وليد خيري: أنطون تشيخوف وبستان الكرز..ثورة صامتة في البناء الدرامي ومرثية الزمن الزائل.


وليد خيري★
تعد مسرحية “بستان الكرز” التي كتبها أنطون تشيخوف في الفترة ما بين 1903 و 1904 وتوجت بها مسيرته الأدبية القصيرة والمكثفة، واحدة من النصوص المؤسسة للدراما الحديثة. إنها ليست مجرد قصة اجتماعية عن أفول طبقة الأرستقراطية وصعود الطبقة البرجوازية في روسيا القيصرية، بل هي وثيقة فنية رائدة أعلنت قطيعة واضحة مع التقاليد المسرحية السائدة في القرن التاسع عشر. لقد تمرد تشيخوف على البناء الدرامي الكلاسيكي، رافضًا الحبكة الصارمة، والصراع المباشر، والشخصيات النمطية، ليقدم بدلًا من ذلك دراما نفسية عميقة تتكشف في تفاصيل الحياة اليومية وفيما يعتمل داخل نفوس الشخصيات.
ومن أبرز الأسئلة التي يثيرها هذا النص العظيم هو ذلك المتعلق بتغييب الحبكة وتصاعد الأحداث، وهو خيار فني متعمد يعكس رؤية تشيخوف للحياة ذاتها. لقد كان هدف تشيخوف هو تصوير الحياة كما هي، حيث لا تقع الأحداث الحاسمة بضجيج في مركز المسرح، بل تسير الحياة بهدوء على السطح بينما تتخذ القرارات الكارثية في الخلفية.
تشيخوف والقطيعة مع البناء الدرامي التقليدي: الفعل غير المباشر
يكمن جوهر ابتكار تشيخوف في رفض القوس الدرامي التقليدي الذي يعتمد على تصاعد الفعل والوصول إلى ذروة مادية وحل حتمي. فبدلًا من تقديم دراما تقوم على الأحداث الساخنة والنتائج المباشرة، قدم تشيخوف “مسرح الحالة”، حيث التركيز على ردود الفعل النفسية للشخصيات بدلاً من الفعل المادي نفسه.
يظهر هذا الرفض في تقنية “الفعل غير المباشر”، وهي ميكانيكا درامية تفكك الحبكة الكلاسيكية. إن الحدث الأهم والأكثر مصيرية في بستان الكرز هو بيع الضيعة بالمزاد، ولكن هذا البيع لا يحدث أمام الجمهور. بدلاً من ذلك، ننتظر مع العائلة في الفصل الثالث بلهفة وقلق، بينما يتم حسم مصيرهم بعيدًا في المدينة، ثم يعود التاجر لوباخين في نهاية الفصل ليعلن النتيجة بعبارته الدرامية “أنا اشتريته”.

إن اللحظة الدرامية الحقيقية في المسرحية ليست الحدث الاقتصادي (البيع)، بل هي العواقب النفسية والاجتماعية المترتبة على هذا الإعلان. إنها الانهيار الصامت للسيدة رانيفسكايا، والفرح الهستيري الممزوج بالأسف لدى لوباخين، وحركة فاريا التي تلقي بمفاتيح البيت على الأرض معلنة استقالتها من دور ربة المنزل. هذه الردود، التي تتشكل من المشاعر الداخلية، هي ما يشكل جوهر الفعل الدرامي التشيخوفي.
لقد فعل تشيخوف ذلك عمدًا ليحول تركيز الجمهور من سؤال ماذا سيحدث؟ إلى سؤال كيف سيشعرون؟ أو ماذا يعني هذا؟. إن تجميد الفعل المباشر ومنعه من التحول إلى ميلودراما سطحية يمنح الدراما عدم التحديد ويسمح بتوسيع وعي القارئ أو المشاهد.
بالإضافة إلى ذلك، اعتمد تشيخوف على التفاصيل العرضية وغير الضرورية للحبكة. فبينما يشتد القلق حول البيع، يهرب جايف إلى وصف ضربات البلياردو أو التحدث إلى الدولاب القديم، وتهتم لوبوف أندرييفنا بقطع ذهبية تعطيها لعابر سبيل. هذه الأفعال، التافهة والسخيفة في ظاهرها، ليست سوى انعكاس لآلية الدفاع النفسي التي تستخدمها الشخصيات للهروب من مواجهة واقعها الكارثي، مما يضفي على مأساتها طابعًا كوميديًّا عميقًا بدلًا من التراجيدي المباشر.
إذا كان تشيخوف قد غيب الحبكة التقليدية، فقد استعاض عنها ببناء موسيقي معقد للنص، يعتمد على الرمزية السمعية واللغة الداخلية التي لا تقول ما تعنيه. وقد تجلى هذا الابتكار في مفهومين مركزيين: النص الفرعي والصمت.
النص الفرعي (Subtext): لغة المشاعر غير المعلنة
يعد النص الفرعي الأداة الأدبية الأبرز لتشيخوف ومفتاحه لفهم الواقعية النفسية. إن حوار الشخصيات يبدو في معظمه عاديًّا، متقطعًا، ويتحدث عن تفاصيل مبتذلة (الطقس، الأكل، الشاي). لكن هذا الحوار السطحي يخفي تحت طبقاته صراعات نفسية وعاطفية عميقة. فالشخصيات تعجز عن التعبير عن مشاعرها الحقيقية أو تختار تجنبها؛ خوفًا من المواجهة. إنها تتحدث حول الموضوع، لا عنه.
تظهر أزمة التواصل هذه بحدة في العلاقة بين التاجر لوباخين وفاريا. الجميع يتوقع زواجهما، وفاريا تتوق إلى هذا الارتباط وتغار من أي انتباه يقدمه لوباخين لأمها. ومع ذلك، يدور حوارهما باستمرار حول الأمور اليومية: العمل، مفاتيح المنزل، ترتيبات السفر. في اللحظة الحاسمة التي يفترض أن يتقدم فيها لوباخين لخطبتها في الفصل الرابع، يتبادلان الصمت، ثم ينشغل لوباخين فجأة بأعماله، تاركاً العلاقة غير مكتملة. هذا الفشل في التواصل هو ما يحدد معالم الدراما التشيخوفية، حيث يسعى الجميع للتفاهم لكنهم يعجزون عن التعبير الصادق، مما يجعل الحياة اليومية تبدو مرثية محزنة للإحباط والرغبات غير المُحققة.
الوظيفة البراجماتية للصمت
لم يكن الصمت في مسرح تشيخوف مجرد توقف مؤقت أو فراغ في النص، بل اكتسب وظيفة براجماتية جوهرية. إنه وسيلة للتعبير عن المشاعر المكبوتة، الاستقالة، خيبة الأمل، أو عدم اليقين الوجودي.
عندما يستخدم لوباخين، ممثل الطبقة الصاعدة، الصمت والتحفظ أثناء مفاوضاته مع رانيفسكايا، فإنه يؤكد ضمنيًّا سلطته المتنامية عليهم. إنه صمت القوة الاقتصادية في مواجهة الثرثرة الأرستقراطية العاجزة. وفي المشهد الختامي، يسيطر الصمت على لحظة مغادرة العائلة، وهو صمت جماعي يجسد الاعتراف الضمني بعصر ولى إلى غير رجعة، معلنًا بداية مستقبل غير مؤكد.
لقد كانت براعة تشيخوف في توظيف الصمت هي القوة الدافعة وراء تطوير نظام ستانيسلافسكي للتمثيل في مسرح الفن بموسكو. فالصمت التشيخوفي دفع المخرج والممثلين للبحث عن الحقيقة العاطفية والواقعية النفسية، وكيفية التعبير عن هذه العواطف غير المنطوقة، مما جعل مساهمة تشيخوف حجر الزاوية في فن التمثيل الواقعي المعاصر.
التراجيكوميديا وفلسفة الشخصية الرمادية
تعتبر بستان الكرز نموذجًا أصيلًا لتحطيم التصنيفات الدرامية التقليدية، بدمجها الرائد بين الكوميديا والمأساة لتقديم رؤية شمولية للحياة. وقد أصر تشيخوف شخصيًّا على تصنيف المسرحية على أنها “كوميديا في أربعة فصول”، بل وادعى في بعض الأحيان أنها “مهزلة” (Farce)، وهو ما أثار خلافًا حادًا مع مخرجها الأول قسطنطين ستانيسلافسكي الذي أخرجها كتراجيديا مأساوية، مما أغضب تشيخوف.
إن إصرار تشيخوف على الكوميديا ينبع من رؤيته العميقة للعبثية التي تحكم حياة شخصياته. فالمأساة الكبرى (فقدان الثروة والمكانة) تتزامن مع أفعال تافهة ومضحكة (هوس جايف بالبلياردو، حوادث يبيخودوف المتكررة). هذا التناقض هو ما ينتج “التراجيكوميديا”، وهي رؤية ترى الحياة كمزيج معقد من السخف والأسى في آن واحد، رافضة التقسيمات الصارمة.
إن هذا المزج مرتبط ارتباطًا وثيقًا برفض تشيخوف لـ “الميلودراما” ورفضه تقديم “أبطالًا أو أشرارًا” واضحين. شخصيات تشيخوف هي شخصيات رمادية معقدة وذات دوافع مختلطة.
رانيفسكايا: ليست بطلة تراجيدية كلاسيكية. إنها مبددة، تعيش في الأوهام، وتستمر في تبذير المال بتهور (كإعطاء قطعة ذهبية لعابر سبيل). هذا العجز هو جزء من الشلل الكوميدي الذي أصاب طبقتها. ومع ذلك، فإن أسى فقدانها لبستان الكرز وتذكرها لابنها الغريق يثير تعاطفًا عميقًا ومحزنًا.
لوباخين: هو رجل عملي ناجح، يمثل قوة التقدم الاقتصادي. شرائه للضيعة التي كان أجداده عبيدًا فيها يمثل انتصارًا تاريخيًّا. لكنه ليس شريرًا؛ بل يشعر بالأسى والألم على عجز رانيفسكايا ويذرف الدموع. إنه تجسيد للتغيير الإيجابي الذي يخلف خسائر حادة ومؤلمة.
تروفيموف: “الطالب الأبدي” يمثل المثقف الروسي الذي يمتلك وعيًّا نظريًّا حادًا بالظلم الاجتماعي. ومع ذلك، يوجه إليه تشيخوف نقدًا لاذعًا، فخطاباته المثالية حول المستقبل المشرق تتعارض مع حياته الشخصية العاجزة عن أبسط الأفعال (كالبحث عن خُفه). إن هذا التناقض يحافظ على الموضوعية التامة في نقد الجمود الفكري الروسي.
هذا التقديم لشخصيات رمادية، حيث يكون التعاطف ممكنا حتى مع أكثرهم تهورًا، هو ما منح الدراما التشيخوفية المرونة المنهجية.
بستان الكرز كذاكرة مثالية وتاريخ عبودية
البستان هو مركز الثقل الرمزي للمسرحية. إن حجمه الهائل غير الواقعي، وعدم جدواه الاقتصادية بعد ضياع الوصفة القديمة لمربى الكرز، يؤكد أن أنه رمز خالص للماضي أو الذاكرة المثالية.
تكمن قوته في دلالته المزدوجة والمتناقضة: بالنسبة لرانيفسكايا، يمثل البستان ذكريات طفولتها وطهارتها الشخصية، فهي ترى فيه شبح أمها. أما بالنسبة لتروفيموف، فهو يمثل تاريخ القسوة والعبودية، حيث يرى وجوه الأقنان الذين ماتوا في سبيل زراعته. إن قطع البستان في النهاية، الذي يمثله صوت الفأس المكتوم، هو تفكيك عنيف وضروري لذلك الماضي المعقد: الجميل في مظهره، والقاسي في جوهره.
صوت الوتر الممزق: إعلان عن انقطاع مجتمعي
تعد الدلالة الغامضة لصوت “وتر تمزق” الذي يُسمع مرتين في المسرحية، إحدى أكثر اللحظات الرمزية في النقد التشيخوفي. هذا الصوت، الذي يصفه البعض بأنه يشبه سطل وقع بعيداً في المناجم أو مالك حزين، هو صوت يرمز إلى انتقال مجتمعي ضخم، وهو إعلان عن تمزيق نسيج الواقع الاجتماعي.
يؤكد فيرس، الخادم العجوز، دلالة هذا الصوت عندما يربطه بالصيحات التي سبقت إلغاء القنانة. وبذلك، يعمل الصوت كمجاز صوتي عميق، يعلن عن نهاية حقبة لا رجعة فيها، مما يضفي على المسرحية نغمة مأساوية كارثية وهادئة في آن واحد.
تتجسد قمة المأساة التشيخوفية في المصير النهائي للخادم العجوز فيرس (87 سنة)، الذي رفض التحرر من القنانة وبقي مخلصا لسادته. إن نسيانه وتركه وحيدًا في البيت المقفل في المشهد الأخير ليس مجرد خطأ عابر، بل هو التخلي الرمزي للجميع -سواء الأرستقراطية المستهلكة أو الطبقة الجديدة العملية- عن قيم الماضي وولائه المطلق. يرقد فيرس بلا حراك، ليصبح الضحية المأساوية المنسية للتغيير الاجتماعي، بينما يُسمع صوت الفأس يقطع أشجار الكرز، مما يربط مصيرهما ببعض: فقدان البستان ونسيان فيرس كلاهما ثمن التمهيد للمستقبل.
الإرث التشيخوفي: مؤسس الواقعية النفسية ورائد العبث
إن تغييب تشيخوف للحبكة التقليدية وتصاعد الأحداث كان جزءا من ثورة منهجية أعمق، أثرت على المسرح العالمي بأكمله.
لقد كان عمله على مسرحياته في مسرح الفن بموسكو هو الحافز الأساسي الذي دفع قسطنطين ستانيسلافسكي لتطوير نظامه للتمثيل، والذي يُعرف اليوم بـ “الواقعية النفسية”. إن عمق شخصيات تشيخوف واعتماده على النص الفرعي دفع ستانيسلافسكي إلى إنشاء نظام يركز على الحقيقة العاطفية الداخلية وكيفية التعبير عن المشاعر المكبوتة، مما جعل تشيخوف وستانيسلافسكي معًا من أهم مؤسسي فن التمثيل الواقعي المعاصر.
علاوة على ذلك، يُنظر إلى تشيخوف على أنه مؤثر عميق ومؤسس غير مباشر لـ “مسرح العبث” الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في أعمال صامويل بيكيت. فالشخصيات التشيخوفية تعيش في حالة من الجمود الوجودي، وتنتظر الحلول دون اتخاذ أي فعل حاسم، وهي تيمة تتقاطع مع مفهوم “الانتظار” في مسرح بيكيت. إن استخدام تشيخوف للحوار غير المباشر وكبت المشاعر وراء المجاملات السطحية مهد للغة المنفصلة والمتقطعة التي ميزت مسرحيات ما بعد الحداثة التي تتأمل لاجدوى الوجود.
لم يغب تشيخوف الحبكة وتصاعد الأحداث عن ضعف فني، بل كان خياره دقيقًا ومنهجيًّا ليحقق واقعية أعمق. لقد قدم رؤية فنية جريئة حيث لا يوجد صراع خارجي واضح، بل صراع داخلي هائل بين الشخصيات وذاكرتها، وبين آمالها وتفاهة واقعها اليومي. إن هذا التركيز على الإنسان الناقص في زمن ناقص، وعلى العواقب النفسية للتاريخ بدلًا من وقائعه المادية، هو ما يرسخ بستان الكرز كعمل خالد، يوضع جنبًا إلى جنب مع إبداع شكسبير وموليير، ويستمر في التجدد على خشبات المسارح العالمية.




