبرز أن في داخل كل واحد منا جانبًا من يوسف، وأن الزور والاتهام قد يطالنا حتى من أقرب الناس، تمامًا كما حدث مع إخوة يوسف حين شهدوا عليه زورًا.
المكياج والأزياء بين الواقعية والصدق الفني في أعمال فاطمة العامر
وفي المكياج والأزياء تتسم أعمال فاطمة العامر بملامح المدرسة الواقعية، وهو ما نلمسه بوضوح في محامية الشيطان والآن في كان إنسان، حيث ينعكس ذلك في المكياج والأزياء التي تجنبت المبالغة وحرصت على أن تكون أقرب ما يكون إلى الواقع. وقد برع علي كاكولي، إلى جانب بقية الممثلين، في تجسيد هذا الجانب، إلا أنّ تميّزه بدا أوضح لقدرته على توظيف الشكل واللباس بما يخدم شخصياته على نحو مقنع وطبيعي.
الجدل والبدائل الفنية
أثار المسلسل عند عرضه جدلًا واسعًا في الوسط الفني والاجتماعي، خاصة فيما يتعلق ببعض المشاهد والملابس التي رأى البعض أنها لا تتناسب مع البيئة المحافظة وقيم المجتمع. هذا الجدل انقسم إلى اتجاهين متضادين: فريق انتقد بشدة، معتبرًا أن ما عُرض يمثل خروجًا عن العادات والتقاليد ولا يليق بالدراما الكويتية، وفريق آخر رأى أن الأمر لا يتجاوز كونه عملًا دراميًا يندرج في باب الترفيه والتسلية، وأنه لا يحمل بالضرورة تأثيرًا سلبيًا مباشرًا على المشاهد. ومن هنا نشأت مقارنة متكررة بين ما قدمه المسلسل وبعض الأعمال السابقة أو حتى الغربية، وهي مقارنة اعتبرها كثيرون مغالطة، لأن ما كان يُسمح به في الماضي قد لا يُقبل اليوم، لذا عند المقارنة بين ما كان يُعرض في الماضي وما هو قائم اليوم، يجب أن ندرك أن الظروف المحيطة آنذاك كانت مختلفة تمامًا. فما كان مسموحًا في ذلك الوقت لم يعد مقبولًا في حاضرنا، ولأن ما هو عادي أيضاً في الغرب لا يمكن بالضرورة استنساخه في الشرق.
هذا النقاش فتح الباب أمام سؤال أكبر: هل يمكن للدراما أن تحافظ على قوتها الدرامية من دون خرقٍ للحدود الأخلاقية والاجتماعية؟ والإجابة هي نعم، شريطة البحث عن بدائل فنية أكثر عمقًا وذكاء. كان بالإمكان، على سبيل المثال، استبدال مشهد كشف المفاتن بوسائل إيحائية تحافظ على الجوهر من دون صدمة بصرية، مثل التركيز على لغة الجسد وتعبيرات الوجه التي تعكس القلق والخجل والصراع الداخلي، أو الاعتماد على الرموز البصرية كالمرآة والظلال وحركة الكاميرا. كذلك، يمكن تقديم مشاهد القرب العاطفي دون تماس مباشر عبر إبراز لغة العيون وحركات اليدين، أو وضع الشخصيتين في إطار بصري واحد يوحي بالتقارب النفسي، مع الاستعانة بالموسيقى التعبيرية والإضاءة الدافئة لتعويض الغياب الجسدي.
بهذه البدائل، كان يمكن للمسلسل أن يحقق التوازن المطلوب بين جرأة الطرح الفني واحترام البيئة الاجتماعية والدينية، كما تفعل بعض الدراما الشرقية الأخرى مثل اليابانية التي تحافظ على هويتها الثقافية الاجتماعية، وتعتمد على التلميح والإيحاء بدل المواجهة المباشرة. وهكذا يصبح «كان إنسان» أكثر قدرة على التميز محليًا وعالميًا، من دون أن يدخل في صراعات وجدالات كان من الممكن تفاديها.
ملاحظات على مسلسل كان إنسان
لوحظ أن مشهد التعارف السريع بين يوسف ونورة جاء متسرعًا وغير ممهد له دراميًا، مما قلل من قوة حضوره وأضعف منطقية العلاقة لاحقًا.

أما في المشهد الثاني، حين يدخل زوج المغنية إلى بيتها ليواجه زوجته، فقد بدا الحس الدرامي ضعيفًا؛ إذ تفوقت الزوجة في الأداء العاطفي على الزوج، ما خلق تذبذبًا في التوازن الدرامي وأفقد المشهد قوته.
كما أن علاقات الحب العاطفي في العمل، وإن كانت ظروفها مختلفة، إلا أنها صُورت بشكل متسارع وغير مترابط، الأمر الذي جعلها أقل إقناعًا للمشاهد وأبعد عن التماسك الدرامي المطلوب.
وعلى الرغم من أنّ نهاية مسلسل كان إنسان حاولت أن تؤكد فكرة أنّ العاقبة تكون للظالمين وأنّ يوسف – بطل العمل – ينال في النهاية نهاية سعيدة، إلا أنّ الحبكة جاءت ضعيفة. فطرح الانتقام واستعادة الحقوق دفعة واحدة، وإنهاء مسار الأشرار في لحظة واحدة، بدا غير منطقي ولا يتماشى مع طبيعة الأحداث التي سبقت النهاية، خصوصًا أنّ مسار الدراما كان قد بلغ ذروته من القوة والصلابة، مما جعل الخاتمة أقل تأثيرًا مما كان متوقعًا.لدروس المستفادة
الدروس المستفادة
«كان إنسان» يثبت أن الدراما الكويتية قادرة على الانخراط في حوار عالمي مع التراجيديات الكلاسيكية والحديثة، مع الحفاظ على خصوصيتها الثقافية. وهو يطرح سؤالًا عميقًا:
هل الإنسان شرير بطبعه، أم أن المجتمع هو من يصنع شرّه؟
والإجابة في هذا العمل: الإنسان هشّ، يتأرجح بين الفضيلة والخطيئة، لكن المجتمع وقيمه قد يكونان السدّ الأخير أمام الانهيار.




