د.فاطمة عبد اللطيف: من أنا ؟ قراءة بنيوية لنص” فتاة أمام المرآة” .


د.فاطمة لطيف ★
کردة فعل (نقدية / قراءاتية) إزاء الانغماس والإفراط في الذاتية والحرية الفردية، التي اتبعتها المناهج النقدية السابقة للبنيوية ، رفعت هذه الأخيرة مقولة البنية الكلية شعاراً لها ، وهي بنية يكشف عنها التحليل العلائقي الداخلي للنص الفني، وعلى نحو يمكن أن نطلق عليها تسمية النسق المكتفي ذاتياً ، تشكلاً و وظيفة .
وقد كان (كلود ليفي شتراوس) من رواد هذه المقولة عندما حاول أن يؤسس لمنهجية جديدة تكشف عن الأبنية الكلية العميقة في مجالات الحياة كافة بما فيها من نظم معرفية، وأنماط فنية ، إذ أكد على أن كل الظواهر والأحداث والاشياء، التي تملك معنى ما يجب أن تدرس بوصفها بنية كما يجب أن تفهم وفقاً لما فيها من بُنًى ثانوية وعلاقات مشتركة ، إذ تؤلف بمجموعها المعنى ذاته ، لذلك عندما يطرح النص سؤالاً لا نجد الإجابة الجمالية والوجودية عليه إلا فيه ، في ذاته وبناه ، دون الارتداد إلى مرجع خارجي يسند إليه ، وهو ما قدمه – كتطبيق بنائي وفلسفي/ جمالي – (بيكاسو) في نصه ( فتاة أمام المرآة) .
والذي طرح من خلاله تساؤلاً وجودياً عميقاً يتلخص في (من أنا – ومن هذا الآخر ؟ ) والذي أغلق من خلاله النص على هذا التساؤل، وجعل المعنى والإجابة عنه حبيساً فيه.
يمكن لنا قراءة هذا النص بوصفه خطاباً وجودياً بنيويأ ثرياً له مقوماته التركيبية المعقدة بشفراته وثيمه ونظمه العلاماتية المتعددة الدلالات ، ولا شك في ذلك لأنه يفصح عن خزين معرفي و وجودي بقضية إنسانية كبرى ، وعن إشكالية روحية عميقة، ألا وهي علاقة الذات بوجودها الفعلي ، مادياً وروحياً ، وما تفرزه هذه الإشكالية من جدلية شائكة بين هذه الذات والأنا والآخر . وبهذا الوصف أمتلك هذا النص مواضعاته الثنائية الطابع – شكلاً ومضموناً – قدرته على تفجير سلسلة معان واستجابات جمالية متوالية في ذات المتلقي ضمن فضائه دون الانفلات من إطاره البنائي والعلائقي.
في هذا النص
تَمَكّنَ (بيكاسو) من أن يمتع المتلقي، ويقدم له عبر لغة فنية علائقية تشكلية، وجهاً من أوجه الواقع المتناقض، الذي تعيشه البشرية عامةً والمرأة خاصةً.
والذي يتسم بحوارات براغماتية شائكة ، وهو ما مَثَّل البنية العلاماتية الكبرى في النص، والتي هيمنت على مجمل فضائه متمثلة بشكل جسد المرأة، والذي تماثل بدوره مع صورته في المرآة ، وهو في الحقيقة جسد لا يعود إلى (امرأة ما ) بل (ذات) صنعها النص بنفسه وأخضعها إلى نسقه الفني الخاص، وبذلك يكون (بيكاسو) قد اشترط على المتلقي قراءة دلالة الجسد ضمن إطاره النصي دون البحث عن مرجع ما خارجه ، قد يسعفه في إعادة بناء المعنى، لذلك تموضع السؤال عن حقيقة (الأنا) و(الآخر) ضمن العلاقات البنائية فحسب ، مقصياً بذلك أي مقولة اجتماعية أو نفسية أخرى . إنها إشهار حقيقي لسلطة النص الجديد وتقويض لسلطة المرجع المعد مسبقاً.
اِحتكم هذا النص إلى قانون البنية الفنية الذي طرحته البنيوية، والذي يُفَعِّل اشتغالاته على العلاقات الداخلية الثابتة، التي تقدم الكل على الأجزاء ، إذ يقوم المتلقي بقراءة النص ، موضوعه ، هيكله البنائي ، وحدته المادية كوحدة واحدة ، وهو ما يؤسس لفهم واستيعاب قصدية (بيكاسو) من توظيف جسد المرأة ، والمعنى الدلالي لتماثله الشبه التام في نصفي النص ، فضلاً عن جمالية تشكله كموضوع واحد ، وبنية واحدة ، تحتضن وتحوي الأجزاء والأشكال الهندسية الأخرى ، سواء داخل الجسد أم خارجه ، وهو ما شكل نسيجاً علائقيا معقداً يعكس بدوره مدى تعقد الصلات الإنسانية على تنوع أشكالها وتعدد مسمياتها .
إذ عَبْرَ هذا الضخ الشكلي المكثف يتيه المعنى الواحد في صخب الحياة المعاصرة وزينتها الزائفة؛ حيث الألوان البرّاقة والأشكال المتنوعة والمشاعر المفقودة.
بهذه الآلية الأدائية الفنية طرح (بيكاسو ) تساؤله وقوانينه البنيوية ؛ حيث أنشأ خطاباً إنسانيا مضمراً مكثفاً ، مفاده أنا لا أشبه الأنا ، ولا أشبه الآخر إلا في الشكل، أنا لست للاستهلاك الإنساني، أنا لست غاية، بل قصد وهدف يجب أن يتحقق بعيداً عن كل هذا الصخب والفوضى ، أنا أملك حدودي فلا تداهمني ، ولي استقلالي فلا تهشم ما تبقَّى منه، لا تجعل مني وسيلة لتحقيق غايتك.
إنه خطاب تميز بخاصية الكلية والشمولية التي لها قابلية التحول معنوياً ضمن سياق النص وحده ، سياق له أنظمة تبادلية الأثر والتأثير في المتلقي، كما هو الحال في النصف الأيمن من النص مقارنة مع النصف الأيسر منه ، والتي أفرزت فكرة ( بيكاسو) وموقفه الإنساني إزاء قضية وجودية شمولية دون استثناء، لذلك ترك في نصه فجوات تساعد المتلقي على القيام بعمليات تأليف وتركيب حتى يكتمل المعنى نظراً لما يحمله نصه هذا من مرونة وقابلية للتحول الدلالي، ومن بنية قرآتية فاعلة ، ذاتية الانضباط ، لا تحتاج إلى مسوغ خارجي لتبرر أو تعلل وجودها، إذ أن ضرورة التعبير عن القضية الإنسانية الكبرى تستدعي وجود الهيمنة الشكلية لجسد (المرأة) دون أن يكون شكلاً محاكاتي كلياً أو نسبياً. وهو ما يستدعي فعل تلقٍ راقً وفيض من قراءات الذهن و قدرة إحالية معنوية.
إن ما أراد (بيكاسو) التركيز عليه في هذا النص طبيعة وعمق النظام الوجودي الخفي الذي يحكمنا في الواقع ، والذي تستند عليه أفعالنا، وردود أفعالنا عند تفاعلنا مع الآخر إذ تمثل ذلك بوجود شكل ( المرأة والمرآة) في وضع تقابلي مباشر وهو ما يجعل من ألم
المعنى الذي طرحناه أمراً حتمياً وممكناً ، دليلنا في ذلك أن كلاً مِنّا يحمل في ثناياه ذاتاً أخرى غير ذواتنا المتاحة للآخرين ، وهي بطبيعتها تحمل طابعاً ضدياً مع الذوات الأخرى وهو ما يجعلها مختلفة عنهم، لذلك حينما ندرك ذاتاً شكلية في هذا النص، ندرك في ذات الوقت الشكل المضاد لها أو لغيرها، والذي أنعكس في ( المرآة) وعلى هذا النحو يمكن لنا الإمساك بالجذر التأسيسي لفكرة الوجود البراغماتي و الوجود المضاد لوجود الآخر معاً بشكل واضح في هذا النص . عبر نظام من الوحدات ( الأشكال والألوان والخطوط ) المتداخلة العلاقات مانحاً هذه الوحدات قيماً قراءاتية إضافية تأتت من وجودها داخل النسق الداخلي لهذا الخطاب ( النص ) .
يمكن لنا أن نرصد حركة العناصر الخطية في هذا النص وهي ترسم حدود الشكل ( جسد المرأة) وما يماثله في ( المرآة) ، وهذه الحركة الآنية يمكن أن نطلق عليها تسمية التزامن البنيوي ، كما يمكن أن نرصد تموضع الفجوات النصية الناتجة عن وضع الأشكال متقابلة ، يمكن أن نرصد أيضاً ما يمكن تسميته بالتعاقب البنيوي ، والذي فيه تمت خلخلة فعل التلقي، وطرح أسئلة وجودية عن طبيعة العلاقة الترابطية بين الشكلين، وهي علاقة تقع على نمطين، تركيبية ، تبادلية / ضدية ، إذ يمكن استبدال أحد الأشكال بشكل آخر ضمن النص ذاته، والذي فيه ومنه استمدت قيمتها ووظيفتها الجمالية ومرونتها في حمل الدلالة أو المعنى .
إن (بيكاسو) هذا بدا أشبه بتراكم أبنيه فنية ، إذ شكلت العناصر المادية بنية حضور مدركة حسياً ، تحمل المتلقي على البحث الدلالي المستمر والمضمر في علاقاتها التركيبية والإبدالية، والتي يمكن أن نعدها بنية غياب، وهو ما يعني بالضرورة أن يقوم المتلقي بقراءة النص قراءة فاحصة عمودية وأفقية متنقلاً بين عمليات تأليف وتركيب وتكوين دلالي مستمر بين (الحضور والغياب ) ، دون أن يُغفل تجاور العناصر الفنية مع بعضها البعض كوحدات بنائية بصرية، كما شكل عنصرا التضاد والانسجام وحدة جدلية فنية قراءاتية تجعل من التأليف الفني وما يفرزه من معنى تبادل الحوار الوجودي بين أبنية التكوين الفني للنص أمراً ممكناً ، و تبعاً لذلك تصبح الإجابة عن تساؤل (بيكاسو) هذا متوقفة على الحضور المادي للنص، وعلى الفاعلية القراءاتية للمتلقي، وهي آلية تساعد في الوصول إلى البناء المنطقي للأنساق الشكلية والدلالية بشكل أعمق وأكثر قرباً من مجرد تحليل النص بصرياً ، إذ تسمح هذه الجدلية بين (النص و المتلقي) بطرح إجابات عدة حول علاقة الذات بذاتها المتشضية والمنهكة بفعل طابع الحياة المعاصر فضلاً عن علاقتها بالآخر، والتي عُدَّتْ مشروعاً نفعياً لا إنسانياً ، طمست فيه ملامح البراءة والصفاء، وحل الحذر والقلق الوجودي محل كل ذلك .




