مسرح

كريمان سالم:”هل تراني الآن”فوضى خلاقة في مسرح الغرفة.

كريمان سالم

بسؤال ذكرني بلعبة الاستغماية، التي كنا نلعبها صغاراً، فنختفي عن الأنظار منتظرين أن يجدنا أحدهم، بدأ العرض المسرحي “هل تراني الآن” و لكن بوجهة نظر مختلفة، فالبطلة هنا تبحث عمن يراها ويتفاعل معها كإنسانة، وإن كانت استثنائية بالأفكار أو المشاعر والاهتمامات.
قُدِّمَ العرض ضمن العروض المشاركة بمهرجان إيزيس لمسرح المرأة في دورته الحالية على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، لم يكن العرض تقليدياً، بل قُدِّمَ بطريقة المسرح الدائري، لينقل الجمهور إلى منتصف الغرفة، فيصبح شاهداً على الأحداث متفاعلاً معها، توزعت ديكورات العرض بشكل دائري بجوانب الغرفة، لتتنقل الأحداث وتدور، وتأخد المشاهد في رحلة البحث عن الحقيقة ؛ حيث أُغلِقت غرفة العرض بستار بلاستيكي، أشبه بستائر مواقع الجرائم، إذن هي جريمة تُبحث، والجمهور شاهد ومحقق ومحلل لها!


يُفَجِّر العرض عدة قضايا اجتماعية ونفسية أصيلة ومعاصرة في ذات الوقت ، آثار التفكك الأسري على البطلة الوحيدة بلا أب وأم، فكُلٌّ له حياته بعد انفصالهما، وزواج الأم من آخر، وانشغال الأب مع عدم درايته بأحوال ابنته، كما يناقش مشاعر التهميش والاغتراب، فالبطلة هنا لم ترَ تفاعلاً متبادلاً بينها وبين زملائها بالعمل، ولا حتي جارتها، التي لم تتواصل معها سوى لمصلحة، غير مبالية برغبة البطلة في التأنس بها ، حتى ظهر زميلها الجديد، أول شخص بادرها بتحية الصباح، فوجدت لأول مرة من يراها.

كان للبطلة عالمها الخاص، اِهتمام صنعت به سعادة مؤقتة تكافئ به نفسها كل فترة ، تذكرة حفلة لفنانتها المفضلة، تدخر لتحصل عليها من فئة الvip وكأنها تحاول أن تخلق لها تميزاً حتى وإن كان زائفاً أو مؤقتاً.
تتفاعل البطلة مع الجمهور وتشاركه استعدادها لمقابلة زميلها الجديد ، تطلب من إحدى المتفرجات أن تختار معها لون طلاء الشفاه، ومن أخرى أن تساعدها في ربط تنورتها، وتحدد لها أن تربطها على شكل فيونكة ، فأخيراً هي تشعر باكتمال أنوثتها ، ولكن اللقاء جاء مُحبِطاً حين قابل زميلها حماسها بجمود ولا مبالاة، واعتراف بأنه معجب بأخرى.
إحباط غير متوقع يدفع بها لعودتها لصراعها النفسي بين الرغبة في الاعتياد والتأقلم، وأمنية أن يراها أحدهم ويشعر بها.

لم تنوِ القتل ولم تخطط له، ولكنها وجدته خلاصاً لكليهما ، هي وزميلها، حين لبَّى دعوتها لعيد ميلادها، لم تكن متوقعة حضوره بعد اعترافه بإعجابه بفتاة أخرى، جهزت حفلتها لها وحدها، وكان حضوره قدرياً؛ ليتحدث معها لأول مرة عن مشاعره الدفينة حول خوفه من الوحدة، ورغبته الدائمة في الانتحار، فلم تجد هدية تكافئ بها لفتة قدومه لحفلتها، إلا إنها تحقق له أمنية تراوده!
البحث عن الترند هو الحل، في شكل موازٍ لشخصية زميل العمل، تظهر شخصية المذيع الساخر برمزية الواقع الافتراضي، فيخرج تارة من وراء شاشة التلفاز، ويظهر في مشاهد كمعلق على الأحداث؛ ليحاور الجمهور في تفاصيل العرض تارة أخرى، ظهر أيضاً في شخصية المحقق بالجريمة والمزين لها ، على أنها الخلاص من حالة التجاهل ، حين تقتل وتصور الجريمة، ستصبح نجمة مشهورة على وسائل التواصل الاجتماعي ، كل الجرائد ستكتب عنها ، ولكنها شهرة مؤقتة، اِنتهت بحبس البطلة، وإن كان سجناً رمزياً بشفافية الخيال .

