رأي

علاء الجابر: متى نرى “فيروز” على العملة اللبنانية؟!

علاء الجابر ★

لو كنت أملك القرار في مصرف لبنان؛ لأمرتُ وأنا في غاية الفخر؛ بوضع صورة سفيرتنا إلى النجوم ” فيروز” على إحدى العملات الورقية اللبنانية، لقيمتها الفنية العالية، ليس في لبنان أو الوطن العربي فحسب، بل – ودون مبالغة – في العالم كله، فلا يوجد مطرب على قيد الحياة بشهرة، وعمر، وإنجاز، ومكانة “فيروز”، أفلا تستحق أن نكرمها بما يليق بمنجزها، ونفتخر بها  أمام العالم كله؟!

 فكما نعتز بالحجر، ونضع بعض المعالم الحجرية القديمة على بعض عملاتنا، لماذا لا نعتز بالبشر؟! خاصة المبدعين منهم، ويكون لهم مكانتهم على عملاتنا النقدية؟! كنوع مميز من أنواع التكريم ، مثلما تعمل وزارة الثقافة في مصر في مبادرة ( عاش هنا ) التي تضع فيها لافتة عاش هنا على كل منزل سكنه فنان، أو مثقف مشهور.

فيروز أيقونة الغناء العربي.

العملة التونسية لـ .. ممثلة مسرحية، طبيبة، شاعر، وشهيد.

ما نقترحه ليس بدعة، فقد فعلتها عدة بلدان عربية، حين وضعت بعض من علمائها القدماء  على بعض فئات الأوراق النقدية الخاصة بها (مثل: ابن خلدون، ابن رشيق القيرواني، الحسن بن الهيثم)، بل إن تونس قفزت خطوة حضارية كبيرة في هذا المضمار، حين أصدر الرئيس التونسي الأسبق “الحبيب بورقيبة” أمراً بوضع صورة الممثلة المسرحية التونسية “أنيسة لطفي” – أطال الله بعمرها – على فئة الدينار التونسي، وفي السنوات الأخيرة، وضع  البنك المركزي التونسي كل من صورة السياسي التونسي “الهادي نويرة” على فئة  50 ديناراً، والمناضل “فرحات حشاد” على فئة 20 ديناراً، ومن ثّمَّ فئة 30 دينار الجديدة الشاعر “أبو القاسم الشابي”، وقبل عامين تم وضع صورة أول طبيبة تونسية “توحيدة بن الشيخ” على فئة 10 دنانير، وصورة المهندس الزراعي “صلاح الدين العمامي” على فئة 5 دنانير.

الفنانة المسرحية أنيسة لطفي على الدينار التونسي.


السويد تزين عملتها بـ: ممثلة، مخرج، مطربة، ملحن، وكاتبة أطفال.

هذا ما فعلته السويد من قبل أيضاً تكريمًا وفخرًا منها بمشاهيرها المميزين ، حين وضعت بعض مشاهير القرن العشرين في السويد على بعض فئات عملاتها، فجاء الاقتصادي السويدي وأمين عام الأمم المتحدة الأسبق “راغ همرشولد” على أعلى فئة لديها وهي فئة 1000 كرونة، وأما العملة الورقية من فئة 500 كرونة؛ فزينت بصورة لمطربة الأوبرا السويدية “بيرجين نيلسون”، وازدهت العملة الورقية  من فئة 200 كرونة بصورة المخرج السينمائي الشهير “أنجمار بريجمان”، وعلى فئة 100 كرونة؛ تم وضع صورة الممثلة السويدية الأمريكية “غريتا غاربو”، وعلى فئة 50 كرونة، جاء الكاتب والملحن “إيفرن توبي”، في حين وضعت كاتبة الأطفال “استريد ليندجرين” على فئة 20 كرونة.

عملات السويد تفخر بمشاهيرها.

من جانب آخر تحمل الورقة النقدية الإنجليزية فئة 10 جنيهات استرليني صورة  المؤلفة الروائية الإنجليزية “جين أوستن”، أما فئة 50 جنيها في أسكتلندا؛ فتحمل صورة الشاعر الأسكتلندي “والتر سكون”.

لماذا  فيروز بالذات؟!

هكذا تعلمنا حب “فيروز”، منذ البذرة الأولى.. وفي كل صباح، كانت تسقينا عسل النسيم، تطوف بنا المروج، والغابات، تسمعنا صوت الشلالات، وتحلق بنا مع العصافير.
“فيروز” من أشعلت في قلوبنا حكايات الحب البريئة، ودَلَّتنا على أعشاش طيور الوروار، وأخذتنا حيث تعثرت خطوات شادي، وأرجعتنا أطفالاً تأسرنا الطيارات الورقية.

عشنا أجيالًا متعددة، اِختلفت ذائقتنا.. وذابت أغانينا ما بين ما عشقه الأجداد، وبعد عنه الآباء، وامتعض منه الأبناء، وغيبه الأحفاد، إلا أغاني “فيروز”، اِتفق عليها الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد.. وسيظل الكل متفقًا عليها مادامت الساعات تدور معلنة صباحات جديدة، ترسم ألوانها بنغمات صوتها العذب.

صورة فيروز على العملة اللبنانية فئة ١٠٠٠ ليرة كما تخيلها الفنان اللبناني إبراهيم سلطاني.

هناك مطرب لا يطيب لنا الاستماع إليه إلا ليلاً، وآخر حين تتعكر أمزجتنا، وأخرى حين نكون سعداءَ، أوعشاقًا..إلا “فيروز” التي فرضت علينا – بالحب وحده – أن نستمع إليها في في كل وقت وزمان، وكل الحالات والأمزجة.

من مسرحياته الغنائية.

أعطني فنانًا غنى أكثر من 1500 أغنية، وبيعت من ألبوماته أكثر من 150 مليون نسخة حول العالم! كما فعلت “فيروز” التي تغنت بالأمة العربية، وحيت أقطارها، ومدنها من الكويت إلى  بغداد إلى دمشق إلى حلب ، إلى الاسكندرية إلى مكة والإمارات والأردن وتونس والمغرب والجزائر وليبيا ….(يا بني أمي، الكويت، بغداد والشعراء، أحب دمشق، عالروزانا ، أنشودة سورية، مصر عادت، شط اسكندرية، قصيدة الإمارات، أردن، عمان في القلب، تونس يا وردة البلدان ، إلى شواطئ المغرب ، رسالة إلى جميلة “بو حيرد ” ليبيا .

كما وثقت لكل مراحل لبنان الذي تمسكت بترابه بكل تقلباته، رغم كثرة المهاجرين! فغنت (بحبك يا لبنان، سنرجع يومًا إلى حينا، عين الرمانة، لبنان يا أخضر حلو، بعلبك، سلال الزراعين، من تحت هالأرزة، تبقى بلدنا، بلادنا مواطن الهناء ، وطن اللوز ، يا وطني ).

فيروز” وفلسطين التي لا تموت!

غنت “فيروز” لفلسطين، كما لم يغنّ أحدٌ من قبل (راجعون، زهرة المدائن، مريت بالشوارع، سيف فليشهر، بيسان، يافا، أحترف الحزن والانتظار، جسر العودة، تل الزعتر، سافرت القضية ، الأرض لكم).

فلسطين تهدي فيروز مفتاح مدينة القدس.

كما أنشدت لكل الأديان، ومجدت أعياد الميلاد (ليلة عيد، غنيت مكة، تلج تلج، كنا نزين شجرة صغيرة، الله كبير، قامت مريم، المسيح، طرق أورشليم، عيد الليل، تذكر يا حبيبي، we wish you merry Christmas، رسل الله، سبحان الكلمة).

هكذا خلدت الأندلس وعظمتها في أندلسياتاها (أرجعي يا ألف ليلة، بلغه يا قمر، يا من حوى، قد أتاك يعتذر، لو تعلمين، يا شادي الألحان، يا خليلي، يا وحيد الغيد، حجبوها، يا غصن نقا، يا عاقد الحاجبين).

“فيروز” التي طبطبت على الأم والأب، والابن والابنة، والأخ والأخت، والطفل، والختيار في أغانيها (أمي يا ملاكي، أمي الحبيبة، دخيلك يا أمي، يا أمي ما بعرف، يابا لا لا،  يا حلو شو بخاف، يلا تنام ريما، أنا وشادي، أذكريني، بكوخنا يا ابني)، ولا ننسى حين رسمت لون الليل، ونور الصباح، وعددت الأيام والشهور والسنين، والمواسم والفصول، في أغانيها(سكن الليل، سهر الليالي، يوم ويومين وجمعة، بتشوف بكرة بتشوف، حكايات الربيع، ليالي نيسان، زوروني كل سنة مرة، سنة عن سنة، يا مية مسا، شتي يا دنيا، نسهر ونسمر، زيارة الصباح، قمر السهرات، بليل وشتي، عتم الليل، من عز النوم، صيف يا صيف، سهار)، وخلدت الطبيعة في كل تفاصيلها الكبيرة، والصغيرة، فغنت  للقمر، والشمس، وللضيعة، والشجر، والنسيم،  والورد، واللوز، والرمل ، والطيور، والعصافير، والجسور، والينابيع، والروابي، والجبال، والمروج، والبحار، والأنهار (نسم علينا الهوى، شايف البحر، ياحجل صنين ، يا جبل يا بعيد، بقطف لك بس، عصفورتي، عودة إلى الصنوبر ، نبع الصفصاف ، ضيعة الأغاني ، يا زنبق ، درج الورد ، يا كرومًا لنا ، طلعت يا محلا نورها ، يا كرم العلالي ، فوق هاتيك الربى ، ع بالي يا قمر ، قمرة يا قمرة، حبيبي بدو القمر ، ضحك اللوز)، بل غنت حتى للجماد، مثل الغرف، والشال، والمنديل، والعريشة، والأكواخ، والسفن، والمزهرية، والدور، والبيوت، والأبواب، والدروب، حتى الطائرات الورقية ( الأوضة المنسية ، في كوخ، شال، ردي منديلك ، شالك رفرف، طيري يا طيارة، تحت العريشة، مضوية، دارة الحبيب، بيتي صغير، لوح منديلك، لما عالباب، إسوارة العروس، ع دروب الهوى، عنبية).

علموني..أحد ألبومات فيروز.

“فيروز” التي احتضننا صوتها في الغربة، والشتات، والتمزق، والفراق (تعا ولا تجي، بعدو الحبايب، يا حرية، هيلا يا واسع، إيه في أمل، غرباء، لوين رايحين، راحوا، راح نرجع نتلاقى، ببالي، كفى يا قلب تشرد ، من يوم تغربنا).

“فيروز” التي جمعتنا على الحب الملائكي، والحب العذري البريء، والشوق واللهفة (سألتك حبيبي، أنا لحبيبي، علموني، كيفك انت، وحدن، بكتب اسمك، لوكان قلبي  معي ، كتبنا وما كتبنا ، يا مرسال المراسيل، غيبي ولا تغيبي ، فايق علي، حبيتك والشوق انقال ، بحبك ما بعرف، على درب الحب، حكايات كتير، ماتزعل مني، بغير دني، أنا وياك، يمكن، أسامينا، أهواك بلا أمل ، بناديلك يا حبيبي ، جفنه علم الغزل ، سوف أحيا، خايف أقول اللي، فايق ولا ناسي ، وقف يا أسمر)، حتى الأسماء غنت لها ( يا سميرة ، سلمى ، ريما ، يارا ، يولا ، لينا ، شادي… إلخ )

أفلا تستحق هذا التكريم ؟!

تلك هي “فيروز” التي غنت القصائد، والأناشيد، والمواويل، والميجانا، والدبكة، والأغاني القصيرة، والطويلة، والأجنبية، وقدمت بصمتها المتفردة للمسرح الغنائي العربي مع الرحابنة بما لم يقدمه أي مطرب عربي من قبل، ومن بعد، ومن أشهرها ( ميس الريم ، المحطة ، بترا، هالة والملك ، بياع الخواتم  ، الليل والقنديل ، جسر القمر ) ولم تكتف بالغناء؛ بل مثلت للسينما (بياع الخواتم، سفر برلك، بنت الحارس ) .

“فيروز” التي بها ولها وحولها تلألأت أنوار العباقرة؛ الذين لن يكررهم التاريخ ( منصور الرحباني ، عاصي الرحباني ، إلياس الرحباني ، زياد الرحباني،ريما الرحباني، هدى حداد )، إلا أنها ورغم ذلك تركت بصمتها مع عشرات الكُتَّاب، والملحنين اللبنانين، والعرب، ولن نستطيع وضع أمثلة لكثرتهم.

فيروز والرحبانة.

 بعد كل هذا التاريخ، ألا تستحق “فيروز” مثل هذا التكريم، فما عساها أن تعطي بعد كل هذا؛ لتنال شرف وجود صورتها البهية على عملة بلدها، مكرمة، وهي على قيد الحياة؛ لتشق الطريق؛ لنحلم بأن نرى في الغد عملات وطننا العربي، تزدان بصور عباقرة القرن العشرين  في الأدب والفن والعلم، مثل (أم كلثوم، أحمد زويل، طلعت حرب، يوسف شاهين، ناظم الغزالي، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، فدوى طوقان، محمود درويش، عوض الدوخي، ، صالح العجيري ، عبد الله البردوني، الطيب صالح، نزار قباني، سعد الله ونوس) وعشرات آخرين.


★رئيس التحرير.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى