شيماء مصطفى: الزمن المفقود للكاتب “وانغ شياو بو “سيرةٌ ذاتيةٌ أم سيرةٌشعبيةٌ لفترةٍ شائكةٍ في تاريخ الصين؟
شيماء مصطفى★
الولوج إلى الأدب الصيني عبر روايات شائكة تتناول فترة زمنية فارقة في تاريخهم أمرٌ غير مألوف في منطقتنا العربية، فأغلبنا يميل للأدب الروسي والبعض مثلي ينجذب للأدب اللاتيني، أما الأدب الصيني فلا نعرف عنه غير القليل.
صدرت حديثًا رواية الزمن المفقود للكاتب الصيني “وانغ شياو بو” في نسختها العربية عن مؤسسة (بيت الحكمة) بترجمةٍ دقيقة للدكتور “أحمد السعيد”
وإذا أردنا الدقة لا يمكن أن نعتبرها صورة مصغرة من رواية الفرنسي “مارسيل بروست” المعنونة ب (البحث عن الزمن المفقود) ليس فقط كون رواية وانغ لا تتجاوز بالهوامش ال158 صفحة، ورواية مارسيل سباعية الأجزاء، ولكن أيضًا لطبيعة الطرح واختلاف العوالم، فوانغ لا يبحث عن الزمن المفقود قدر ما يحذرنا بطريقة غير مباشرة من الانخراط مع ما لا يتسق وذواتنا؛ لذلك كان صريحًا لأقصى الدرجات من الصراحة التي تكشف لك القبح والزيف غير مكترثٍ بما سيواجه طالما أنه ارتدى ثياب البوح، وكأنه يقول ماذا تفعل لتهرب من الزمن المفقود، فتجد نفسك كما غيرك لا تمسك تعريفًا صريحًا لهذا الزمن فهل الزمن المفقود هو الزمن الذي اتخذت فيه قرارًا جنونيًّا وصعلوكيًّا للغاية وأثر على مسار حياتك فلا تستطيع العودة للوراء للعدول عنه؟ أم هو الزمن الذي اتخذت فيه قرارًا جريئًا وحماسيًّا فتود الإمساك به لتصحيح مسارك؟ وسواء كان الزمن هذا أو ذاك فإن آلة الزمن لا مكان لها إلا في الخيال، ولكي تضمن البقاء في بؤرة آمنة ما عليك إلا العمل بالقول الشرطي الشائع «من ملك الحاضر ملك الماضي والمستقبل» والبيت الشعري التراثي للمتنبي:
إذا لم يكن ليس من الموت بدٌ فمن العار أن تموت جبانًا. ولهذا كان القرار في النهاية حاسمًا لوانغ آر ولفتلة، ولهذا أيضًا جاءت العتبة القرائية الأولى للعمل ممثلة في العنوان مراوغة ما بين الخبرية والوصفية.
« هذا هو زمنه المفقود، وليس زمني سنوات تتسرب مثل الماء، تشبه قمرًا في السماء ينير لكل شخص، ولكن حياة كل شخص لا تشبه الآخر»
الفجوة الزمنية بين النظرية والتطبيق.
رغم ادعاء يونغ آر بطل الزمن المفقود الهزيمة المتكررة، والفشل على المستوى الشخصي والبنيوي جعلته منبوذًا من فتلة الفتاة التي تمنى لو أقام علاقة كاملة معها إلا أنه بذاكرة فولاذية لا يتساقط منها حدثًا يتسلل لنا الكاتب وانغ شياو بو من خلاله ببعض التفاصيل عن ثورة الصين الثقافية والبروليتاريا، فكان بمثابة مرآة لتلك الحقبة من تاريخ الصين نبصر عبرها، ليس الماضي القريب وحسب بل المستقبل البعيد أيضًا، من خلال قراءة الحاضر ووفقًا لتفكيكة چاك دريدا.
صراع التمرد والتأقلم
لم تكن المفارقة والتلاعب في الأسماء ولا بين الثنائية النقدية الواقع والرمز ولكن تسللت إلينا من خلال التطور الأيدلوچي للشخصيات ففتلة التي تركت يونغ آر بطل الرواية في الماضي لأن عضوه الذكري أكبر من تكوينها الفسيولوچي، هو نفسه الذي تركته في المستقبل بزعم أنه أصغر من استيعابها مفضلة عليه زوجها في مفارقة غرائبية زوجها السيد لي والذي شكلت معه ثنائية أشبه بالجميلة والوحش مع استثنائية التحول للوحش، وكنوع من التمرد على المألوف من قبل فتلة والتظاهر بالقدرة على التجاوب قابله محاولات أفشل من خلال يونغ آر في علاقته مع تشوان يونغ فكانت ممارسته للعلاقة معها هروبًا لا حميمية.
الضامن الوحيد لبقاء أمة ما وفقًا للموروث الثقافي يختزل في القدرة على التناسل والتكاثر، والضامن الأكثر تداولًا لبقائها متفردة لا تتداعى ولا تندثر هو القدرة على إعمال العقل.
«كيف لشخص أن يرضى بدهس العضو الذي يجعله إنسانًا مفكرًا يدهس تحت أحذية الناس»
وسواء كان العضو تناسليًّا أو كان العضو عصبيًّا فلم ينج أي منهما من الضرر وما حدث مع السيد لي المنعوت بلفظ رغم استهجانه إلا أنه أصبح شائع ملازمه رغم مرور عشرات السنوات والسيد خه المنتحر بطريقة من غرائبيتها وقدرتها على حشد المزيد من المشاهدين محفورة في ذاكرة لينغ آر خير دليل على ذلك، أي أن الضامنين لنجاح الثورة الثقافية والبرولتاريا على حافة الهاوية، فبدا القبول بالضرورة رغبة في التحرر.
وقد تم تداول ذلك بشكل غير مألوف تمامًا كتناول الأوصاف المستهجنة على ألسنة العامة للأعضاء الذكورية في إشارات متتابعة لفكرة تحديد النسل، فجاءت في البداية رغبة أم يونغ آر بطل الرواية كرمزية للوطن في الضغط على ابنها لاستخدام الواقي كمحاولة لمنعه من الإنجاب خاصة أنها لم يتجاوز الثلاثة والعشرين، ثم العدول عن رغبتها هذه حين تجاوز الأربعين وفقد حتى الشغف بإقامة أي علاقة بفطرة أم تأمل لو تحمل بين يديها حفيدها.
حتى تداول الأوصاف للأعضاء الذكورية للسيد لي والسيد خه والبطل حملت في ثناياها تمردًا خفيًّا لشعب لم تتوافر له الظروف المواتية لإقامة علاقة فطرية فدهست فطرتهم بين تروس العمل بين معهد التعدين ومناجم الفحم، فلم تسعفهم معرفتهم بالرياضيات والفيزياء والعلوم التي أتقنوها وباتوا يلقنوها باعتبارهم أستاذة من قبضة الأقدار.
القارىء للرواية سيصعق بالتأكيد من أسلوب ليونغ شياو بو، وسيجد تدرج وتصاعد درامي يتطور بتطور شخصية الراوي يونغ آر فتشعر وكأنك تتبع مراهق وصول لتوه لمرحلة النضج بعد تقلبات مرحلة البلوغ فيصبح منشغلًا بذاته أكثر من شغفه بما علق بذاكرته من ذكريات الآخرين.
لم تكن رواية الزمن المفقود وحدها الرواية التي تناولت الثورة الثقافية في الصين فهناك روايات أخرى كرواية وانغ جانغ (إنجليش).
ولكن إذا أردت أن تخوض تجربة مغايرة مع الأدب الصيني عبر هذه الرواية في القراءة فنصيحتي أن تبدأ بقراءة الهوامش، تاركًا مقدمة المترجم لتقرأها بعد قراءة الرواية نفسها، خاصةً أن العمل في ثلثه الأخير أكثر نضجًا واكتمالًا من الضبابية المتواجدة في الثلث الأول.
ناقدة-مصر.