مسرح

حسام الدين مسعد: “تعفّن الدماغ ” فكرانية عربية تهدف إلى وعي أيدولوچي.

حسام الدين مسعد

“تعفّن الدماغ” ليس مجرد مصطلح يرتبط بالمحتوى الرقمي، بل يمكن أن يُستخدم لوصف حالة التدهور الفكري في أي مجال، فحين يُثار السؤال الوجودي الكاشف عن الرؤية المباشرة للواقع المسرحي الراهن في بيئتنا العربية،
والكامن في صيغته الاستفهامية (مسرح عربي؟ أم مسرح ناطق باللغة العربية ؟)، فإن هذا السؤال لايُعَدُّ من قبيل الكلام الأيديولوجي النظري، أو من قبيل الأوهام التي تستبدل نفسها بأمور واقعية تشوهها بما تنتجه حولها من عوالم خيالية متوهمة، فالفكرة التي نتعامل معها ليست فكرة مجردة، بل فكرة حية تسعى إلى توجيه سلوك المسرحيين العرب إلى إحداث التغيير بالوعي الأيديولوجي، القائم على منفعة خالصة باستعمال طاقة مخزونة وغير مستعملة لديهم، لكن كيف لنا أن نتحدث عن مسرح عربي له خصوصيته وهويته في ظل نظرية مستعارة، تستحضر نسقاً فكرياً يستهدف حجب واقع يصعب ويمتنع تحليله؟

إن هذا السؤال السالف يُبرِزُ ضرورة إعادة النظر في مفاهيمنا النقدية وتوسيعها لتشمل السياقات الثقافية الفريدة؛ كي ندرك أن التمسك بالمناهج الغربية دون تكييفها مع الخصوصيات المحلية، ربما يعيق الفهم العميق والإبداع الأصيل، إذ يظل المنهج المبتني على تفسيرات غربية أداة وليس رؤية ثابتة.
إن مصطلح “تعفّن الدماغ” يصف تدهور القدرات العقلية نتيجة الإدمان على المحتوى التافه أو غير المُحفّز فكرياً، لكن في أزمة المسرح العربي أراه يشير إلى احتقار العقل العربي لذاته، ومنتجه المسرحي، والانبهار بالآخر الغربي، وتبنّي خرافاته، ويتجلى ذلك في ما يشير المستشرقون والباحثون إليه، ويؤكده ويعترف به الباحث المصري د.سيد علي إسماعيل في كتابه الموسوم أثر التراث العربي في المسرح المصري المعاصر: من[أن الفن المسرحي وفد إلى البيئة العربية كفن جديد من الغرب على أيدي الرواد الأوائل أمثال: مارون النقاش، و أبو خليل القباني ….]، مما يعزز مصطلح تعفّن الدماغ، لكن هل ما أشار المستشرقون إليه في قراءة النصوص والإنتاجات المسرحية العربية، أنتهج منهجاً تحليلياً مختلفاً عن المقاربات المبنية على المنهج الغربي؟ أوهل اعتراف د.سيد علي اسماعيل، اِستطاع أن يتكيّف مع الخصوصيات المحلية؟

د.سيد علي إسماعيل

لقد استند المستشرقون إلى رؤية معيارية تستحضر النموذج الغربي دون اعتبار للخصوصية الثقافية المحلية، هادفين إلى بث بذور الشك في الذات العربية وزعزعة ثقتها في موروثها الثقافي العربي، و اعتراف د.سيد علي إسماعيل يركز على غياب الظواهر الدرامية في التراث العربي، معتبراً أن البيئة العربية، كانت تفتقر إلى شكل درامي أصيل، يمكن أن ينافس المسرح اليوناني أو الغربي، رغم أن الأشكال الاحتفالية الدرامية العربية متأصلة ومتجذرة في الأوساط الاجتماعية العربية في العصر الوسيط الإسلامي، إذ يقول محمد بن سليمان التنكابني: [التمثيل من مخترعات الدولة الصفوية (١٥٠١-١٧٢٦م)، ولما ظهر مذهب التشيع في بلاد إيران، وحكم الصفويون أمروا الذاكرين بإنشاد مصيبة سيد الشهداء (ع)، لكن الناس لم تكن تبكي لأن المذهب لم يترسخ بعد في نفوسهم، فاخترعوا التمثيل لعلَّ الناس تتألم من مشاهدة مصائب سيد الشهداء (ع) وترقُّ قلوبهم، وسُمي هذا العمل بالتعبئة، وهي بمعنى الاختراع أيضاً، وهذه التعبئة لم تكن موجودة في الأزمنة السابقة]، وربما إشارة التنكابني لاختراع التمثيل، تشير إلى تحوُّل الظاهرة الدرامية من مرحلة التمثيل الفردي إلى مرحلة الظواهر الاجتماعية، لأنه في العصر العباسي ظهر القاصُّ السردي أو الحكواتي، الذي انبثق منه فيما بعد المقلداتية، و المحبظاتية، الذين وصفهم المستشرق إدوارد لين بأنهم: [يُضحِكون الناس بِنكات هابطة مفسدة، وكان هؤلاء المحبظاتية يُشاهَدون في حفلات الزواج والختان في بيوت الكبراء، وأحياناً في ميادين القاهرة العامة]، ولعل دعوات د. علي الراعي، التي كشفت عن وجود مسرح شعبي مكتمل في مصر قبل ظهور مسرح مارون النقاش تضحد خرافة المستشرق لين، إذ يقول د. الراعي: [قد كان هناك طوال القرن التاسع عشر على الأقل دراما محلية تمامًا خالية من المؤثرات الأجنبية، التي أخذت تتعامل مع فن التمثيل في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، وما لبثت أن أثرت تأثيراً بارزاً على حرفية هذا التمثيل]، ويصف د. الراعي عروض المحبظاتية بأنها [كانت عبارة عن كوميديا انتقادية انتُزعت موضوعاتها من الواقع الحي المحيط بالممثلين والمتفرجين]، ولا ننسى ما أشار إليه د. يوسف إدريس في كتابه نحو مسرح عربي حين تحدث عن مسرح العلبة الإيطالية إذ يقول: [إنه مسرح صحيح وليس كل المسرح] في إشارة إلى تعدد الفضاءات، التي يُقدَّم فيها العرض المسرحي، وكذلك تنوُّع الجمهور المتلقي لعروضه.

د.علي الراعي

ورغم بزوغ قالب توفيق الحكيم العربي، الذي استمد شكله المسرحي من الحكواتية والمقلدين والمداحين، إلا أن المسرح بعلبته الإيطالية التقليدية، التي استوردها مارون النقاش بات القالب الثابت في منطقتنا العربية، وأصبح مقتصراً على فئتين من جمهور المتلقين: الأولى هي الفئة، التي تمتلك المال لشراء بطاقات العروض، والفئة الثانية هي أصحاب الاتجاهات المشتركة.

توفيق الحكيم

كل ما سبق يمكن أن يفسر لنا ظاهرة تعفّن الدماغ، أو النخبوية، التي سادت في الممارسة المسرحية العربية على مدى عقود، وأفضت إلى تماهي المسرحيين العرب الرواد مع إشارات المستشرقين وتبنيهم بالنتيجة للشكل المسرحي الغربي جهلاً وكسلاً دونما اجتهاد في إدراك سلسلته المعرفية وخلفيته الفلسفية، ودواعيه الاجتماعية، ومبرراته التاريخية.

-لقد طفح الكيل من هؤلاء أنصار الكلام الأيديولوجي المناصرين لمقولة (المسرح لا وطن له)، إذ تُعَدُّ هذه المقولة مجرد كلام أيديولوجي نظري لا وجود لمضمونه في الواقع، دون تحليل تطبيقي يُمَكِّنُنا من قياس الصحة والخطأ فيه، بالوعي الكاشف للتشكيك والإدراك من المسرحيين العرب، بوجود أيديولوجيا تخدعهم وتستغلهم في الغالب كل يوم أكثر، إذ تلعب دور الأنموذج الذهني، الذي يسهل عملية التجسيد لا عملية التغيير، فارتباط المفكرين العرب بإنتاج الفكر اليوناني بصفة عامة، وانبهار البعض بأفكار أرسطو بصفة خاصة دفع البلاغيين العرب ليس بالضرورة إلى رفض التأثير اليوناني، بل إلى مقاومته بإنتاج بديل عربي (نظرية الشعر العربي)، وهذا ما أكده شكري عياد من أن [العقل العربي لم يكن فكراً تابعاً، بل فكراً موازياً طور البيان العربي قياساً على النموذج الأرسطي].

ومن هذا المنطلق وكما ذكرت د. نهاد صليحة بكتابها نظرية العرض المسرحي في وصفها إلى مكان العرض: [أما المواقع المحايدة فهي أماكن مفتوحة، وخالية لا تميزها ملامح محددة ثابتة، ولا ترتبط بأنماط استعمال محددة، وفي هذه المواقع قد يُوجه العرض المسرحي جنباً إلى جنب مع أنشطة أخرى].

د.نهاد صليحة

إن ما أشارت إليه د. صليحة في تعريفها للمواقع المحايدة يدعونا إلى التخلي عن المبنى القديم الاتباعي، أو ما تم وصفه بالمواقع الدافعة، أو الأماكن، التي خُصِّصَتْ تماماً أو بصورة شبه تامة لهدف واحد، وهو تقديم العروض المسرحية، وهذه المواقع، التي اعتمدت في تأسيسها الشكل التقليدي للعلبة الإيطالية، والتوجه إلى المواقع المحايدة، التي تتشابه مع موروثنا العربي، فهذا ليس ترقيعاً بتغيير الجزء، وترك الكل في عملية التغيير صوب مسرح عربي، بل هو تغيير اجتماعي تفرضه ضرورة التكَيُّف مع الخصوصية الثقافية العربية، إذ إن قدرة المكان على التحوُّل المجازي بسهولة ويسر، تُوَلِّد الصراع الأبدي بين رغبة المؤدين المشروعة، في الحصول على مكان عام دائم يُخصص بصورة رسمية علنية وبين النموذج المثالي لمكان العرض المسرحي كفضاء محايد لا تحده ملامح مميزة ولا تثقله سمات ثابتة.
إننا نحتاج إلى ما أشار إليه رائد الاحتفالية العربية د. عبدالكريم برشيد كي ننهي ذاك الصراع الأبدي: [نحتاج إلى ذاك العمود المكلل بالزهور، الذي يتم زرعه وسط ميدان تتجمع الناس حوله، فيتحوَّل نظرهم إلى موضوع للفرجة يرون صورهم منعكسة في عيون الآخرين، فيحبون أنفسهم فتتوثق روابط الألفة بين الجميع، ويغدو البشر أنفسهم هم الاحتفال].

د .عبد الكريم برشيد

لكن كيف نعيش واقعنا الراهن بالفن ؟ ومازلت أدمغتنا متعفنة ؟ ومازالت تستلهم النصوص، والأعمال المسرحية السابقة، دون أن تكون وسيلة للإبداع، تحمل رؤية جديدة تضيف إلى النصوص الأصلية أبعاداً قيمية وفلسفية، تتناسب وأزمة المجتمع المستهدف، لكن في مسرحنا الناطق باللغة العربية كثيراً ما يتحوَّل هذا التناص إلى نسخٍ مباشرٍ يفتقد إلى أي معالجة نقدية، أو جمالية، تُعيد قراءة النصوص في سياقات محلية، في إشارة إلى معاناة القارئ العربي، وصراعه بين الأنا والأنا العليا، وبين المجتمع القديم، ومجتمع العولمة والسوشيال ميديا، والانبهار بمنجز الآخر الغربي .

إننا اليوم نواجه تحدياً يتمثل في التوفيق بين الحفاظ على هويتنا العربية، واستلهام المعالجات الجديدة من التجارب العالمية. بدلاً من تطوير القالب العربي الأصيل، بما يتناسب مع العصر، فاستهلاكنا المفرط للمحتوى التافه، أضعف الذاكرة، فتعفّن الدماغ وتناسينا (هنا والآن )والتي ينطلق منها العرض المسرحي؛ كي نعيش جميعاً هذا الواقع، هنا والآن بالتعبير عما بدواخلنا من مشاعر وأفكار .

لا أميل إلى إضفاء طابع الإجلال والعظمة على التراث العربي وثرائه، ولا أدعو إلى إعادة قراءة التاريخ وإعادة صياغته، أو تخيله وفق الراهن والواقع بزيادة ما أُنزِل منه إليه واستبعاد ما لا نقبله، لكني أسعى إلى فكرانية عربية، تقود الوعي الأيديولوجي إلى عملية تهدف إلى غرض نفعي خالص، هو تجديد التراث العربي المسرحي، ولا أعني ذلك الاصطلاح النظري للقديم، بل أعني تغيير الواقع تغييراً جذرياً بالقضاء على أسباب وأشكال المسرح الناطق باللغة العربية، إذ أن مهمة التجديد عملية لا نظرية، فهي المساهمة في البناء النظري للواقع بالقضاء على الأفكار الثابتة فيه، والأحكام المسبقة، التي لا يمكن أن تكون أساساً نظرياً لتغيير الواقع المسرحي العربي الراهن، فالعقل العربي لم يكن أقل عصرنة من العقل الغربي، ونقل المسرح اليوناني، أو التأثر به في حقبة زمنية ماضية يُحسب للعقل العربي، لكن هل يظل العقل المسرحي العربي عاجزاً عن إبراز أهم الجوانب التقدمية في مسرحنا تلبيةً لمتطلبات العصر من تقدم وتغيُّر اجتماعي؟ أعتقد أن العقل المسرحي العربي يحتاج إلى الانتقال من العلوم الإنسانية إلى الثقافة العربية، ومن الثقافة العربية إلى التغيير الاجتماعي والسياسي؛ كي يحلل الموروث القديم وفق ظروف نشأته، ومعرفة مساره في الشعور الحضاري، بالإضافة إلى تحليل البنية النفسية للشعوب العربية،بدلاً من بلوغ مرحلة تعفّن الدماغ، التي لن نستطيع أن نجابهها فيما بعد .


★ ناقد ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى