سينما

فاطمة فتحي: after sun.. الحنين في حضرة الغياب

حميمية العلاقة بين أب وبنت

فاطمة فتحي★ 

شاهدت فيلمنا خلال فعاليات الدورة الخامسة عشرة ببانوراما الفيلم الأوروبي في الفترة من 1 حتى الـ 10 من ديسمبر الماضي، والتي عُرض في برنامجها عدة أقسام، وكان المختلف فيها هذه المرة تقسيم الأفلام طبقاً لحالتها النفسية أو الروحية، وليس نوعها السينمائي، حيث قدمت البانوراما سبعة أقسام، أولها (شقوق حميمة) لأفلام تتحدث عن رابطة القرابة حينما تصاب بالتصدع إثر احتمال الخسارة، وتتحررمشاعر الحب المعقدة، وتصل إلى أبعد مداها، تم عرض فيلم (رحيق عطلة صيف) ضمن تلك المجموعة كونه فيلماً فى مديح الذكرى المغلفة بالحنين والتوق للماضي.
يقول محمود درويش في وصفه للحنين : “هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة ولا يولد من جرح فليس الحنين ذكرى بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة الحنين انتقائي كبستاني ماهر وهو تكرار للذكرى ، وقد صُفِّيَتْ من الشوائب“.


يُقدِّمُ الفيلم حالة من التواصل العاطفي بين أب يُدعى ( كالوم ) أدّى دوره بول ميسكال، وابنته تسمى (صوفي) جَسَّدت شخصيتها فرانكي كوريو، وهي تستعيد ذكرى رحلة عطلة صيفية قضتها مع والدها في نهاية تسعينيات القرن الماضي،  وكانت حينها بعمر الحادية عشرة، وهو في الثلاثينيات من عمره.
يشكّل “after sun” الفيلم الروائي الأول من إخراج وكتابة تشارلوت وِلز، المولودة عام 1987 في اسكتلندا ، والتي تعيش في نيويورك.

وقد حصل فيلم ” after sun” جائزة اللمسة الفرنسية بأسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي الدولي ٢٠٢٢، وجائزة النقاد بمهرجان دوفيل السينمائي ٢٠٢٢، والجائزة الخاصة الكبرى بمهرجان دوفيل السينمائي ٢٠٢٢، وجائزة المهرجان لأفضل سيناريو بمهرجان بوخارست السينمائي الدولي ٢٠٢٢.
قصة الفيلم بسيطة؛ لكن يوجد بها فراغات تشبه تماماً فراغات ذاكرتنا، ونستطيع أن نتفهم هذا؛ لأن الفيلم عبارة عن ذاكرة مستعادة، معتمداً على كاميرا الفيديو، وصور فوتوغرافية وكتب ورسومات، كان ذلك يساعدها على استعادة كل تفاصيل علاقتها بوالدها، حتى أننا نشاهد فى أكثر من مرة خلال شريط الفيلم أحداثاً تبدأ وتنتهي دون الكشف عن سببها، هل تُؤسس لبناء درامي أم لا، فنكتشف أنها ليست كذلك، وأنها متروكة عمداً بدون تبرير، أرى السبب في ذلك أن الفيلم يُقَدِّمُ فكرة أصيلة، مفادها أننا عندما نكون أطفالاً صغاراً تَمُرُّ بنا أحداث، سواء تتعلق بنا أم لا؛ ولكنها تترك أثراً كبيراً داخل نفوسنا، وعندما نكبر، نكتشف أن تلك الأحداث هي التي شَكَّلتنا وكَوَّنت شخصياتنا.

هذه العطلة هي الذكرى الأخيرة بين البنت وأبيها، نرى في بداية الفيلم مشاهد فرح وابتسامات، ثم تغزو تدريجاً ملامح الضياع والألم والحزن وجه هذا الشاب الثلاثيني، وبالتوازي يعرض الفيلم بمهارة ونعومة، وفي تدفق انتقال صوفي من الطفولة إلى عمر ما قبل المراهقة، ونسجها علاقات مع مراهقين في نادي العطلات، واكتشافها المغازلات الأولى.
تتمتع صوفي الطفلة بقدر عالٍ من الذكاء، يظهر ذلك في علاقتها بوالداها، كما لم تكن علاقتهما محصورة فقط على الأبوة التقليدية، حيث نتبين فى أثناء استرجاعها لذكرياتها أنها تعيد استكشافه كإنسان ورجل من منظور وعيها الآن، وهي شابة في مثل عمره وقتها.
جاء أسلوب المخرجة في سرد قصة الفيلم في شكل عاطفي جذاب مملوء بفيض من المشاعر؛ حيث تتنقل بكل سهولة من مشاعر السعادة والفرح، للخسارة والفقد، قدَّمت ذلك عن طريق لقطات مسجلة على كاميرا ترصد كل التفاعلات بين صوفي وكالوم، بعضها يبدو مستعاداً عبر ذاكرة ضبابية تمزج بين الحقيقة والخيال من قبل صوفي البالغة الآن (سيليا رولسون هول) وهي تنظر إلى الوراء على الأشياء التي لم تكن تفهمها في ذلك الوقت، تنظر إليها كأنها فجوات.
شَكَّلَ الإخراج لبعض المشاهد في عرض الصور بأسلوب شبه خيالي، يشبه الحلم، مستحضراً مساحة سحرية آسرة وخاصة لعلاقة أب وابنته.


نصل إلى آخرلقطات الفيلم، وآخر ذكرى للبنت مع والداها، نراهما، وهما يتشاركان الرقص على أغنية شاعرية؛ في مشهد ختامي حالم يحتفي بالحياة، والتشبث بها مثلما حاولت الفتاة احتضان ذكرى وجودها مع والدها داخل نفسها.
اِتخذ ” after sun” أسلوباً سَلِساً وعذباً في تفكيك الروابط الأسرية المعقدة ، وكذلك مفهوم الأبوة ، وذكريات الطفولة.

وعندما تنتهي من مشاهدة الفيلم تشعر بأن الكثير من الأشياء لاتزال غامضة؛ ولكنك رغم ذلك تستطيع أن تشعر بألمها، وتفكر أنه ربما هذه هي طبيعة الحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتبة ــ مصــر

 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى