شعر

شيماء مصطفى: لماذا ” شوقي الأخير زمانه”.

شيماء مصطفى

حين يخصص أحد الكتّاب منجزًا عن كاتبًا أو شاعرًا بعينه، أتساءل : هل تسلل هذا الكاتب أو ذاك الشاعر إليه في منامه لينصفه؟ أم أنه كان من تلاميذه وآثر أن يكتب عن شيخه/ معلمه أو رائده؟ أم أنه تأثر به ، وسواء كان هذا أو ذاك فإنني أفضل أن يوضح لي الكاتب سبب الاختيار.

ويركز كتاب “شوقي الأخير زمانه” الصادر عن منشورات اختلاف 2025 للكاتب السوداني عمرو منير دهب على إعادة إرث أمير الشعراء أحمد شوقي للمشهد الثقافي باعتباره أحد أهم أعمدة الأدب العربي في العصر الحديث.
وقد استهل الكاتب منجزه بإيضاح سبب اختياره لشوقي دون غيره لتناوله في كتاب حيث إن شوقي والمتنبي شكّلا جناحين لبداياته الأدبية، بالإضافة إلى كونه مدينًا لهما بإلهامه.
ولمن يتساءل لماذا شوقي الأخير زمانه ، أو بالأحرى لماذا لجأ الكاتب إلى استعارة جزءًا من بيت  شعري لأبي العلاء المعري لوصف شوقي ، فالأمر يتجاوز بيت شعري إذ أنه ود لو يصفه بـ”المعجز” اقتداء بكتاب أبي العلاء ” معجز أحمد” في شرح ديوان المتنبي.

وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ

لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل

في أدب مدرسة الأحياء والبعث والتي أسسها محمود سامي البارودي آثر شوقي باعتباره تلميذ البارودي النقل عنه والنهل من معين علمه عن طريق المشافهة متفقًا مع عبد المحسن الكاظمي وحافظ إبراهيم ومختلفًا عن شكيب أرسلان ومعروف الرُصافي واللذان تعلما بالمراسلة.

وتحت عنوان” ونعم شعر المناسبات ” تصدى الكاتب للدفاع عن شوقي أمام من اتهموا بأنه شاعر مناسبات، إذ يرى أن الشعر ليس تملقًا للسلطة، إذ أنه ينظمها لوصف حدث وطني، وهذا لا يعيبه ولا ينتقصه.
وفي “قل لي نُصير وما بعد الحداثة” تحمل القصيدة في ظاهرها مدحًا لكن القارىء المتأمل الواعي وفقًا لما يرى الناقد يجدها تتناول حياة الإنسان بشكل عام لا اللاعب الذي يحمل على كاهله عبء الحياة وصخبها، مما يدل على عبقرية شوقي وتمكنه وقدرته على مخاطبة الضمير الإنساني.
ولم تكن هذه التجربة الوحيدة التي نظمها شوقي للتحول من تجربة ذاتية إلى عامة..فهناك قصيدة “غربة وحنين” والتي هي ضمن المقرر الدراسي لطلاب الثانوية العامة كنموذج من مدرسة الإحياء والبعث ، إذ بدأها بحكمة وعارض فيها سينية البحتري:

اختلاف الليل والنهار ينسي..اذكرا لي الصبا وأيام أنسي..

وتحت عنوان ” حظ مستحق” يتحدث الكاتب عن الفرص والعوامل التي أسهمت في تشكيل أحمد شوقي إذ اُتيح له ما لم يتوافر لغيره ، حتى وإن اتيحت لغيره المهم أنه عرف كيف يستثمر ما وُهب من : موهبة شعرية فطرية، وجمعه بين الثقافة العربية والتركية ، ودراسته للقانون، وإتقانه للفرنسية، وتأثره بأعلام الشعر والأدب الفرنسي لامرتين وهوجو، وعلاقته بالقصر الحاكم والشعب، وتردده على المسارح الأوربية .أي أن شوقي نتاج تواشج الوعي والموهبة والاستمرارية والانضباط.

وقد انتقل الكاتب في ” عبقرية عابرة للبحور” للحديث عن براعة شوقي وقدراته على استخدام معظم بحور الشعر بما يتلاءم وروح العصر والموضوع الذي ينظمه إذ استخدم بحر المتدارك سريع الإيقاع، كما استخدم بحري الكامل والطويل، وبحري الرمل والوافر، وغيرهم من بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسس علم العروض ، ومثلما تنوعت بحور الشعر لديه تعددت الأغراض لديه: من مدح ورثاء ومناسبات وغزل وقصص الأطفال وغيرهم بل أنه جدد في بعضها واستحدث بعضها، وفي هذه الجزئية على وجه التحديد لم أجد النماذج الشعرية المدرجة كافية لتغطية أغلب الجوانب سواء البحور التي نوع شوقي في استخدامها وفقًا لتنوع الأغراض.
كما تناول في ” مفترق الطرق” عن خيارات شوقي السياسية الواضحة، فهو يميل للسلطة الراهنة دون أن ينكر أيادي السلطة السابقة.
وعن سر بقاء شوقي وخلوده وصموده فيقول أنه مزج بين الطبع المحفوف بالإلهام والصنعة المنبثقة عن وعي . فضلًا عن إدراكه بضرورة توازن وتكاملية العلاقة بين اللفظ والمعنى .
وفي تساؤل للكاتب : هل يعيب النفاق شاعرًا؟ يؤكد لنا أنه رغم إجابته بنعم إلا أن الإجابة هذه بإمكانها أن تنسف قسمًا عظيمًا من تاريخ الشعر الغنائي ، إن لم تنسف ذلك التاريخ مجملًا.
كما يؤكد على أن الحكم النقدي على الفن من الوجهة الجمالية الخالصة يستعصى على الارتباط بالأخلاق، شريطة الاستماع إلى صوت الضمير النقدي مجردًا.

ما بين شوقي والمتنبي:

وفي مقارنته سواء المباشرة أو الضمنية بين شوقي والمتنبي من خلال إيضاح نقاط التلاقي بينهما من حيث الموهبة وغزارة الإنتاج وتنوع أغراضه واقتراع أبواب جديدة في الشعر .
يصف العلاقة بينهما بأنها “امتداد لا انقطاع”: إذ أن المتنبي شاعر الذات ، وشوقي هو شاعر الحياة والإنسانية، بالإضافة إلى أن شوقي أعمق فكرًا ، وأبعد مدى، وأوسع ثقافة ، وإذا كان المتنبي شاعر الحكمة على حد قول وصف بعض النقاد، فإن شوقي على حد وصف الكاتب أكثر غزارة ومادة وإنتاجًا وأشد آصالة.
وقد عرض الكاتب في “عيوب المتنبي التي تلافها شوقي” ترفع شوقي عن الاستسلام لسهولة الضرورات الشعرية، كما أوضح أنه وفقًا لما ذكر أحمد محفوظ أن شوقي كان يعرض مسرحياته الشعرية على المتخصصين لتدارك مشاكلها الدرامية ، لكنه لم يكن يعرض شعره الغنائي لثقته فيما يقدم، أما المتنبي فكان دائم الإنكار والتعالي إزاء ما أخذه النقاد عليه.
وإن كان المتنبي قد تميز بالتمكن اللغوي والفخر لكنه افتقر الجانب الإنساني والأخلاقي الذي فاقه فيه شوقي، حتى أن شوقي تلافى الغموض اللغوي الموجود عند المتنبي دون أن تفتقد نصوصه العمق .
وعن تناول النقاد لإرث شوقي بعد رحيله فيقول أنهم انقسموا إلى فريقين : فريق يبالغ في تمجيد شوقي، وفريق يفرط في الانتقاص من موهبته.
وفي ” شوقي والذكاء الاصطناعي” يؤكد الكاتب على عجز الذكاء الاصطناعي بخورزمياته على الإتيان بمثل ما كتب شوقي حتى وإن التزم بالوزن والقافية، فإنه لا يملك وجدانًا وروحًا يمكن مقارنتهما بآصالة إنتاج شوقي .

أما بخصوص شوقي وخصومه، فقد أوضح أن شوقي يرى وجود الخصومة أمرًا طبيعيًا لضمان البقاء والخلود، أي أنهم ساعدوه على ترسيخ فنه في وجدان الشعب، فضلًا على أن سماته الشخصية من حبه للهدوء والنظام والانضباط جعلته يترفع عن الصغائر، ويختلف عن غيره من الشعراء.
” لم يكن شوقي يصنع نجوميته، بل كانت النجومية تبحث عنه”

ومن أفضل التساؤلات التي تم طرحها في كتاب ” شوقي الأخير زمانه ” في الحديث عن عالمية شوقي  : هل العالمية تعني الترجمة والكتابة للآخر بلغته، أم التسلل إلى وجدان الإنسان بشكل عام، أم الحصول على جوائز عالمية؟
ليعود ويؤكد الكاتب لنا أن العالمية ليست أن يكتب بالعربية لغير العرب، بل أن يكتب للإنسان في كل زمان، أي أنه يصبح مؤثرًا على النطاق العالمي قاطبة بأدبه أو حتى بشخصيته الملهمة.

وقد سبق شوقي غيره من شعراء جيله في توظيف الرمز، كما أنه رائد المسرح الشعري : مجنون ليلى، قمبيز، علي بك الكبير ، مصرع كليوباترا، الست هدى.
كما تناول الكتاب الحديث عن شوقي باعتباره شاعر لم يقيده الشعر ولم يقولبه في فن واحد ، بل نجده يتقن النثر ليعبر به عن رؤيته الثقافية مقاليًّا وروائيًّا.

وبالرغم من أن الكتاب ينتمي إلى الدراسات النقدية والتحليلية إلا أنه قدم بطريقة مبسطة تقحم القارىء داخل النص وتجعله جزءًا منه، من خلال تساؤلات مباشرة يطرحها الناقد على جمهور شوقي المهتم بمعرفة ما وراء الكواليس من خلال اللجوء إلى بعض المصادر المتنوعة لتحري الدقة ورغم ذلك كنت أود أن أرى في نهاية الكتاب إشارة إلى المصادر التي اعتمد عليها بشكل مفصل وتوثيقي.

خلاصة القول الكتاب واحد من أهم الدراسات النقدية المعاصرة التي أعادت تسليط الضوء على إرث أمير الشعراء أحمد شوقي باعتباره ظاهرة فنية وإنسانية استطاعت الجمع بين الآصالة والمعاصرة وإن كان يشوبها بعض الغلو والإطراء المبالغ به لشوقي حتى وإن كان مدعم بالحجج.
ولكن هذا لا يمنع أنه كتاب ثري ومبسط لمن يريد من معلمي اللغة العربية في المراحل الثانوية الإطلاع عليه لمساعدتهم في التيسير على طلابهم فيما يخص مقرر الأدب الكلاسيكي.


★سكرتير التحرير .

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى