تشكيل

د.أحمد جمال عيد:رحلة في عوالم الفنان التشكيلي منذر العتوم.

د. أحمد جمـــال عيـــد

في بستان الفن وجمالياته، وُلد الفنان التشكيلي الأستاذ الدكتور منذر العتوم، عام 1972، في مدينة جرش، التي تجمع بين سحر الطبيعة وعظمة التاريخ العريق في المملكة الأردنية الهاشمية. من هذه الأرض التي تحتضن آثارًا خالدة وأفقًا مفتوحًا على الجمال، انطلقت مسيرته الفنية لتصبح رحلة في أعماق الروح وعوالم النفس، يتردد صداها في القلوب قبل العيون، تأخذ الزائر إلى أبعادٍ تتجاوز حدود اللوحة والإطار.
العتوم، الذي حاز على درجة الدكتوراه من جامعة ولاية بيلاروسيا للثقافة والفنون عام 1999، انطلق في تجربته الفنية برؤى تتجذر في الطبيعة، تمتد إلى النفس، وتتجاوز حدود المادة إلى المعاني الكامنة وراءها. فبعد أن عمل في السعودية وترك بصماته في جامعاتها، عاد إلى الأردن ليواصل إبداعاته في جامعة اليرموك، حيث درّس الفن وشارك بمعارض وورش تدريبية، لينقل خبرته إلى جيل جديد من عشاق الفن.
أقام العتوم العديد من المعارض التشكيلية التي تمثل محطات هامة في الحركة التشكيلية الأردنية والعربية، منها معرض “آفاق النفس” و “تراتيل الطبيعة” و ” تجليات الطبيعة” ويبدو لنا أن الفنان مهمومًا بكل ما يتعلق بالكون الفسيح.

معرض “آفاق النفس”: رحلة في أبعاد النفس البشرية

في معرض “آفاق النفس” استلهم العتوم فكرة هذا المعرض من الآية الكريمة: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ” (فصلت: 53، قرآن كريم). هذه الآية شكلت نقطة انطلاق لفهم ما يتجاوز حدود النفس وظاهرها، إذ سعى العتوم إلى تجسيد فكرة أن لكل نفسٍ أفقًا مختلفًا، يتلون ويتشكل حسب الظروف والتجارب، تمامًا كالأفق الذي يتغير بتغير ساعات اليوم والفصول. استعرض العتوم مفهوم الأنفس السبع، حيث يربط بين ألوانها وتمازجها وبين الأفق الطبيعي الذي يعكس أحوال الإنسان، وتفاعل روحه مع محيطه.

في هذا المعرض، تتجلى الألوان وتتناغم ضمن تكوينات متداخلة، كأنها أنفاس متتابعة تتغير وتتداخل، فمن يشاهد اللوحات قد يجد نفسه في إحدى زواياها، يحاكي اللون شعوره الداخلي، وينفتح له الأفق كنافذة تطل على عمق روحه. لقد نجح العتوم، من خلال “آفاق النفس”، في خلق مساحة فلسفية يتماهى فيها العلم مع الفن، وتترابط فيها ألوان النفس بطيف الأفق، حيث تعبر كل لمسة لونية عن جانب خفي من شخصياتنا وأحوالنا المتغيرة.

في معرض “آفاق النفس” أمامنا لوحات تتجلى فيها أسلوب د. منذر العتوم المتفرّد، وفي هذا العمل تحديدًا الذي نحن بصدده، تندمج الظلال والألوان في تدرجات متقاربة بين الأبيض والأسود والرمادي. يمكننا أن نرى طبقات من التدرجات التي تتلاعب بالإضاءة، كأنها مشهد لمدينة أو جبل يطفو في الأفق البعيد. تقف الخطوط السوداء الداكنة كالظلال الموحشة، متخذةً شكلًا تجريديًا غامضًا، يصعب على العين تحديد أبعاده بشكل دقيق. فتبدو هذه العناصر الغامضة كأنها أشجار أو مخلوقات تحاول التشكل، أو ربما انعكاس لصمت الطبيعة الذي يحمل في طياته حكمة أبدية.
يتوزع الضوء في وسط اللوحة بشكل دراماتيكي، مضيئًا بريقًا من الأمل، بينما يحتفظ الظلام بسلطته في الأعلى والأسفل، كأنما يجسد العتوم توازنًا بين النور والظلام، بين الحياة والموت، وبين الوضوح والغموض. تشعر كأن هذا الضوء يشق طريقه، متشبثًا بالحياة وسط سكون الظلام المحيط.
في هذا العمل، يعتمد العتوم على أسلوب تعبيري عميق، حيث تسود اللوحة تدرجات قوية من الأسود والرمادي، مما يخلق تأثيرًا بصريًا يتجلى فيه عنصر التوتر والتباين. هنا، تبدو اللوحة كعالمٍ مستقل، تتراقص فيه الظلال وكأنها قصائد غير مرئية تحكي عن مكنونات النفس البشرية. تتنوع الفرشاة في هذه اللوحة، فتارةً تضرب بضربات سريعة قوية، وتارةً تتهادى برفق، مما يخلق تأثيرات بصرية تلمّح إلى حركة كامنة، على الرغم من سكون اللوحة.
في اللوحة أيضًا، نجد أن العتوم يقسم التكوين بين أعلى وأسفل، تاركًا للمساحة البيضاء المتوسطة أن تنقل الضوء والأمل. وهذا التوازن في التكوين، من خلال تقسيم المساحات، هو سمةٌ بارزة في أعمال العتوم؛ إذ يعتمد في الغالب على تكوينات مقسمة بعناية بين الثلث والثلثين أو النصف والنصف، لتوزيع الإضاءة والظلال بشكل متقن وهادئ.
الألوان القاتمة تتداخل كأنها تدعو المشاهد إلى الغوص في أعماقها، إلى ما وراء الألوان السطحية. فالسواد والرماديات هنا ليست مجرد ظلال، بل تعبر عن مكنونات النفس، عن الأسرار والذكريات المدفونة في اللاوعي. يبدو أن العتوم أراد أن يأخذنا إلى عالمٍ بعيد عن الواقع، إلى عوالم تشبه الحلم، أو ربما إلى مملكة غامضة مليئة بالتجليات والبوح الخفي.
من خلال هذه اللوحة، يسعى د. منذر العتوم إلى نقل فلسفة متأملة ترتكز على العلاقة بين النور والظلام في داخل النفس البشرية. قد يكون هذا العمل انعكاسًا لمعرضه “آفاق النفس”، حيث يتناول العتوم فكرة الآية القرآنية “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم”. إذ ربما أراد هنا أن يُظهر كيف تتفاعل الأنفس وتتجاوب مع محيطها، وكيف يسكن في كل أفقٍ جانبٌ من جوانب الذات.

في هذه اللوحة، قد نرى تلميحًا لواحدٍ من تلك “الأنفس السبع” التي تحدث عنها العتوم، حيث تلوح للمتلقي ظلالٌ قاتمة تمثل حالات الكآبة أو الوحدة، بينما يشق النور طريقه كنافذة من الأمل والسلام. فمن خلال تكوينه البصري، يحاول العتوم هنا أن يستحضر الصفات المختلفة لكل نفس، وأن يعكس تعقيداتها وتشابكها، بتجسيد ألوانها الغامضة وأفقها الذي يبدو متغيرًا ومتشابكًا.
يمكننا القول إن العمل يعبر عن رحلة النفس في البحث عن النور، عن الأمل، رغم الظروف القاسية التي تحيط بها. إنها رحلة روحية نحو الذات، نحو اكتشاف ما يحمله الإنسان من مشاعر متناقضة، من ضعف وقوة، ومن خوف واطمئنان.
لوحة العتوم هذه تُعتبر عملًا تأمليًا عميقًا يلامس الروح، يجسد ببراعة مفهوم “آفاق النفس” ويقدم للمشاهد تجربة بصرية وروحية في آن واحد. لقد نجح العتوم هنا في استخدام أسلوبه التجريدي الكئيب والمشرق في آن واحد، لخلق حوار داخلي بين النور والظلام، بين الأمل واليأس، وكأنما يرغب في أن يجعلنا نرى داخل أنفسنا، لنبحث عن تلك الأنوار المخفية داخل أعماقنا.

أهم ما يميز عمل العتوم هو قُدرته على تحويل اللوحة إلى مرآة، تعكس بداخلها قلق النفس وتساؤلاتها عن الوجود. الأسلوب التعبيري الذي انتهجه هنا يبرز قدرة الفنان على توظيف التدرجات اللونية والفرشاة الحادة أحيانًا والهادئة أحيانًا أخرى، ليخلق تباينات تمثل الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين الطمأنينة والاضطراب.
يمكننا القول إن د. منذر العتوم استطاع، من خلال هذه اللوحة، أن يفتح نافذة جديدة نحو عالم مدهش من التأملات الروحية والفلسفية، ليجعل من عمله بوابة نحو فهم أعمق للذات وللعالم من حولنا.
تراتيل الطبيعة: حين تتكلم الأرض وتبوح الأشجار

وفي معرض “تراتيل”، أطلق العتوم العنان لريشته كي ترسم الطبيعة، ولكن ليس فقط كجمال مرئي، بل كرسالةٍ خفية تتداخل فيها آثار الإنسان وتأثيراته. حملت اللوحات الثلاثين في هذا المعرض مزيجًا من الألوان الزيتية التي تعكس قدرة العتوم على تطويع الألوان الأكاديمية في مساحات مدروسة. عبر تقسيم اللوحة بين الثلثين والثلث، أو النصف والنصف، بنى الفنان عوالم مستقلة ومتداخلة في آن واحد، وكأنها تراتيل مقدسة تروي تاريخ الأرض وأوجاعها وأفراحها.
تكشف لوحات “تراتيل” عن لغة صامتة تنبض بالحياة، تكاد تتحدث للمشاهد عن قصص الطبيعة وآثار الإنسان عليها. كل لون هو إيقاع وكل خط هو نغمة، تشكلت لتصنع سيمفونية بصرية يتردد صداها في وجدان المشاهد، تذكره بجمال الطبيعة الهائل وبنفس الوقت تُنبئه بما تفعله يد الإنسان في هذه البيئة النقية.
في معرض “تراتيل الطبيعة”، يُصغي الفنان منذر العتوم لنبضات الأرض وهمسات السماء، فيحملنا في رحلة تأملية بين ثنايا الطبيعة الخلابة. هنا، يترجم العتوم لحظات الصمت وهدوء الفجر وهمس الغروب إلى لوحات تلامس الروح، كأنها قصائد بصرية تتغنى بجمال الطبيعة وسحرها الخفي. كل لوحة هي صلاة للوجود، ترتيل لوني يتماوج بين دفء التراب وشفافية السماء، حيث تبرز خطوطه وألوانه كأنها تجسد اللقاء الأبدي بين الأرض والسماء، بين الجسد والروح. إنه معرض يُخاطب فينا الشوق إلى الأصالة والنقاء، ويعيدنا إلى أحضان الطبيعة بمعانيها العميقة وجمالها الصامت، تاركاً كل مشاهد يغرق في صمتها ويُسبّح بجمالها، وكأننا نقف أمام قصيدة أزلية تُرتَّل على أنغام الريح وعبير الأرض.

عند تأمل هذه اللوحة، نجد أن الفنان ينسج عبر الألوان والمساحات تناغماً جمالياً ساحراً يلتقط لحظة من الطبيعة، كأنها تحفة من السماء تجسدت على سطح اللوحة. يُظهر المشهد شروقاً أو غروباً غامراً، في مشهد ترابي أرضي تتداخل فيه الألوان الدافئة، ممزوجة بلمسات أرجوانية وزيتونية، تمتد على مساحات واسعة تتناثر فيها ظلال النباتات والأرض بأشكال ضبابية، تصاعدية تلتقي بالسماء الزرقاء التي تتخللها السحب الوردية والبيضاء. تتراوح درجات اللون بين الداكن والفاتح لتضفي طابعاً عميقاً وحالة وجدانية من التأمل.
في هذه اللوحة، يعتمد العتوم على تقنية توزيع الألوان ببراعة، حيث تظهر الطبقات اللونية متناغمة في انسيابية تخلق جواً من الهدوء والسكون الروحي. استخدام الفنان للألوان الدافئة في الأرض يشكل تبايناً جذاباً مع الألوان الباردة في السماء، مما يعزز عمق المشهد ويوحي بامتداد الأفق. التقنية المستخدمة تعكس حسا أكاديمياً عميقاً؛ فهو يمزج الألوان بحرفية عالية ليخلق من خلالها انسجاماً بين الأرض والسماء، مُذكّراً المتلقي بمزيج الروح والمادة، حيث تتكامل العناصر بشكل مثالي لإظهار تأثير الطبيعة علينا كبشر.
اللوحة تقدم تأويلاً عميقاً للحالة التأملية للإنسان في حضرة الطبيعة. ربما أراد العتوم أن يوصل شعور الطمأنينة والسكينة، وكأنه يدعو المشاهدين للانصهار في جمال الأرض وهدوء السماء، رمزاً للترابط العميق بين الإنسان والطبيعة. اختيار الألوان الترابية الداكنة قد يشير إلى جذور الإنسان وارتباطه الوثيق بالأرض، في حين أن السحب والألوان السماوية تُمثّل البُعد الروحاني، إذ تفتح أمامنا آفاقًا من التأمل والهدوء. لوحة العتوم هنا ليست مجرد مشهد طبيعي، بل هي انعكاس للروح الباحثة عن معنى في أفق الحياة.
تعد هذه اللوحة من أروع أعمال العتوم التي تعكس فهمه العميق للطبيعة وقدرته على تصويرها بأبعادها الروحية. إنها قطعة تُبرز التداخل الحميم بين المادة والروح، بين الأرض والسماء، وبين الفن والعقيدة. اللوحة تجمع بين جمالية الصورة وبساطتها، معبّرة عن رؤية العتوم الفنية التي تتجسد في البحث عن الجمال الخفي وتأمله بعمق، حيث يتيح لكل من يشاهدها الفرصة للانغماس في عالم من السكينة والاسترخاء الروحي.
إنها ليست مجرد لوحة طبيعية، بل تجربة روحية تأخذنا في رحلة عميقة بين ملامح الأرض وألوان السماء. الفنان العتوم أبدع في تصوير الطبيعة، فأعطانا نافذة للتأمل والتفاعل مع العمق الداخلي للإنسان وأثر الطبيعة عليه.

تجليات الطبيعة: إيقاع اللون وقوة الرسالة

في معرض “تجليات الطبيعة”، يتبدّى أسلوب العتوم الجريء في استخدام الألوان القوية، حيث تأخذ اللوحات بعدًا آخر، ربما أكثر حدة وقوة. كأن الألوان القوية تعبّر عن تداخل الإنسان بالطبيعة وتؤرخ لآثار حضوره فيها. في هذا المعرض، لا تقف الطبيعة كخلفية هادئة، بل تجسد حضورًا صاخبًا ينطق برسالة مضمرة.
لقد برع العتوم في هذا المعرض في بناء لوحة قادرة على الاحتفاظ بجمالها الفطري مع إضافة لمسة درامية تشكل تباينًا قويًا بين ألوان زاهية وصاخبة وبين ضربات فرشاة تتبع إيقاعًا موسيقيًا داخليًا، ليشعر المشاهد بحيوية قوية وتفاعل عميق. كل لون في اللوحات هو نبضة، وكل خط هو همسة، تتوالى لتبني تجربة بصرية حية.
في معرضه “تجليات الطبيعة”، يفتح الفنان د. منذر العتوم لنا بواباتٍ من الألوان والعوالم الروحية، حيث تمتزج الأرض والسماء، ويستحيل الصمت لغةً تتحدث بها اللوحات. هنا، يترجم العتوم تفاصيل الطبيعة إلى حكايات بصرية، مستلهمًا نبضها وصمتها، تلك اللحظات العميقة التي تحتفظ فيها الأرض بآثار الإنسان، دون ضجيج أو افتعال.
اللوحات تمتد أمامنا كبحورٍ ذهبية، أفقها ينساب إلى اللانهاية، كأنما يدعونا العتوم للغوص في سرِّ الكون وأعماق النفس. الألوان قوية وجريئة، تنبض بحيوية الطبيعة وجلالها، وتتلون بأصداء الشفق وغسق الليل. “هنا، الأصفر يروي حكاية الحقول، والأزرق ينشد قصائد الغيم”، في مزيج بديع بين الأرض والسماء، بين الملموس وما وراءه من روح.
“التجليات هنا ليست مجرد مناظر”، بل هي انعكاسات لذات الإنسان الباحثة عن السلام الداخلي. كل لوحة تشع بهدوءها، تدعو الناظر إلى رحلة تأملية تتداخل فيها مشاعر الإنسان مع امتداد الأفق، وكأن الفنان يرسم نافذةً من قلبه إلى عالم الطبيعة، عالمًا يخلو من ضجيج المدن، حيث يعود الإنسان إلى أصله، إلى حضن الطبيعة الأم.
في هذا المعرض، يتجلى الفنان العتوم كحكيمٍ يرسم بالنور واللون، مُحدثًا علاقة فريدة بين المشاهد والطبيعة. يهمس لنا بلطف بأن “الجمال يكمن في البساطة”، وأن الطبيعة تحتفظ بجلالها حتى بعد مرور الأزمان وتبدل الأحوال. هذه “التجليات” ليست مجرد مناظر، بل مرآة لنفس الإنسان، تعكس لنا جميعًا، وتدعو أرواحنا للعودة إلى جذور الأرض وعمق السكينة.

تقف اللوحة أمامنا كرحلة بصرية في أعماق الطبيعة، حيث تسيطر الألوان الذهبية والصفراء على المشهد، تليها سماءٌ تمتد في زرقة متدرجة تعانق الأفق البعيد. في الأفق، تظهر تلال وأشكال بعيدة، وكأنها آثار أو بقايا لقرية نائية غارقة في حنين الزمن. اللوحة خالية تقريبًا من التفاصيل المعقدة، تعكس إحساسًا بالبراح والانطلاق، بلغة بصرية بسيطة ولكنها غنية بالمعاني.
تنقسم اللوحة إلى قسمين رئيسيين: الأرض الممتدة والتي تملؤها الألوان الصفراء المتعددة الطبقات، والسماء التي تشغل الحيز العلوي بألوان زرقاء وبيضاء هادئة. كأنما يعبر العتوم من خلال هذا التباين عن الحقول الممتدة تحت أشعة الشمس في لحظة نهار ساكنة.

اختار العتوم في هذه اللوحة أن يتبنى أسلوبًا يعتمد على الألوان الأساسية وتدرجاتها، وهو أسلوب بسيط ولكنه مليء بالتفاصيل التعبيرية. اللون الأصفر بمختلف تدرجاته يوحي بخصوبة الأرض ودفء الطبيعة، بينما يعكس اللون الأزرق في السماء شعورًا بالهدوء والتأمل. يميل العتوم في هذا العمل إلى استخدام المساحات اللونية الكبيرة لتعبير عن الحقول الشاسعة، مما يعطي المشاهد شعورًا بالحرية والانسيابية.
التكوين هنا بسيط لكنه مدروس بعناية؛ فنجد تقسيم اللوحة يركز على الامتداد الأفقي للأرض الذي يقابله الأفق الهادئ في الأعلى، مما يخلق توازنًا بصريًا بين الأعلى والأسفل، وبين الألوان الساخنة والباردة. يشير هذا التوازن إلى قدرة العتوم على استيعاب الطبيعة وتجسيدها بشكل ينسجم مع روحه الفنية، ويعكس فهمًا عميقًا لتوزيع العناصر دون اللجوء إلى تعقيد التفاصيل.
الفرشاة المستخدمة هنا تبدو واسعة وفضفاضة، مما يضفي على اللوحة ملمسًا ناعمًا غير متكلف، كأن الأرض نفسها تتحدث بلغتها الصامتة. في البعيد، الخطوط الغامقة التي تمثل التلال والقرى تكسر هدوء اللوحة وتضيف إليها لمسة غموض، وكأنها جزء من ماضٍ مخفي أو حضارة عتيقة تتوارى خلف طبقات الزمن.
يمكن تفسير هذا العمل كتمثيل لتأملات العتوم في الطبيعة وعلاقته الروحية معها. يعكس هذا المشهد فلسفة الفنان ورؤيته للطبيعة كملاذ للروح، ومكان يجد فيه الإنسان انسجامه الداخلي. اللون الأصفر، الذي يسيطر على اللوحة، قد يكون إشارة إلى ضوء الشمس الذي يملأ الحقول، أو ربما يشير إلى فكرة النور الداخلي، النور الذي يسعى الإنسان دائمًا لبلوغه في رحلته الروحية.
هذه اللوحة تتماشى مع توجه العتوم في معرضه “تجليات الطبيعة”، حيث يبرز التأثير البشري الخفي على الأرض. في هذه المساحة الشاسعة من الأصفر، ربما أراد العتوم أن يوحي بأن الطبيعة، رغم تأثيرات البشر عليها، لا تزال تحتفظ بهيبتها وجمالها الخالص. الأرض هنا تبدو كأنها تتحدث عن النقاء، عن الخصب، وعن القيم الجمالية التي تربط الإنسان بوجوده.
قد تكون هذه اللوحة أيضًا تمثيلًا لفكرة “الآفاق النفسية” التي تطرق لها العتوم في معرضه الآخر “آفاق النفس”، حيث الأرض الشاسعة قد تمثل انعكاسًا لحالة السكون والصفاء الداخلي الذي يطمح إليه الإنسان في رحلته للبحث عن ذاته. فاللون الأصفر الهادئ يرمز للتوازن والسلام، بينما الأزرق في الأعلى هو رمز للهدوء السماوي.
هذه اللوحة تبرز قدرات د. منذر العتوم في التعبير عن الطبيعة من منظور تأملي روحاني، حيث تلتقي البساطة مع العمق، ليعبر عن قيم أساسية تشبه عناصر الطبيعة ذاتها: الأصالة، الصفاء، والاتساع. اللوحة لا تحتوي على تفاصيل كثيرة، لكنها مع ذلك محمّلة برمزية عميقة، حيث تترك للمشاهد مساحة واسعة للتأمل واستشعار الأبعاد الروحية في هذا المشهد.

يمكن اعتبار هذا العمل كإنجاز فني يعكس رؤية العتوم الخاصة للطبيعة، إذ استطاع عبر استخدامه البسيط للألوان والتكوينات أن ينقل للمشاهد شعورًا بالهدوء والسلام، وكأنه يقف في حضرة الطبيعة دون وسيط، يشعر بحرارة الشمس وبرودة السماء في آنٍ واحد.
تُظهر هذه اللوحة تأثير البيئة الأردنية على العتوم، حيث تذكرنا الحقول الصفراء والسماء المفتوحة بأفق الأردن الشاسع، بألوانه وترابه، بأشعة الشمس القاسية والمتألقة. استطاع العتوم أن يُقدم مشهدًا محليًا يحمل في طياته رسالة عالمية، تلامس كل من ينظر إليها؛ رسالة تعبر عن علاقة الإنسان بالأرض، وعن الحب والاحترام الذي يجب أن يحمله لها.
لوحات “تجليات الطبيعة” ليست مجرد صور لمناظر طبيعية، بل هي دعوة للتأمل والتواصل مع الطبيعة بعين الروح، وتذكرة بأن الجمال الحقيقي في البساطة وفي الأشياء التي تُعبر عن ذاتها دون تكلّف أو تصنّع.

أثر الفن كمرآة للنفس والوجود

أعمال العتوم، بما تتضمنه من فلسفة وتكوين فني متوازن، لا تقف فقط كإبداع بصري، بل تتجاوز ذلك لتصبح مرآةً تعكس في طياتها تساؤلات الوجود والكينونة. في كل معرض، يفتح العتوم نوافذ جديدة على الروح، يدعونا لنرى أنفسنا في لوحاته، لنخوض تجربة تذوق فني تمتزج فيها متعة البصر بعُمق الفكر، فنصبح جزءًا من اللوحة، ونكمل حكايات الألوان بأرواحنا المتعطشة للجمال والبحث عن معنى.

إن تجربة الدكتور منذر العتوم في عالم الفنون التشكيلية هي بحق رحلة في عالم الروح والأفق، تلامس أعمق ما في النفس البشرية، وتدعو المشاهد لاكتشاف ملامحه في لوحات تحكي عن الوجود بألوان باذخة ومعانٍ صامتة.


★ناقد وفنان تشكيلي ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى