يوسف فؤاد: لماذا لا ينتصر الجمال بصخب البروباغندا؟


يوسف فؤاد★
عادة ما ترتبط البروباغندا بالدعاية للمصالح بوجه عام، سواء كانت سياسية أو شخصية أو حتى تجارية. وعليه، تنصب كل المصلحة لشخص واحد أو حكومة أو أية مؤسسة ما، وهي الحالة التي تستلزم بالضرورة جماهير عريضة من المؤيدين. ويبدو الأمر كثنائية ثابتة بين جماهير مُستَفادٍ منها (مفيدة) وقِلَّة قليلة مُستَفيدة (مستفيدة). وهو ما يستدعي سؤالاً: لماذا ترتبط البروباغندا دائماً بالدعاية للقبح أو الوهم؟ إذ ينجح فيها دائماً رجال السياسة والجماعات المتطرفة والشركات المستغِلَّة، ولا يجيدها رجال الفن والفكر إلا نادراً أو بشكل شبه منعدم. لعل هناك زوايا مختلفة للإجابة عن هذا السؤال، أو بعبارة أخرى: لتأمُّلِه، لأنه في أحيانٍ كثيرة – وللمفارقة – تُستخدَمُ نفس الأدوات لصنع عمل جمالي أو عمل دعائي. ولكن بفارق جوهري؛ فالأول يستخدم أدواته كحقٍّ أصيلٍ، بينما الآخر يبدو كمُتَلَصِّصٍ ودخيل على تلك الأدوات.
البحث عن خلاص كأولى شروط البروباغندا
في عشرينيات القرن الماضي، بدأت الدعاية الممنهجة لحزب العمال الألماني الذي سيسميه هتلر لاحقاً الحزب النازي. وكأي فكرة تحمل في جوهرها تعصباً وكراهية للآخر، لم تكن لتظهر إلا في سياق يسمح لها بذلك، وهو الوضع المُزري لألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. ولعل هذا هو أول سبب لنجاح صانع أي بروباغندا في سياق الحرب: وجود جماهير مهزومة تنتظرُ مُخلِّصَها.
وكديكتاتور أصيل، كان هتلر شديد الذكاء، وبالتالي لم يكن اختياره ليده اليمنى وصانع دعايته الأبرز “جوزيف جوبلز” اختياراً مجانياً أبداً؛ فالأخير يبدو لمن لا يعرفه شخصاً أخرقَ لا يجيد سوى الدعاية، ويمتلك عقلاً فارغاً يسهل ملؤه. ولكنه كان في الواقع يمتلك دكتوراه في الأدب الألماني، وصحفياً ومؤلفاً طموحاً! فكيف لشخص كهذا أن يندرجَ لدعاية حمقاء كهذه؟ هذا ما يشكل علامة استفهام كبرى لها ما يفسرها، ولكنه أمر لا ينتمي لموضوع المقال هنا. على أي حال، امتلك جوبلز موهبة استثنائية في الخطابة وتجييش الشعب لإقناعه بتفوقه العِرقي وانتصاره المحتوم. وباستخدام الراديو، الوسيلة السحرية في ذلك الوقت، استطاعت الدعاية النازية أن تخترقَ بيوت الشعب بأكمله. ولكن جوبلز كان على وعي كافٍ بأنَّ استمرار الدعاية طوال اليوم ربما يسبب مللاً يَصرِفُ المستمعين عن الراديو، فكان أول حل هو اللجوء إلى الفن، بداية من دمج برامج إذاعة الموسيقى قبل وبعد بث الخطابات، ضماناً لمزيج المتعة والإنصات للأفكار النازية. وما إن يحدث هذا بشكل متكرر على مدار سنوات، يكونُ ضماناً بزرع الأفكار بنجاح بفعل التكرار العنيد لها.
لم يكن لطموح جوبلز أن يتوقف عند الراديو، فبدأ باستخدام السينما التي تمثل سحراً يفوق الراديو بكثير، بل وعَيَّنَ نفسه رئيساً للسينما الألمانية، وبدأ بدراسة الأساليب الشيوعية في الدعاية مُستلهِماً إياها لتقديمها للأطفال الذين يتلقون تدريباً عنيفاً في مدارس خُصِّصَت لهم. وبحلول عام 34، تم صناعة فيلم وثائقي طويل بعنوان “انتصار الإرادة” من تأليف وإنتاج وإخراج الممثلة الألمانية المقربة شخصياً لهتلر “ليني ريفنستال”. والفيلم يُعَدُّ طفرة في صناعة الوثائقيات لضخامةِ إنتاجِه، وهو تمجيد لهتلر ولحزبه ولأفكاره، ويحتوي على كثير من خطابات هتلر للشعب في الساحة العملاقة التي بُنِيَت خصيصاً لذلك. ومن هنا، تمت السيطرة بشكل كامل على صناعة السينما الألمانية بفضل جوبلز. ومع مرور الوقت، لم تُصبح الجماهير مجرد مُتَلَقِّيَةٍ، بل تبنت بالفعل المشروع النازي، خاصة صغار السن. وزاد إقبال الجماهير لدور السينما بنسبة 400% في وقت قياسي. وعليه، لم يكن من الغريب أن يتطوعَ خمسة ملايين جندي مع نشوب الحرب العالمية الثانية بعزيمة مَن له الحق في الاستيلاء على الغير وحتمية انتصاره، وكل ذلك بفضل البروباغندا المدروسة التي تمت اعتماداً على تعطش تلك الجماهير لنصر في الأفق لخلاصٍ طالما انتظروهُ ممّن يقودُه.
وحتى مع اقتراب الهزيمة في عام 1944، قام جوبلز بآخر محاولة لترميم عزيمة الألمان، فكان فيلم “كولبرغ” من كتابة وإخراج “فيت هارلان”، مُستلهِماً هذه المرة من التاريخ بقصة تدور حول حصار جيش نابليون لمدينة كولبرغ ونجاح مقاومة الجرمان في النهاية بعد أن تخلى الفرنسيون عن الحصار. وبالطبع، غرض الفيلم الأول هو إلهام الشعب في ذلك الوقت بالاستمرار في المقاومة ضد الحلفاء رغم كل الصعاب. وكان الفيلم ضخماً بسبب أعداد الجنود الحقيقية التي اشتركت كمجاميع بدلاً من الاستمرار في المعركة الحقيقية، وهو الأمر الذي يوضح حجم الاهتمام بالدعاية إلى الحد الذي يجعل الجنود يتركوا الحرب الحقيقية لكي ينتصروا بأخرى على شاشة السينما.
دولة اليهود كخلاص للمشروع الصهيوني
ومن جحيم النازية إلى جحيم الصهيونية، يختلف السياق وتختلف الأطراف، ويتبقى الإجرامُ مع بناء سردية له تُشَرعِنُهُ ومن ثم بروباغندا حوله لكي تعززه. ولكن ما يختلف بين جرائم النازية وجرائم نظيرتها الصهيونية هو أن الأولى احتاجت لدعاية ضخمة باستخدام الوسائل الفنية قبل أن تُنَفَّذَ على أرض الواقع، بينما الثانية بدأت بقوة النار والإرهاب ثم أخذت تبحث لها عن طريقة لكي تستخدم الفن للترويج إلى أجندتها، وهو أمر طبيعي نظراً لأن ألمانيا كانت دولة بالفعل، بينما احتاجت عصابات الصهيونية أن تُنشِئَ دولتها أولاً وتبدأ من الصفر. “فدافيد بن غوريون” مؤسس إسرائيل وأول رئيس وزراء بها لم يكن على دراية بأهمية صناعة السينما على سبيل المثال لخدمة أغراضه، على عكس جوزيف جوبلز. فهو لاحظ ذلك في عام 1960 عندما قامت هوليوود بصناعة فيلم “إكسودوس” للمخرج الأمريكي أوتو بريمنجير، حيث جلب الفيلم تعاطفاً كبيراً لإسرائيل وتبرعات أيضاً! وكان هذا يكفي لإقناعِ بن غوريون بأهمية القوى الناعمة في مشروعه، مع ملاحظة ميزة أن تكونَ الأفلام باللغة العبرية لكي توحد جميع الزاحفين من ثقافات وبلدان ولغات مختلفة، وبذلك سيضمن أن ينصهرَ الجميع تحت لواء وطنهم الجديد بضربة واحدة. وكان من أبرز مخرجي تلك الفترة: مناحيم جولان وإفرايم كيشون وأوري زوهر.
ففي عام 1966، تم تصوير فيلم “في ظل العمالقة” سيناريو وإخراج الأمريكي ملفيل شافيلسون، وهو إنتاج مشترك بين إسرائيل وأمريكا، وهو يقدم إسرائيل كبلد مسالمة بريئة تقع ضحية وجودها وسط بلدان عربية مستعدة في أي وقت للفتك بها! ولم يكن التعاون الإنتاجي الوحيد، فبسبب السيطرة الصهيونية على صناعة السينما في هوليوود، زادت الأفلام المشتركة بينهما حتى وصلت لذروتها بعد انتصارهم في حرب 67، وبدأت نبرة السخرية من العرب بسبب هزيمتهم وتخلفهم تزداد، فضلاً عن زيادة التبرعات على شرف المجهود الحربي، واستغلال الممثلين اليهود كوجوه بارزة ومؤيدة لإسرائيل، أبرزهم الممثل الشهير “كيرك دوغلاس” يهودي الأصل وصهيوني الهوى. وتنوعت الأفلام المنتجة بين الروائية والوثائقية، فضلاً عن الاستغلال الأيديولوجي للهولوكوست الجالب للتعاطف في أسرع وقت ممكن.
لم تكن هذه البروباغندا موجَّهةً سوى للمشاهد الغربي البعيد عن الحدث، وكانت النتيجة كما أرادوا بل أكثر، وهو تعاطف كبير لليهودي المُشَتَّت الباحث عن وطن مسالم بعد مذبحة النازية، وصورة نمطية للعربي الشرير المتخلف فكرياً وحضارياً. ومن هنا، ظلت السينما الإسرائيلية في تلك الفترة المبكرة محصورة في نطاق الأفلام الأيديولوجية المروجة لسردية الاحتلال، قبل أن تمرَّ السنوات ويظهر جيل من المتمردين يقدموا رؤية مختلفة، ويجلسوا على يسار السلطة، كنتيجة طبيعية للضجر من فترة الدعاية، وظهور عقول متمردة بالضرورة في أي مجتمع أخذ في التشكل والتنوع والتعقيد، خاصة مع زيادة الحروب وظهور الوجه الإسرائيلي القبيح لسكانها قبل غيرهم.
الدعاية السياسية كوجه أقل عنفاً من الحروب
في مصر وأثناء فترة تحول كبيرة من الملكية إلى الجمهورية عام 52، لم تكن لتنجح الثورة الجديدة بالنوايا الحسنة فقط (إن كانت موجودة) أو بالطموح السياسي الكبير لأبطالها فحسب. فبالرغم من الظروف التي كانت في صالح الضباط الأحرار بتقبل الجماهير المصرية لتغيير كهذا بسبب الوضع السيئ الذي كانت تعيشه البلاد وغضب الشعب من الملك فاروق، فضلاً عن استسلام الأخير بالتنازل عن العرش دون قتال، بالرغم من كل هذا لم تنعدم التحديات أمام حركة الضباط بقيادة جمال عبد الناصر. فإن كان صوت الرصاص قد خفُت، فلا بُدَّ أن يعوِّضه في المقابل ضخب الدعاية.
فالشعب يريد حكماً ديمقراطياً يعوِّضه سنوات من وراثة الحكم، ويريد سلطة صادقة ونزيهة لا تتواطأ مع الاحتلال، ولا يُكشف عنها فضيحة كفضيحة الأسلحة الفاسدة (بصرف النظر عن كذبِتِها التي ستتكشف لاحقاً). لذلك، قدم لهم عبد الناصر ما أرادوا أن “يشعروا” به في هذا التوقيت، وإليكم ما قاله في إحدى خطبه للشعب
“هذه الثورة قامت من أجلكم وتعمل لكم .. ما قامتْش من أجل الديكتاتورية ولا من أجل الحكم العسكري ولا من أجل حكم الجيش، وليس الحكم العسكري إلا وسيلة لغاية. هذه الغاية هي الديمقراطية الكاملة، وليس ديمقراطية الأحزاب.”
ثم يبدأ دور الفن، فما إن يحل عام 1955 حتى يتم إنتاج فيلم “الله معنا” من إخراج أحمد بدرخان وتأليف الأديب إحسان عبد القدوس (وهو نفس الصحفي الذي فجَّر قضية الأسلحة الفاسدة المزعومة)، إلا أنَّ عبد الناصر قرر منع الفيلم بسبب حجم الدور الذي يلعبه محمد نجيب بداخله، ويبدو أنه كان على وعي كافٍ بتأثير الفن على الجماهير، ولم يوافق على عرض الفيلم إلا بعد حذف مشاهد “زكي طليمات” الذي جسَّد دور محمد نجيب، بل وحضر العرض الأول له. وأخذت الأفلام المروجة لثورة 52 تزداد تحت رعاية السلطة وبدعم منها. ولم تكن الأفلام تروج للنظام الجديد فقط، بقدر ما تحاول تقديم مساوئ النظام الملكي البائد. فكل شر كان منه، وكل شهيد مات بالخطأ في حرب فلسطين كان بسبب الأسلحة الفاسدة، وتوغل الأجانب في البلاد نتيجة الاحتلال، ولا أقرب للاحتلال سوى الملك الراحل شخصياً. “ما قامتْش من أجل الديكتاتورية” لم يترك لنا الواقع إزاء كلمات عبد الناصر إلا شيء واحد فقط: السخرية منها.
خفة الجمال وصخب البروباغندا
خلال بحثهم عن القيمة الحقيقية للفن، اطمأن كثير من المفكرين في فلسفة الفنون أن المعرفة الجمالية والوعي الجيد عوامل تجعل من الفن شيئاً ذا قيمة كبيرة، وهو ما يتطلب بالضرورة طريقة تلقٍّ تتجاوز السطحية والتفسيرات المُعلَّبة، لتصل للتفكير مَلِيَّاً في العمل الفني بوصفه بنية تساهم في تعزيز رؤيتنا للعالم وللتجربة الإنسانية، وليس مجرد نشاط ترفيهي مُسلٍّ. وفي المقابل، أخطر ما في الفنون الرديئة أنها تخلق وعياً زائفاً لدى مُتلقِّيها، وهو الأمر الذي يعتبر بدون مبالغة منبع الشر.
لذلك، تعتمد الأعمال الفنية على طبيعة جمهور يختلف عن ذاك الذي يبحث عن مُخلِّص أو مُنهَزِمٍ في انتظار نصر قريب، وهو ما يجعل من المستحيل صناعة عمل فني عظيم يعتمد على البروباغندا؛ ذلك لأنها ستوجَّه لجمهور مختلف تماماً، وهو ما يفسر تجاهل كل الأعمال الفنية العظيمة التي كانت تحذر أو تسخر وتنتقد من كل الشرور التي ببصيرتها تستشعر قدومها. تم تجاهلها لأنها عظيمة بذاتها.
ففي سنة 1940، كان شارلي شابلن يقوم بصناعة فيلمه الأيقوني “الدكتاتور العظيم”، مُستلهِماً شخصية هتلر بشكل كاريكاتيري لكي يسخر من رجال الحرب والتسلط في شخص هتلر، وهو الفيلم الأول الناطق لشابلن، كما لو أنه لم يعد يطيق الصمت والعالم ينهار من حوله. في الأخيرِ، ماذا كانت نتيجة فيلم شابلن؟ نجاح جماهيري غير مسبوق لم يكتمل بسبب وقف الفيلم، استمرارُ الحرب؛ لأنه ليس من الواقعي أن تتوقفَ بسبب فن حقيقي يدعو للسلام ويشرح التركيبة النفسية لأمثال هتلر، ولكنها من الممكن جداً أن تبدأَ بسبب فن صاخب دعائي يخاطب الغرائز لا العقل، ويتم بشكل مدروس ومنهجي على مدار سنين لكي يربي الأوهام.
ونتيجة لكل هذا، تكون خطورة البروباغندا مرهونة بقدر خطورة وتأثير ما تروج له، وبالتالي تأتي أهمية دراسة أساليبها، لا بطموح زوالها نهائياً، بل لتقليل قدرتها على التأثير. ولعل الأمر يتعلق بشكل جوهري بالسياق الاجتماعي الذي تظهر فيه الدعاية لأي شيء، فهو السبب الأساسي لنجاح الترويج لأي قبح أو وهم أو كذب. فالجماهيرُ المهزومة والمظلومة المتعطشة لأي انتصارٍ، والأعصاب المتوهجة الباحثة عن الهدوء ولو كان متوهماً، والغرائز الباحثة عن الانتقام من أي عدو، أقرب لأن تنحازَ للدعاية الصاخبة من أن تستكينَ لهدوء الجمال.
المرجع
جوردون جراهام / فلسفة الفن (مدخل إلى علم الجمال ) – الهيئة العامة لقصور الثقافة
★ ناقد ـ مصر.



