مسرح

عاطف أبو شهبة: بعد آخر رصاصة.. وتشوهات الحروب

عاطف أبو شهبة★

يعرض في مسرح الغد، من إنتاج البيت الفني للمسرح، عرض حتى آخر رصاصة، والعرض مأخوذ عن مجموعة من نصوص للكاتب العراقي: علي عبد النبي الزيدي، أشعار: رشا ضاهر، موسيقي وألحان: هشام طه، توزيع موسيقي: محمد همام، غناء نجلاء سليمان، آسر علي، رؤية سينمائية: طارق شرف، ديكور: محمد هاشم – أزياء: دينا زهير، مكياج: إسلام عباس.

ومن بطولة: طارق شرف، مي رضا، محمد دياب، وفاء عبده، إبراهيم الزهيري، إيناس المصري، إيمان مسامح، آسر علي، مريم سعيد، إعداد وإخراج: شريف صبحي

في وسط توهان من كتابات أصبحت باهتة، تبحث دوماً عن موضوع، ليقدم إلى متفرج أصبح متشبعاً بتفاهات تقدم له من خلال الفضائيات، والتي تقتحم عليه حياته، بقنوات متعددة، لكن مازالت، وستظل كلمة المسرح لها مذاق خاص، مبدئياً أنت الذي تختار الذهاب إليه، وهنا تكون أمام إشكالية أخرى، لا يوجد حاجز بينك وبين المادة المقدمة إليك، إن كان داخل العلبة (وهنا أشير إلى شكل الخشبة)، أو داخل مساحة تشكل فراغاً يُمْلَأ بالممثلين، والديكور، والعناصر الأخرى.

في حالة المسرح يكون التأثير أقوى، وجميع العناصر في اختبار يومي من جمهور متغير، وقد أسعدني الحظ أن أشاهد عرض (بعد آخر رصاصة) للكاتب علي عبد النبي الزيدي، وهو كاتب عراقي، والإشارة إلى الجنسية هنا تجعلك تربط الاسم بجنسية الكاتب، كون العراق يعاني الكثير من الآلام وإشكاليات ما بعد الحروب، وهذا ما يقدمه العرض المسرحي.

فنحن أمام تسع شخصيات حية، أثَّرَتْ فيها الحرب وما بعدها، ويستعرض لك النص المقدم تأثير الحرب عليها، من خلال ثلاث قصص متداخلة، وهي مأخوذة من أعمال للكاتب، والقصص هي: (عودة الرجل – قمامة – جيل رابع)

قام بالإعداد مخرج العمل، وأعتقد أن المخرج لم يفصل نفسه كمعد للعمل، وسنعرض القصص:

أولاً: قصة العائد، وهي قصة لشاب ذهب إلى الحرب على قدميه، وعاد بدونها، عاد وهو يستخدم كرسياً متحركاً، ولكن مازالت الحرب، وأحلام البطولة الزائفة داخله، فشكل الكرسي المتحرك، آثر مهندس الديكور أن يجعله كعربة حرب مشوهة، مثل ما أصاب وجهه، ذهب إلى الحرب تاركاً وراءه أماً، وزوجة لم يمضِ على حفل زفافهما الكثير، ذهب إلى الحرب، ولم يفكر كيف سيعيش من تركهم، وذهب وهو مؤمن بشعارات الزيف، وعاد ليجد زوجته محترفة البغاء، وأمه توافق وتبارك هذا من أجل أن تجد لقمة العيش.

يحاول أن يوقف ذلك، لكنه يفشل، ويصل به الأمر أن يفكر في طرد زوجته، بحجة النقاء والشرف، ويحاول أن يحرض الأم، ولكن من الطبيعي أن تأخذ الأم جانب الزوجة، فهي التي توفر لها الأمان، بعد أن تخلى عنها الأبن، بل يصل الأمر إلى نكران وجوده، والتآمر عليه من قبل الزوجة، حيث  تحرض الأم للتخلص منه، ويشتعل الصراع داخل الأم، فهي أمام خيار صعب، تتماسك أحياناً، وتضعف أحياناً، وينتهي الأمر بخسارة العائد لمعركته الصغيرة أيضاً، بعد الخسارة في المعركة الكبرى، حيث يشارك في الأمر بعد تهديده بالقتل، أو الرحيل عن عالمهما، فيختار أن يعيش، ويعمل قوَّاداً، ويقوم بنفسه بتحصيل رسوم ممارسة البغاء مع زوجته.

ثانياً: قصة العروس التي ترتدي فستان زفاف أسود، وتنتظر فتاها الذي حلمت معه بحياة أفضل، وها هو يعود، ولكنها لا تستطيع التعرف عليه، لأنه حين عاد، لم يكن نفس الشخص الذي رحل إلى ساحة المعركة أيضاً، وبما أن العائد في القصة الأولى مشوهٌ خارجياً، فهنا العائد مشوه داخلياً، عاد يحمل أفكاراً غريبة، يجعل المسافة بينهما تتسع، رغم اشتياق كل منهما للآخر، لكن مع كل جملة ينطقها ــ بعد أن توقفت ذاكرته عند ما قبل رحيله ــ تزيد من البعد بينهما، هو عائد مسخ إنسان، لا يوجد لديه طموح، ولا يوجد لديه شغف، بل يحمل ذكريات فقط، مع واقع اختلف كثيراً.

أما القصة الثالثة ، فهي تحمل داخلها أسوأ ما تفرزه الحروب، هي قصة أسرة الجد الكفيف وابن وزوجته وحفيدة، تجد في الموسيقى سبيل الدفاع عن نفسها، فهي تحمل بيدها آلة الفلوت، تعزف عليها، وتتفاعل من خلال الأصوات الصادرة منها، مع كل ما حولها، وكل من حولها، في إشارة من المؤلف والمعد أن الفن هو الطريق للخروج، وهذه الأسرة تعيش  وسط مجموعة، اختارت أن تجد طريقاً للهروب من الاشتراك في الحرب، بأن تقوم بتشويه أطراف الذكور حتى لا يقبلوا في التجنيد، الذي فيه شرف الدفاع عن الوطن، حيث يتحول الهروب من خدمة الوطن، ليكون هو الحل، وتعاني تلك المجموعة من عدم توافر سبل الحياة، وكسب العيش، فتعيش على أكل بعضها البعض، وتتغذى على الأطراف المقطوعة.

نتيجة لخطأ تحمل زوجته بطفل، و بقدر ما يحاسب نفسه على هذا الخطأ، يصدر الجد أوامره بأن تقطع يد الطفل، وأعتقد هنا تتولد قصة رابعة  نسجتها الممثلة باقتدار، فهي شاءت أن تخلق لنا الروح في دمية ملفوفة بأقمشة، تتفاعل معها كأنها أبنها، تدافع عنه رغبة في التفاؤل، على أمل أن  تتوقف الحرب عندما يكبر، فلا يظل يحمل علامات التشوه، أملاً في أن يحمل الغد الأفضل، وتحارب بشراسة، حتى تفكر في الهروب، فيرفض من بالخارج هروبها، بل يستولون على ذراعها من أجل سد الرمق، وتعود مدافعة عن طفلها لآخر لحظة، لدرجة تحبس أنفاس المتفرج، عند قيام الأب بقطع ذراع طفله.

وبالانتقال إلى عناصر الفرجة المسرحية، كوننا غير ملزمين كمتفرجين بقراءة الثلاث قصص المأخوذ منها العرض، فنحن أمام نص للمعد، وكونه هو نفسه المخرج، فأنت أمام دهشة في التناول الجيد لثلاث حكايات قاسية، أثَّرَتْ فيها الحروب، ولكنها مُقَدَّمَةٌ لك داخل نسيج واحد، حيث تشاهد الممثلين جميعاً أمامك، تتفاعل مع القصص الأخرى أثناء حدوثها ولا تنفصل، وكأنهم جميعاً يقومون بتمثيل الحكاية، وهذا يحسب للمخرج، ولكن تقف حائراً أمام مقدمته التي لجأ فيها إلى فيلم فيديو معد مسبقاً لحياة جميلة هادئة، تقطعها أصوات معركة وقذائف، ليفتتح العرض، وبين  تطويل غير مبرر في إظهار أثر الحرب على الحياة، وبين الحكايات التي تؤكد ذلك، وكان من الممكن أن تختصر، كي يستمتع المشاهد بالصورة المسرحية، التي تؤكد التأثير النفسي وهو المطلوب، وهنا كمشاهد لا أحتاج إلى تأكيد دمار الحياة من خلال الحروب، لكن المعد أخرج العمل، وهو يقوم بالإعداد.

لذا تجد تطويلاً مبالغاً فيه، من خلال الحوار شبه المتكرر من أصحاب الحكايات، قبل أن تدخل في أحداث الحكايات، كل منها على حدة، فأنت تسمع نفس الجمل من الممثلين أكثر من مرة، وفي نهاية العرض إصرار أيضاً أن يؤكد لك أن الحرب دمار بعد نزول شاشة عرض الفيديو، بأن يُدْخِلَ الممثلين من وراء الشاشة في مشهد سلويت، رافعين أيديهم في حركات توحي بأنهم يطلبون النجاة والإغاثة، وكأنه لم يكتفِ بما قدم، وهذا يحرمك من الاستمتاع بما قدمه من عمل جيد، ويحرمك أيضاً من أغنية النهاية المعبرة، والصوت المعبر الذي قام بإهدائه للعمل كلٌ من الفنانة: نجلاء سليمان والفنان آسر علي، الذي قام بدور العائد.

المخرج يعود ليستخدم أفلاماً مصورة أيضاً، وأعتقد أن هذا تطويل لا لزوم له، وهنا أستخدم حقي كمشاهد، يستحق أن يُحْتَرَمَ ذكاؤه في أنه بالتأكيد وصلته جرعة كافية لا يوجد فيها أي طاقة إيجابية، سوى مقاومة فاشلة من أم تدافع عن وليدها، وابنة تحاول المقاومة بالموسيقى، لكنها محاولة ضعيفة جداً، لم ينجيها سوى حضور الممثلة الشابة التي لا حوار لها تقريباً..

أما عن الحركة

 فهي بها من المشقة على الممثلين، ما يجعل البعض منهم يفقد جزءاً من تركيزه، نتيجة وجود مستويين من الحركة، وصعود لسلالم عالية، ونزول من منحدر على شكل سقالة، مثل التي تستخدم في البناء، وجعل المخرج المنطقة العليا دوماً هي منطقة نسج المؤامرات، والتردد في اتخاذ القرار، أو محاورة النفس، وهذا يحسب له كونه يؤكد فكرته أن اليد الأقوى في ظل الحروب هي الأعلى، والانحدار يأتي من هذا التآمر.

الديكور

جاء مناسباً لما طلبه المخرج، وأعتقد أن مهندس الديكور عبر عن الدمار ببساطة، وجاءت الملابس معبرة بشكل جيد عن الحالة المطلوبة.

وأيضاً دلل المكياج على كل أسرة بشكل التشوهات الموحدة للأسرة، بما يناسب دورها.

وكذلك كانت الإضاءة معبرة، دون استعراض للإمكانيات، حيث تنساب في هدوء، لتعبر عن المطلوب منها.

أما عن التمثيل

فيجب أولاً أن نُحَيِّيَ الجميع على المجهود الشاق في الصعود والنزول، وخاصة النزول على سقالة، يجعلك كمشاهد تدعو من الله ألا يصاب أحد اثناء نزوله.. طبعاً لعلمك أن الديكور في مسارحنا لا يتم تركيبه إلا متأخراً، بمدة لا تكفي للتدريب على التعامل معه.  

ونجد أن مبارزة فنية رائعة بين الثلاثي، وهم الفنانة إيناس المصري … الأم، وإيمان مسامح  … الزوجة ـــ وخاصه في مشاهد المؤامرة، والصراع الداخلي للأم، وسلطة الزوجة التي أصبحت تتحكم في المنزل والجميع ـــ والعائد الفنان آسر علي، ورغم إمكانياته القوية، وصعوبة الحركة بالمركبة، التي تشبه مركبة حربية مشوهة أيضاً، جعلها جزءاً من جسده باقتدار، وأحسن استخدامها، لكنني أجده مشتتاً في بعض الأحيان، وهذا لعبء تنفيذ الحركة في مناطق متتابعة، بين الصعود إلى المستوى الثاني، وطبعاً يدخل في مركبة شبيهة، لأنه بالطبع يصعب نقل المركبة إلى أعلى.

وبسرعة يدخل إليها رغم اختلاف طريقة التعامل، لاختلاف تفصيل المركبة العليا عن السفلى، مما جعلني أعتقد أن هناك قصداً للاختلاف، ولكن لم أجد مبرراً، قد يكون ظروفاً إنتاجية بالطبع، ولكن أداء الممثل المتميز، جعلني أتناسي هذه التفصيلة، لتمكنه الواضح من الشخصية.

أما أبطال القصة الثانية.. وهي قصه العروس المتشحة بالسواد، فنجد أن هناك فرقاً في الأداء بين الفنانة وفاء عبده (العروسة) وبين الفنان إبراهيم الزهيري (العريس)، وذلك لشعوري أن الفنانة وفاء تشعر بالملل لجمود حركتها معظم الوقت، ورغم قصدية المخرج هذا، ويحسب له توقف الزمن، وشاعرية العريس، وتشتت ذهنه، وأعتقد أن الأداء قابل للتحسن، لعلمي أنني أمام ممثلين محترفين، لهم باع طويل في المسرح، ومشهود للفنانة وفاء بالقدرة على أداء الشخصيات المتنوعة.

ونقف طويلاً أمام القصة الثالثة.. الجد فنان المسرح محمد دياب، وقد شاهدته مسبقاً في عدة أدوار، وأعتب عليه أن دور الكفيف، يحتاج جهداً أكبر في الحركة وتفصيلاتها، ويمكن أن أكون منحازاً لدور الكفيف، لعلمي، وعملي معهم سنين طويلة، ويستفزني عدم دراسة تفاصيل الكفيف، أبسطها أن الكفيف يستخدم حواسه، وخاصه اللمس والسمع، ودوماً تسبق العصا جسده، لكي يقتنع الجمهور، فنجده على مستوى التمثيل، والتعبير عن الحوار في تألق كبير، لكن في حركته ينسى أنه كفيف في كثير من الأحيان.

يأتي دور (أبو دراع) الفنان طارق شرف.. الذي بذل مجهوداً يستحق الشكر في تعامله مع إعاقة ذراعه، وإعاقته في مواجهه سلطة الجد، وشعوره المقنع بمدى فداحة خطأ أنه وهب لهذا العالم طفلاً في ظروف غير مناسبة، وتردده بين طلب الأب، وشعور ابن الابن لجد قاس، وزوجة مدافعة بشراسة عن وليدها، وينفذ رغبه الجد في فصل ذراع ابنه، والتي استولت على مشاعري بالكامل، ومشاعر المتفرجين الذين تفاعلوا لدرجة كبيرة، مع لحظة فصله لذراع وليده.

ثم يأتي دور الابنة الفنانة الشابة مريم سعيد.. والتي ملأت المسرح بحركتها، وتوحدها مع الآلة، التي أجادت التعبير بها، رغم عدم وجود حوار، لكنها تفوقت بخبرة فنانة تسبق سنها الصغير إلى حد ما، وهنا نقف أمام الأم، والتي قامت بهذا الدور الفنانة مي رضا.. والتي استطاعت أولاً إقناع المشاهد، بأن هناك طفلاً، رغم أنها تلف دمية بلفة من القماش، ولكن تفاصيل تعاملها مع لفة القماش، تجعلك تشعر أن هناك طفلاً بالفعل.. يتحرك.. ويتأثر.. وتتأثر به بتعبير وجه، وحركة، وإصرار، وأداء تمثيلي محترف، فهي الأم الشرسة المدافعة بقوة، وهي الحنون في تعاملها مع الابن، هي طاقة تحمل الأمل في الغد، وتحاول أن تبثه لباقي أفراد عائلتها المهزومة،  تحية خالصة لها، فهي حاضرة دوماً طوال العرض.

وأكرر التحية للمخرج الذي عمل مع الشخصيات بجهد، ووعي، وحركة رغم قسوتها، ولكنها خلقت صورة مسرحية جيدة، وممثلين قاموا بأداء واعٍ، والتحية لطاقم العمل وراء الكواليس وهم: علياء عبد الخالق – ونورهان سمير – وسيادة نايل.

يظل المجد للمسرح

ملحوظة مهمة: قررت الكتابة بعد مرور أسبوعين على مشاهدتي للعمل، وهذا يعني أن العمل لم يترك ذهني، ويستحق بالفعل المشاهدة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

★ مخرج مسرحي – مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى