شيماء مصطفى: أسمهان..الصوت الذي لم يهزمه الموت.
شيماء مصطفى ★
“ليالي الأنس في ڤيينا نسيمها من هوا الجنّة
نغم فى الجوّ له رنّة سمعها الطير بكا وغنّا.
“الصوت أكثر من الصورة، يجعل الذاكرة وفية بالأشياء والتواريخ والأحداث” الكاتب المغربي الفرنسي ( الطاهر بن جلون)
بيقين تمام يمكنني بأن أقول بأن المقولة السابقة تتطابق مع حياة الفنانة أسمهان والتي تحل ذكرى رحيلها اليوم 14 يوليو ، حيث رحلت عن عالمنا بعد حادث مأسوي في تدبيره وأسطوري في أثره ، كما تطابقت بشكل مذهل مع أغنيتها ” ليالي الأنس ” كلمات أحمد رامي وألحان فريد الأطرش والتي تغنت بها أسمهان بأوبريت غنائي استعراضي في فيلم غرام وانتقام 1944 وهو فيلمها الثاني والأخير في مسيرتها القصيرة زمنيًّا والثرية فنيًّا، فعلى مستوى اللحن وفق فريد الأطرش في استخدام الفالس الإيقاعي المعروف بتحوله إلى نوع راقص فيما بعد، والأهم من ذلك أنه بدأ في النمسا بعد أن نظم الموسيقار النمساوي يوهان شتراوس الابن مقطوعته الدانوب الأزرق، وهو الإيقاع نفسه الذي استُخدم في أغنيته ( أنا واللي بحبه).
وعلى مستوى الكلمات لأحمد رامي فتقول:
متع شبابك بڤيينا دي فيينا روضة م الجنّة
نغم فى الجوّ له رنّه سمعها الطير بكا و غنّا.
فبتواشج فني ودلالي بين الإيقاع والكلمات وبخروج عن النظم الغزلي المألوف خرجت لنا الكلمات لتتغزل بالعاصمة النمساوية فيينا بإيقاع نمساوي الأصل وهو الفالس، وبتضافر يتعانق فيه الماضي والحاضر كونها المدينة التي عاش بها عدد من مشاهير الفن والموسيقى لودفيج فان بيتهوفن، ويوهانس برامز، وجوزيف هايدن، وفولفغانغ أماديوس موتسارت، وفرانز بيتر شوبرت، ويوهان شتراوس؛ ولذلك لم يكن غريبًا أبدًا أن تقول:
نغم في الجو له رنة..سمعها الطير بكا وغنا.
وبإشارة مدثرة بالإيحاء أنها منبع الجمال والموسيقى والإلهام فأرضها لم تكن فقط ذات طبيعة جغرافية ساحرة بل أن الاسم نفسه( فيينا ) يحمل في دلالته اللغوية بعدًا آخر يتسق مع كلمات الأغنية فاسمها اللاتيني القديم (فيندوبونا) ومعناه الهواء الجميل أو النسيم العليل..
نسيمها من هوا الجنة..
هذه الأغنية كانت سببًا مباشرًا في منح صوت أسمهان ميزوسوبرنوا الخلود فالجميع ما زالوا يصدحون بكلماتها كبارًا أو شبابًا سواءً في مسابقات غنائية ليبرزوا مدى موهبتهم وليستعرضوا طبقاتهم الصوتية والأوبرالية، أو الشباب العادي على تطبيق تيك توك أو الانستجرام أو منصة x، ولا يمكن أن نغض الطرف أن هذه الأغنية التي قدمتها أسمهان برعاية شقيقها فريد الأطرش وبكلمات أحمد رامي كانت سببًا كافيًّا لتجعل من فيينا قبلة للسائحين العرب بعد ذلك .
عبقرية أسمهان في الاختيار
لأسمهان ذكاء فريد في انتقاء أعمالها سواء على مستوى الشعراء أو الملحنين ورغم أن عدد الملحنين الذين تعاونت معهم لم يتجاوز الست إلا أن الألحان اتسمت بالتنوع في موضوعاتها وكلماتها فنجدها تغنت بكلمات الشاعر الأندلسي ابن زيدون (أقرطبة الغراء) وبألحان رياض السنباطي ، و(هل تيم البان) لأمير الشعراء أحمد شوقي وبألحان محمد القصبجي، و(غير مجد في علتي واعتقادي) لرهين المحبسين أبي العلاء المعري وبألحان زكريا أحمد، فقد تنقلت بسلاسة ما بين القديم والحداثي والتجريبي المعاصر.
تحفة يا طيور
لعل أعظم أعمال أسمهان من حيث المعاصرة والتجريب أغنية (يا طيور) من تأليف يوسف بدروس وألحان محمد القصبجي، وفيها تفوق القصبجي على نفسه بالمزج بين المقامات الموسيقية العربية والتوزيع الهارموني البديع والتوافق بين النغمات المتتابعة والنغمات المتوازنة، فضلًا عن حركة الطيور عبر الموسيقى فلعبت الموسيقى دورًا أساسيًا في العمل، والمستمع لهذه الأغنية التي صدرت عام1944 ضمن أغاني فيلم( غرام وانتقام) سيجد أن أفلام الرسوم المتحركة التابعة لديزني متأثرة بها لحد كبير كسنو وايت والأميرة والأقزام.
النصيب الأكبر
تعاونت اسمهان في مشوارها الفني القصير زمنيًّا والدسم غنائيًّا مع خمس ملحنين وهم: محمد عبد الوهاب ، فريد الأطرش ، محمد القصبجي، رياض السنباطي ، وزكريا أحمد، إضافة إلى داود حسني مكتشفها ، وإن كان لفريد الأطرش ومن بعده القصبجي النصيب الأكبر في الألحان فإن لأحمد رامي النصيب الأكبر أيضًا في الكلمات، ولا يرجع تحفظها هذا لقصر العمر الفني ولكن ربما يعزى كون وضعها الأسري جعلها شخصية محافظة لا تميل لتجديد أو التغيير مع الأشخاص، حيث وجدت بينهم بمدارسهم ما يتسق وطبقة صوتها البلاغية وميولها.
ويعد فيلم (غرام وانتقام) تميمة حظها وخلودها ليس فقط لأنها مثلت فيه وهي حية وظهرت وهي ميتة، ولكن لأن أعمالها الغنائية التي حفرت في أذهان الجمهور ووجدانهم كانت في الفيلم ففي أغنية ” امتى هتعرف” من كلمات مأمون الشناوي و ألحان القصبجي بالاعتماد على مقام النهاوند بطابعه الموسيقي الشجي الذي ينقلها بين شعورين متناقضين دون نفور فتقول:
وخفت أقول لك على حالي واشرح لك حبي
ليكون فؤادك مش خالي وتعذّب قلبي
وبمزج بين إيقاع التانجو وإيقاع الفوكس :
إمتى حتعرف إمتى إنّي بحبّك إنت..
أميرة في ثوب فلاحة!
أكثر ما يثير الدهشة بالنسبة لاسمهان يكمن في معاصرتها هي وشقيقها فريد الأطرش لعصر يموج بالإقطاع وهم أمراء أبناء أمراء، ومع ذلك كلاهما غنى للفلاحين عن حب وتقدير لما يقومون به من دور، فقد غنت أسمهان( محلاها عيشة الفلاح) من كلمات بيرم التونسي وألحان محمد عبد الوهاب، بأداء صوتي في فيلم يوم سعيد1939، بجرأة تحسب لهم، وباستهجان واضح للإقطاعيين الذين يستنفذون خيرات الريف ليفروا بها إلى المدن ، فتقول:
يا ريف أعيانك جهلوك وعزالهم شالوه وهجروك..
لمداين مزروعة شوك ياما بكرا يقولو يا ندماه
وفي الأغنية نفسها تتوجه للفلاح لتمتدحه ولتذكره بنعم ربما لا يشعر بقيمتها، فتقول :
محلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه مرتاح
يتمرغ على أرض براح والخيمة الزرقة ستراه
ياهى يه ياهى ياه ياهى ياه
لا يطلب شرط ومشروط غير لبده وجره و زعبوط
واللقمة ياكلها ومبسوط اكمنه واكلها بشقاه.
وحتى بعد ثورة يوليو وبعد القضاء على الإقطاع بموجب قانون الإصلاح الزراعي ، جاء شقيقها فريد ليكمل ما بدأته أخته بأغنية ( الفلاحة) من فيلم أنت حبيبي بكلمات محمد فهمي وبألحانه ليتغنى بواحدة من أروع ما قدم لحنًا وأداءً فيقول:
يا مقبل يوم وليلة تطوي السكة الطويلة
وديني بلد الــمـحبوب
وديني للزينة الفلاحة مشتاق وقاتلني الشوق
والعشق يا بوي مش بالراحة لالعاشق ولا معشوق
من يوم ما رأيت الفلاحة تـخطر فى الغيط الفلاحـة
قلت أنا حبيت الفلاحة وسافرت وجيت للفلاحة..
وبعد الغزل الهادئ ينتقل ليذكرنا بدورها فيقول:
اللي بـجهادها الفلاحة هيا واولادها الفلاحة
تفدي بلادها الفلاحة وتوهب فؤادها الفلاحة
لأوطانها شـمال وجنــوب.
صوت خالد
وإن كان فريد مغنيًّا وملحنًّا ومؤلفًا موسيقيًّا عبر بألحانه عن الهوية العربية والشرقية، فإن أسمهان شقيقته لا تقل موهبة عنه فهي ممثلة ومنتجة ومؤلفة موسيقى تصويرة، وصاحبة صوت بلاغي هزم الموت وكتب لها الخلود بمزجه بين الغربي والشرقي بتفرد سبقت به عصرها، وخير مثال على ذلك أغنيتهما معًا وهي النسخة العربية من الأصل الكوبي:
يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرى لي
من بعدك
سهرانة من وجدي بناجي خيالك
مين قدك
وأنا كاتمة غرامي، وغرامي هالكني
ولا عندي لا أب ولا أم ولا عم أشكي له
نار حبك
★سكرتيرة التحرير.