سارة عمرو★
(يعيش الفن المنحط) كان هذا شعار جماعة، مطبوع على بيان وقعه سبعة وثلاثون فرداً، ظهرت من أحضان المجتمع المصري، لكسر ما هو اعتيادي ومألوف…جماعة آمنت بحُرية الرأي، والتعبير الفني بشكل ثوري، على القالب الكلاسيكي، وكل ما هو تقليدي…جماعة كان لها أثر كبير في ترجمة الحركة الفنية الغربية للشرق الأوسط على نطاق أوسع، فمن هم؟ ولماذا يُدافعون عن الفن المنحط؟
عند قراءة أو سماع جملة الفن المنحط، أول شيء سيقفز إلى ذهنك في الوقت الحالي، هذا الفن الرائج، المتمثل في الضجيج، والصخب، والكلمات التي يختلف عليها الجميع، ما بين كلمات عادية مُعبرة، أو بذيئة تخل بقيم المجتمع المصري…. ويعتبر البعض هذا النوع فناً، والبعض الآخر يعتبرونه هُراءً…. بينما يتشتت ذهنك، ما بين عنوان المقالة، وتمجيده للفن المنحط…اِسمح لي بانتشالك من واقعك هذا، لأُفاجئك بماهية الفن المنحط!
في عام ١٩٣٧م قرر هتلر أن يجمع كل الأعمال الفنية في ألمانيا، التي تنتمي للتيارات المختلفة كالسريالية، والتكعيبية، والتعبيرية، والتجريدية، والتصوير الضوئي.. الخ، ليضعها في متحف هاوس دير كونست، تحت سقف معرض أسماه الفن المنحط!
كان هتلر يعارض كثيراً أي تيار فني، يختلف عن التيار الواقعي الكلاسيكي، فكان يرى أن هذا النوع من الفنون، يعارض قيم الأيدولوجية النازية، واعتبره تهديداً للثقافة الألمانية، فأمر بفرض قيود على الثقافة الألمانية، بحيث لا يزيد بنيانها عن الواقعية الكلاسيكية، التي تعبر عن وطنية المواطن الألماني، وتبث روح النقاء العرقي، والنزعة العسكرية فيه… لأنه كان مقتنعاً بشدة أن أي فن بخلاف الفن التقليدي، هو فن يهودي، مما زاد من عدائه الشديد، تجاه الفن المنحط…ولكن برغم ذلك، وبرغم القيود التي فرضها هتلر على الفن الألماني، وبرغم تقييده لحرية التعبير…إلا أن المعارضين للنازية، ولفكرة التكميم الفني تلك، جاهدوا في سبيل إبراز حرية الفن بشكل عام، مما جعل الفن المنحط أحد أهم أحداث التاريخ، التي مرت علينا…خصوصاً وأن تعامل هتلر مع ذلك الفن لم يكن بشكل سوي…بل كان يحقر دوماً من شأنه، فكان يضع اللوحات، والأعمال الفنية بشكل معكوس، ومقلوب على الجدران، أو يضعها بدون براويز…ويكتب الكثير من العبارات التي تُحقر، وتُهمش من شأن تلك الأعمال، ولكن برغم كل ذلك…وبجانب مساعي بعض الناس للبحث عن حرية التعبير، كان لمعرض الفن المنحط جمهوراً عريضاً، جعل هتلر يغلق هذا المعرض بعد خمسة أشهر فقط من افتتاحه! بل وبدأ في عملية إعدام للعديد من الأعمال الفنية لكبار الفنانين…فكان هذا المعرض يشمل فنانين ذوي تاريخ وفن عريق، كبابلو بيكاسو، وفان جوخ، وكافكا، وغيرهم.
في الحقيقة لم تكن حادثة معرض الفن المنحط بهذا السوء، فقد نتج عنها أفواج من المتحمسين للفن الحديث، بعدما كانوا يرتوون بالفن التقليدي…وسنحت تلك الحادثة بفرصة للشرق الأوسط، للتعرف على هذا الفن الحديث بصدر رحب، من خلال جماعة الفن والحرية، التي تأسست على يد المُبدع الثائر التجريدي رمسيس يونان عام ١٩٣٨م …ضمت تلك الجماعة العديد من الشخصيات المؤثرة في القرن الماضي، مثل حسين كامل، وجورج حنين، وغيرهم…
ويُعد رمسيس يونان من رواد التجديد في الفن المصري، وأحد الداعمين بشكل كبير لفكرة التحرر في الفن، والحياة عموماً بشكل ثائر… فرمسيس يونان هو أيضاً مؤسس السريالية في مصر، وتُنسب له ولحركته جهود في ترجمة الثقافة الغربية التنويرية، وفنها، ونقلها لمصر بشكل سلس، يتقبله الشعب بصدر رحب…كان هدف جماعة الفن والحرية ليس المناداة بالحرية، والتعبير، والدفاع عن الفن المنحط فقط!…بل كانت تُنادي بالحرية بشكل عام، اِجتماعياً، وثقافياً، واقتصادياً، وسياسياً، فكان لها دور كبير في تشكيل وعي جديد لدى الناس، في استقبالهم لمتغيرات الحياة، وتطوراتها…وكان دفاعهم عن الفن المنحط، نابع أكثر من فكرة التمرد، فكانت تلك الجماعة تثور على كل ما هو تقليدي، داعمة للفن الحديث، وتياراته المختلفة، نظراً لإيمانهم الشديد بفكرة التطور والحرية…ولسأمهم من التيارات، والمدارس الفنية التقليدية، التي لم تمنح فرصة للتجديد، والتطور في ظل قمع إجباري.
أنهى هتلر معرض الفن المنحط بعد خمسة أشهر فقط، لأن شعبية الفن المنحط زادت، وأصبح مغناطيساً للمعجبين، عوضاً عن تنفيرهم…ولم يكن هتلر يعلم أنه خلق بوابة جديدة في عالم موازٍ، أعطت فرصة لهذا المعرض، أن يُقام مجدداً بعد حوالي ثمانين عاماً، في عام ٢٠١٦م تحت عنوان (بعد الحرب)، وعُرضت فيه العديد من الأعمال الفنية، لفنانين مصريين منهم رمسيس يونان، وجاذبية سري وإنجي أفلاطون…واستمر قرابة ستة أشهر…وهذا يدل على سقطة هتلر، حين تعمد أن يقضي بها على الفن الحديث، فانقلب السحر على الساحر، وذاع صيت هذا الفن، بسبب الترويج السلبي، الذي أعتمده، ظناً منه أنه بهذا سيتخلص من حداثة، ظلت ممتدة، ومازالت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقدة ــ مصــر