اِستطاعت مؤلفة العرض ومخرجته “لبني المنسي” أن تصنع فضاءً افتراضياً من الفوضى الخلاقة في حركة دائرية لدائرة القدر، حمل العرض فلسفة الخلاص من خلال الموت، و برعت في صياغة مشاعر الأنثى عندما تكون مهمشة ، اِختيار تقنية المسرح الدائري لم يكن عبثاً بل كان عملاً علاجياً للجمهور؛ ليتفاعل مع الأحداث، ويدور بكراسيه حولها، ولعل مشقة تلك الحركة كان المقصود بها إشراكهم بالمعاناة ، وجعلهم فرداً من أفراد الأحداث.

“ليديا فاروق” قدمت دور الفتاة والتي لم تكن تحمل اسماً ، فربما تكون أي شخص موجوداً خارج الغرفة أو داخلها، برعت “ليديا” في تقديم دورها بحضور ولياقة بدنية؛ حيث تنقلت بين الجمهور بخفة طفلة وطلة مميزة، وكما تنقلت بجسدها بخفة، تناولت المشاعر المختلفة للبطلة بتمكن عال.
الزميل الخجول ضحية العرض قام به “أبانوب بحر” وتميَّز بأدائه بين مرحلتي الحياة والموت ، لم يخلو الأداء من خفة ظل ظهرت في مشهد تمثيله الافتراضي لصوت والد البطلة، وهو على كرسيه المتحرك .
شخصية المذيع الساخر، رمز الغواية بالعرض قَدَّمها “ماركو نبيل” بقبول ملحوظ، وإدارة حوار جيد ولطيف مع الجمهور .

تعتبر السينوغرافيا بطلاً أساسياً في العرض؛ حيث تميَّز الديكور بالتنوع برغم بساطته ، من تنفيذ “ماري جرجس” وأبانوب بحر، كل جانب من جوانب غرفة العرض كانت مشهداً مستقلاً ، أخذت بعض الموتيفات فيه رقماً عشوائياً لشواهد لمسرح الجريمة، تنوع الديكور بين الرمزية والواقعية ، واستخدمت الستائر الشفافة في أكثر من مشهد، لتسمح بتحقيق المكاشفة، وفكرة المحاكمة النفسية للبطلة.
الموسيقى الحية كانت اختياراً ممتازاً لفكرة العرض ، الجمهور شاهِدٌ على صناعة العرض بجميع مكوناته، حتى الموسيقى المصاحبة للأحداث تصنع طازجة.
أما الإضاءة من تصميم “محمود الحسيني” فكانت أكثر من رائعة، اِستطاع أن يُعَبِّر عن كل الحالات الشعورية للأحداث، بتناغم بين درجات الأزرق الحالم والأحمر الثوري ولمبات الديسكو في مشهد الحفلة، مزج بين أكثر من لون؛ لِيُعبِّر عن حالة الصراع النفسي وتصاعد الأحداث .

الأزياء كانت منطقية ومتسقة مع روح العرض، بين الملابس التقليدية لطبيعة الشخصيات، وبعض الفانتازيا في اختيار الفتاة لشرابها الطويل المخطط، الذي ذكرني بفيلم me before you ربما كان إسقاطاً على رغبة البنت في الحصول على اهتمام وحب حقيقي غير تقليدي.
اِنتهى العرض بعد أن حصلت البطلة على بعض الاهتمام المؤقت، لتجد نفسها داخل سجن، توهمت أنه حريري يدور حولها من أسفل لأعلى ،حتى تغطت تماماً به، وكأنه شرنقة أولى تعود إليها كما كانت بالبداية.
“هل تراني الآن” سؤال نسأله دائماً حين نفقد شغفاً أو نحاول إيجاد من يشعر بنا ، سؤال دائرى يدور بأذهاننا جميعاً، ولن يكف عن الدوران!


★ناقدة مسرحية ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى