فنون وآداب اخرىمشاركات شبابية

سارة عمرو: هيروشيما تتفجر فناً

(جين الحافي)

سارة عمرو

لم تكن الحروب شيئاً مألوفاً إلا عندما حدّد لها الإنسان حدوداً معرفية، فأصبحت وسيلة لتحقيق مصالح شخصية لرؤساء ودول، تُحدد مصير دول أخرى من خلال الحرب…ولخدمة هدفها تسعى لخلق أسلحة جديدة تظهر بها على الساحة العالمية، كأول مُخترع ومكتشف سيُنهي حالة حرب قائمة بضغطة زر…وهذا ما حدث تحديداً مع أمريكا و اليابان في الحرب العالمية الثانية….عندما أرادت أمريكا من اليابان أن تستسلم دون أي شروط أو قيود لإنهاء الحرب العالمية الثانية…لكن حاكم اليابان قد رفض الاستسلام وتابع في الحرب….على الرغم من ذلك ، كان العديد من الناس منهم يابانيون،  يرون أن اليابان ستُهزم على أي حال.

عندما قررت أمريكا أن تضرب اليابان عام ١٩٤٥م…اِختارت مدينتين ذواتي أهمية استراتيجية وعسكرية بحتة…وهما هيروشيما وناجازاكي…حيث إن هيروشيما كانت المقر الرئيسي للجيش الياباني، وناجازاكي كانت الميناء الخاص بالجيش؛ ولكنها لم تكن المُستهدفة في البداية، بل كانت مدينه كوكورا.

قامت امريكا بضرب هيروشيما بقنبلة نووية تُدعى (Little boy)…وهي من ضمن مشروع مانهاتن لصناعة الأسلحة النووية التي عمل عليه فريق من العلماء على رأسهم اينشتاين…حيث قصفت فرقة الطيران المشتركة 509 من القوات الجوية الأمريكية القنبلة على هيروشيما ، وأدَّى ذلك إلى تدمير 90% من المباني، وقُتل أكثر من 80 ألف مواطن ياباني في لحظتها….لم تكن قنبلة little boy مقصودة بهدف تدمير اليابان ، بقدر ما كان هدفها هو تجربة القنبلة الذرية التي استغرقت فوق الثلاث سنوات لصناعتها…لِتُعَدَّ حادثة هيروشيما هي إبادة جماعية وحشية للجنس الياباني ، وواحدة من أبشع المجازر في التاريخ.

اِستغل العديد من الفنانين والأدباء والكُتاب تلك الحادثة للتعبيرعن الشعب الياباني بشكل ظاهري وداخلي…. فلم ينجو من تلك الكارثة أحد، وحتى الناجين اُصيبوا وماتوا بأمراض أثر القنبلة الذرية.

من أهم هؤلاء الفنانين الذين نجحوا في التعبيرعن قصة هيروشيما بكل تفاصيلها هو المانجاكا الياباني ورسام الكريكاتير (ناكازاوا كيجي)…ولد في هيروشيما عام ١٩٣٩م…كانت رسوماته تدور حول فكرة الحروب و السلام ، حيث إنه قد عاصر قنبلة هيروشيما ، و فقد أسرته بالكامل في تلك الحادثة المفجعة…و اُصيب بالعديد من الأمراض إثر القنبلة ، وكان المرض الرئيسي هو سرطان الرئة ، و مات بسببه….من أشهر أعماله ( جين الحافي) وهي سلسلة من المانجا التي تُعَبِّرُ عنه…والمانجا هي الكومكس باليابانية ، وتحكي بشكل كريكاتيري قصة هيروشيما، وقام بعرضها بتلك الطريقة حتى يسهل على القارئ فهم ما حدث دون تزييف…تُرْجِمَتْ لأكتر من عشرين لغة ، وذاع صيتها في جميع أنحاء العالم…وتم صناعة فيلم (أنيمي) مُستوحًى من تلك السلسلة.

جين الحافي:  

سلسلة من المانجا تتكون من 10 أجزاء…. تتحدث عن قصة هيروشيما، وما بعد القنبلة…وسُميت بجين الحافي لأنه حافٍ طوال الوقت بسبب الفقر…. وهذه إشارة على أشكال المعيشة في اليابان قبل وبعد إلقاء القنبلة…يحكي كيجي من خلال جين عن الأحداث التي عاشها اليابانيون بعد قنبلة هيروشيما، وما سبَّبَته من أثار نفسية وجسدية، والأمراض التي خلفتها خلفها…والظروف التي أدَّت إلى ضياع طفولة العديد من الأطفال، وكل ذلك بسبب الحروب.

يناقش كيجي العديد من القضايا والأفكار التي اُثيرت بعد حادثة هيروشيما…. حيث إن تلك الحادثة قد خلَّفَتِ العديد من المشاكل، والظروف السيئة لدى الشعب الياباني.

من أهم تلك القضايا فكرة إجبار السلطة للشعب على الذهاب للحرب، والسلطة والشعب يعلمان أن اليابان ستُهزم على أي حال…ويُعَدُّ هذا استغلالاً لوطنية المواطن لأعمال وحشية…ولا يمكننا القول بأنه إذا ما استسلم حاكم اليابان منذ البداية ما كان سيحدث ذلك، لأن هدف أمريكا الرئيسي من قنبلة هيروشيما هو تجربة القنبلة النووية على مدينة كاملة أولاً، ثم استسلام اليابان ثانياً.

كما يناقش كيجي الوضع المادي و المعيشي في اليابان قبل و بعد القنبلة من خلال أسرة جين بسبب الحرب….حيث إن الأطفال دائماً جائعون…يتناولون وجبة واحدة في اليوم…و غالباً ما تكون الأرز…لكن برغم ذلك لم يكونوا يتناولونه كل يوم…وذلك أدّى إلى ضعف أجسادهم ونحالتها…أما بعد القنبلة، فساءت الأوضاع كثيراً، حيث كان سكان هيروشيما يُهاجرون لِقُرًى و مُدن أخرى…وذلك سبَّب أزمة في الغذاء…حيث إن العديد من المزارع قد تدمرت….والأسماك في البحيرات قد نفقت….فلم يكن هناك غذاء كافٍ لكل هؤلاء الناس….لذلك كانت تحدث مشاكل بين سكان هيروشيما ، و بين سكان المدن الأُخرى…وكان الحصول على الطعام  و المسكن أمراً صعباً

كان للقنبلة آثار وحشية، و غيرإنسانية على سكان هيروشيما…فكان الناس الذين لم يموتوا فوراً من القنبلة…يذوب جلدهم….وتصبح أعينهم جاحظة، ومنهم من فقد قرنيته….ومنهم من كان يمشي دون أطراف….منهم من يتبول لا إرادياً….ومنهم من كان يتعفن، وهو حي حتى يلتهمه الدود….كانوا يشعرون بالعطش الشديد، وكلما حاولوا الشرب كانوا يموتون؛ لأن جسدهم لم يتحمل المياه…ومنهم من سقط جسده في البحيرة كان ينفجر من شدة الحرارة….كانوا يسيرون، وكأنهم أموات يبحثون عن من ينجدهم….منهم من كان يسير وأحشاؤه خارج جسده…ومنهم من كان يزحف وجلده مكشوط في العراء….وهناك من كان يزوره الصلع مُبكراً كجين….ومنهم من كان يتقيأ الدماء…ومن كان ناجياً منهم…اُصيب بأمراض داخلية على المدى البعيد كالسرطانات….و كان الدود في الجثث يتحوَّل إلى ذباب يلتصق بالناجين…كانت الجثث تتعفن سريعاً، فكانوا يحرقون الجثث في محرقة جماعية من بينهم أطفال رُضع…ساءت الأوضاع لدرجة أنهم فضَّلوا مصالحهم حتى لو لم تكن منطقية ، فقط من أجل العيش…فعلى سبيل المثال…كان البعض يطحن الجماجم ويتناولها، ويظهر في أحد مشاهد القصه امرأة لا تستطيع إرضاع طفلتها، فتضعها على جسد امرأة ميتة لترضعها الحليب….خَلَّفَتِ الحرب مشاهد سريالية عبثية.

أدَّت الحرب إلى انعدام الإنسانية، وتغير النفوس لدى الناس….فالجميع كان يقول مصلحتي أولاً ولا يهم أي شيء آخر….ولم يهتموا حتى لذويهم…فمع أسرة جين…لم يكن لديهم مأوًى ليعيشوا به…فقد دُمر منزلهم بسبب القنبلة…لكنهم سرعان ما استقروا عند صديقة والدته…ولكن والدة زوجها كانت تسعى لطردهم…كانت تكرههم، وترى أنهم يُشَكِّلُون عبئاً…برغم أن جين لديه أخت رضيعة…ولا مأوًى لهم…فلم يجعل ذلك السيدة العجوز تغير رأيها وطردتهم…على الجانب الآخر…كانت هناك عائلة أخرى مُكَوَّنة من زوج و زوجة وطفلتين وأخ الزوج…أخ الزوج يُدعى سيجي، كان يعمل مدرس رسم، وكان موجوداً في هيروشيما لحظة إلقاء القنبلة، و اُصيب جسده لدرجة أنه كان يخرج منه الدود و الروائح الكريهة، وهو على قيد الحياة…كانوا يعاملونه باشمئزاز  و يُطلقون عليه (شبح و وحش) كانوا يتمنون موته، لأنه يجلب لهم العار…ذلك جعله يحزن بشدة…و هنا يظهر انعدام الإنسانيه تجاه الأخ لأخيه.

من أهم القضايا التي يناقشها كيجي هي فكرة ضياع الطفولة، وبراءة الأطفال بسبب الحرب والقنبلة…وظهر ذلك في العديد من المواقف في القصة منها…المشهد الذي يتعرف فيه جين وصديقه على الأسلحة النارية التي جاء بها الجنود الأمريكان…فهم لا يعرفونها ولا يعرفون كيف يستخدمونها، وهذا مشهد عبثي يوضح مدى براءتهم، وجهلهم بأمور الحرب…. ويظهر أيضاً أن للحرب وجهاً آخر، يجعل الطفل يتحوَّل من طفل إلى بالغ، وهو في سن صغيرة.

ذكر كيجي أيضاً قضية تجارة الأعضاء…حيث إن الجنود الأمريكان عقب إعلان الحاكم الياباني استسلام اليابان اقتحموا البلاد، وأخذوا يفتشون في الجثث، ويأخذون أعضاءهم ويحرقونها بعد ذلك…وتلك الأعضاء في الغالب سيتم بيعها…وهذا يُعَدُّ أكثر من جُرم، حيث لم تكتفِ الولايات المتحده فقط بتدمير مُدن كاملة، وخلق جحيم مُصغر إلى أهلها، ولكن يتعدون أيضاً عليهم حتى وهم اموات.

يناقش ايضاً من خلال المشهد الذي يظهر الجنود الأمريكان، وهم يرمون للأطفال العلكة، وكأنهم يُسَكِّنُون آلامهم لأنهم أطفال وفُقراء، فسيرضون بأي شيء…وهذا يدل على المهانة والمذلة التي كانت حالَّةً على الشعب الياباني وقتها…. ويدل أيضاً على سذاجة الاطفال الذين من المفترض أن يكونوا في المدرسة الآن، لا أن يتجولوا بين الجثث.

أدَّى سوء التغذية في اليابان في ذلك الوقت، والفقر وقلة الطعام إلى موت العديد من الناس بسبب مرضهم لعدم تناولهم للطعام…فمنهم من مات بعد ظهور حساسية شديدة على جسده…ومنهم من كان يتقيأ الدماء حتى مات…وكانت تلك الموتة من نصيب طوموكو أخت جين الصغيرة…التي ماتت بسبب قلة الطعام والغذاء…وهذه إشارة إلى موت الأطفال الذين لا ذنب لهم في صراعات السُلطات والبُلدان، ولم يضع حاكم اليابان هذا في اعتباره، فكان من الممكن أن يمنع كل ذلك، لو كان استسلم منذ البداية…. وكان هذا تفكير معظم الشعب الياباني وقتها.

بسبب سوء ظروف المعيشة يتحول الأطفال من مجرد أطفال أبرياء إلى لصوص، يسرقون ويقتلون ويبيعون أنفسهم من أجل الطعام للعيش…وبسبب ذلك، كان يتم استغلال الأطفال لينضموا لعصابات المافيا والسوق السوداء.

للحرب وجوه عديدة…وكلها أسوأ من بعضها البعض…كلها تخلق جيلاً يفتقر للطفولة السليمة، ويترك ندوباً نفسية بداخلهم…ومع ذلك كان بعضهم يحَوِّلُ تلك الندوب إلى أعمال فنية، ليُعبر عن مشاعره التي عجز عن إخراجها كحديث، ولم يجد حتى من يسمعه…ودليل على ذلك.. مشهد سيجي الرسام الذي صمم على رسم لوحة تشمل المحرقة والجثث التي كانت مرصوصة، لأنه رأى أنه يجب أن يتم تخليد تلك الذكرى لأجل هؤلاء الذين اغتالتهم الحرب.

مازالت تلك السلسلة من القصص المصورة تحكي وتناقش العديد، والعديد من القضايا التي تُظهر مُعاناة الناس، والأطفال بشكل خاص، في ظل الحروب التي تدور بين رؤساء وسُلطات الدول…دون الاكتراث للشعوب ومصلحتها، ونتيجه لذلك يموت العديد والعديد من الناس، ويموت الأطفال الذين لم تسنح لهم الفرصة للعيش، بل يذهبون كقطار سريع إلى الموت دون أي وجه حق…فقصة هيروشيما تلك لم تكن شكوى للعالم من الحرب فقط، بل فجرت هيروشيما فناً للعالم حتى لا ينسَى مجازر الحروب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتبة ــ مصــر

 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى