مسرح

أحمد حاجو: اليأس في نصوص” مطر يابس” المسرحية.

م.م أحمد طه حاجو★
يُعَدُّ النص المسرحي اللبنة الأساس التي يشاد عليها العرض المسرحي ، وبرغم أن مرحلة ما بعد الحداثة قد استغنت عن النص، وتم الاعتماد على الارتجال ، أو ترك الحرية للمخرج المسرحي أن يؤلف العرض ، عندها راح المخرجون يتبارون في تأسيس أساليبهم الإخراجية وفق رؤاهم ، فمنهم من أخذ فكرة أو جملة من نص عالمي كأن يكون ( لشكسبير أو إبسن أو تشيخوف ، … إلخ .) وراح يؤسس عليها عرضاً بأكمله ، لكن يبقى أن هناك حواراً مسموعاً، وما دام هناك ذلك الحوار المسموع على خشبة المسرح ، فهذا يدلل على أن هناك نصاً مسرحياً ، فالنص المسرح هو روح العرض وحامل لرسالة المؤلف، والتي سيتواءم ويتفاعل معها بعلاقة كيميائية ذلك المخرج دون غيره ، لينتج حياة مسرحية هادفة .
إن مجموعة النصوص المسرحية ( مطر يابس ) للكاتب المسرحي ( جاسم المنصوري ) هي المجموعة الثانية بعد مجوعته الأولى ( بزازين ) ، وقد احتوت على ثمانية نصوص مسرحية .
إذ يتمحور النص الأول، والذي حمل عنوان ( قربان ) حول الظلم بأبعاده الروحية والبايلوجية ، إذ يتجسّد حواراً فلسفياً بين ( قابيل وهابيل ) يناقش عدداً من القيم منها الحسد، الذي يُعَدُّ مأساة العصر، فهوأساس كل ما يمر به العالم من وضاعة وتراجع على كافة الأصعدة ، ورمزية هذا النص تكمن في اختيار رمزَي الظلم منذ فجر التاريخ ( قابيل وهابيل ) وقصتهما المعروفة ، إلا أن تلك القصة ما زالت تتكرر بصور متعددة ، فالقتل المجاني مستمر بصور وأشكال متعددة، وأصناف متطورة أيضاً ، فتارةً ( وباء ) وتارةً أخرى هجوم كوني على دول ، أو إرهاب ، أو تجويع … إلخ . من فنون الموت .
إن نص ( قربان ) يُعَدُّ صرخة ضد الواقع المريض والمجتمع اليائس البائس ، ومن خلال تلك الصرخة يدعو كاتبنا ( جاسم المنصوري ) الضمير الإنساني لعله ينهض من سباته .
اِستخدم ( المنصوري ) صوتاً ورجلاً طاعن في السن ، يائساً ليضبط إيقاع العرض وكأنه ( جوكر ) ( أوجست بوال ) فوجود الصوت في العرض يشّد انتباه الجمهور ويحافظ على يقظته ، من أجل التركيز على مسار الحدث والذروات .
أما في النص الثاني ( مطر يابس ) وهي ( مونودراما ) ناقش بها كاتبنا ( المنصوري ) عدداً من المفردات مثل ( مطر يابس ، مانيكان ، اِبن افتراضي ، السياسيين ، السجن ، الموت المجاني ، العفة ، الشرف ) تضمن النص حواراً بين الصوت ، والفتاة ؛ حيث إن الصوت بخطابه العقلاني والمحرض والمستفز لوعي الفتاة والمتلقي ، إذ أن أجوبته تثير تساؤلات المتلقي ، وبنفس الوقت أن خطابه مغلف باليأس والتشاؤم ، أما خطاب الفتاة فكان يمثل الوعي النقدي للواقع عبر امتلاكها حجة المنطق والإرادة ، وبهذا شكَّلا معاً صراعاً فكرياً متوازناً .
الفكرة العامة : فتاة تناقش الواقع بكافة إرهاصاته ومتغيراته الناتجة بفعل السياسات الجائرة ، فتناقش الأفعال الاجتماعية وظلم المرأة والنظرة الدونية لها ، وتنتقد ذلك المجتمع الذي لا يرى في المرأة سوى جثة جميلة لتفريغ شهوته ليس إلا .
إن جميع المؤشرات الواردة في النص لُخِّصت بمطر يابس ، ذلك المطر الذي يفترض أن يكون رمزاً للنقاء وغسل الذنوب كما كانت تحكي الجدات ، وتعبيراً عن الخير ، إلا أنه وبفعل الظلم بات يابساً يبلل الأجساد ليس إلا ، وأنه بات تعبيراً على توقف الخير في المجتمع بسبب طغيان الأنانية والكراهية وسيادتها فتيبست المشاعر، وتيبس معها كل شيء .
النص الثالث: ( الناجي ) وهو مونودراما ، يناقش القضية الحسينية والتضحية الكبرى وربطها مع الواقع الآني ، إذ تبرز الدعوة والتحريض للتحرك ضد الفساد والظلم، وتدعيم ذلك التحرك بوقوف الإمام ( الحسين ) ضد الظلم والطغيان .
النص الرابع حمل عنوان ( تراب مر ) بالغ به كاتبنا ( المنصوري ) في السرد في حين أن النص المسرحي يجب أن يعتمد لغة الأفعال لا السرد ؛ حيث يدور حوارٌ غير مترابط بين الفلاح والممثلة، يحيلنا إلى حوارات ( هارود بنتر ) في مسرحيته ( اللوحة ) فهي توصل الفكرة إلى المتلقي بطريقة الإشارات في الحوارات المتقطعة والمتقاطعة فيما بينها ، إذ إن الفلاح يتحدث مع نفسه، والممثلة تتحدث مع نفسها ليشتركا في توجيه فكر المتلقي إلى مكان ما ، يرومه الكاتب ، كما أن المحور الرئيسي في النص كان ( الخاتم ) وقد يكون تجسيداً للثقة، والتي أرادها السياسي والمخلص بالنسبة للمرأة، وإلى الشهيد .
أما النص الخامس، فقد حمل عنوان ( العطش بتوقيت الكوفة ) ؛ حيث استخدم كاتبنا تداخلاً بين الحدث التاريخي والواقع الحالي ، فرمزية العطش امتدت منذ واقعة ( ألطف ) إلى يومنا هذا ، وهنا العطش ليس بمعناه المباشر، بل بمعناه الرمزي ، فالواقع الحالي يعيش أزمات العطش الروحي على جميع الأصعدة والحاجة ، فالواقع يعاكس أي حالة من حالات الرخاء للغالبية .
النص السادس ( طاعون ) نصٌ تاريخيٌّ حقق ( المنصوري ) من خلاله حركة فكرية ممكن أن تنعش وعي القارئ والمتلقي للعرض المسرحي ، فقد أثار ذاكرته ويقظته ودعاه للترقب من خلال التداخل الزمني الذي زَجَّ به ( عبد الرحمن بن ملجم ) و( الراوي ) ؛ حيث جاء ( عبدالرحمن بن ملجم ) من الماضي إلى الحاضر في المشهد الأول ، ثم عاد به إلى الماضي ومعه الراوي في المشهد الثاني ، إن مثل تلك التقنيات، تحقق انتقالة على مستوى التفكير ووعي التلقي، عبر الخروج عن المألوف على مستوى مسار الحدث وتقنية المعالجة ، لكنها تنتج إقناعاً بمكنون البذرة المسرحية .
النص السابع ( دفن ) تتلخص فكرته حول شخصية رجلين يعملان على دفن الموتى ، وبسبب الملل يقترح أحدهما أن يلعبا لعبة ، وهي حفر قبر ليدفنا فيه السلبيات، التي أثَّرَتْ وتؤثر على حياتهما ، وأيضاً يرميان جميع الأمراض الاجتماعية والسياسية والنفسية …إلخ ؛ لتدفن دون عودة ، قد يصنف هذا النص ضمن مسرح ( اللامعقول ) فهو لا معقول ومعقوليته تكمن برمزية القبر، أي أنه يمثل التجاهل لكل الأفكار والذكريات السلبية، والتي بوجودها في الفكر والوعي تؤثر سلباً على استمرار الحياة ، ليحل محلها الفعل الإيجابي، والذي من شأنه الدفع باتجاه السمو والرفعة .
أما النص الثامن والأخير ( فجر هذه الليلة ) وهو ( مونودراما ) وهو يدرج ضمن النصوص التاريخية، فمحوره هو شخصية ( أبو عبدالملك مروان الثاني بن محمد ) ذلك الملك الظالم الطاغي، الذي يهرب من الجميع، لكن يدرك مصيره المحتوم، ألا وهو القتل .
عادةً في النصوص التاريخية عند مناقشتها على خشبة المسرح يفترض أن تكون هناك ضرورة قصوى ، وهذه الضرورة تفرض على الكاتب تحديثاً لذلك النص، ليكون لساناً معبراً على المرحلة الآنية، وبيئة الكاتب على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية … إلخ ، وهذا الربط لا يعني الانسلاخ من التاريخانية للنص، بل زَجُّ الومضات بين مسار حوارات بمسحات محدثة، ليحقق النص المسرحي صوتاً موحداً بين الماضي والحاضر ، من خلال إثارة وعي المتلقي، ودعوته للمقارنة بين الزمنين ، وفي هذا النص تَحَقّقَ مقطعٌ قصيرٌ ضمن الحوار، كنت أتمنى أن يتكرر هذا الاشتغال بأكثر من مكان ، وهو الصوت رقم ( 3 ) مع مروان عندما يقول له الصوت _ ( اِبحث في تاريخك يا هذا ، ….. ، فتش عن لحظة صدق ، اِبحث في داخلك عن موقف إزالة لكرب ، إغاثة مظلوم ، اِبحث عن نقطة ضوء، أنرت بها ليل المساكين والفقراء ) صفحة ( 154_155 ) .
إلا أني أرى في هذا النص كثافة في حركة الافعال الافتراضية ، والتي تعطي مساحة واسعة ومطلقة للمخرج للعمل والابتكار ، وقد يكون هذا النص الأوفر حظاً بين نصوص هذه المجموعة من ناحية كثافة الأفعال والمتغيرات .
التقنية الكتابية : عادة المنجز المسرحي أو الشعري أو القصصي ، لا يحتمل التكرار في الكيفية ، بل يعتمد ( الجِدَّة ) في المعالجة ، لا سيما كتابة النص المسرحي ، فمثلاً في كتابنا هذا ( مطر يابس ) اِحتوى على ثمانية نصوص ، ستة منها احتوت على تقنية متشابهة، ألا وهي وجود ( الصوت ) في حين ينبغي أن يكون استخدامه لمرة واحدة وفي نص واحد فقط ، ويمكن الاستعاضة عنه بالفلاش باك ، الشبح ، … إلخ ، من التقنيات التي للكاتب مطلق الحرية بابتكارها مع النصوص الأخرى؛ لتحقق تنوعاً جديداً في المعالجة .
ففي الكتاب المسرحي الواحد ، يفترض أن تكون المغايرة ليس على مستوى الفكرة فقط، بل في المعالجة، وهي الأهم ، لأن النص المسرحي يعتمد التكثيف ولغة الفعل، لا السرد كما في الرواية أو القصة ، فالكتابة المسرحية محكومة بضرورات الخشبة المسرحية وتقنياتها وعناصرها ، والأهم هو وضع المتلقي ، النص المسرحي المقل بالأفعال يُعَدُّ نصاً مترهلاً وقد يدعو المخرج للحذف أو الإضافة، وأحياناً الإعداد، أو رفض النص إذا شعر أنه غير قادر على تحقيق فعل درامي .
كما أن مجموعة نصوص ( مطر يابس ) اِحتوت على نصوص متنوعة على صعيد التوجه ، فهناك نصوص اجتماعية، وهناك نصوص طغى عليها الطابع الديني، وهي الأغلب ، كنت أتمنى أن تُجمع النصوص الدينية بكتاب منفصل، والنصوص الاجتماعية في كتابٍ آخر ، لتأخذ حقها في الدراسة والبحث العلمي ، لا سيما وأن ذلك التصنيف، سيفرض على الكاتب لا إرادياً أن يراعي التنوع في المعالجة بصورة أكثر دقة ، من حيث استخدام تقنيات متعددة ، في الكتاب الواحد .
في جميع النصوص هناك كثرة في الاستشهادات، سواءً لأقوال فلاسفة أو أبيات شعرية لشعراء ، حتى أنها تكررت لأكثر من مرة في النص الواحد ، وهذا يضعف من قيمة النص ، فكاتب النص يمتلك فلسفته الخاصة، وحكمته التي يروم إيصالها بأدواته ، ولا داعي لتعزيزها بأقوال لآخرين ، لا سيما وأن كاتبنا ( المنصوري ) هو شاعرٌ في الأصل ، فلو كان قد استشهد بأبيات شعرية من تأليفه لكان أبلغ ، لأنها ستحقق خصوصيته ، فـ( شكسبير ) لم يستشهد في نصوصه إلا ما ندر ببعض الملاحم، أو ببيت شعري للضرورة القصوى، وتُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة في جميع نصوصه التي وصلتنا .
اليأس : كان العنصر المهيمن على هذه النصوص بأجمعها ، وقد وظفه الكاتب ( جاسم المنصوري ) بحرفية عالية ، من خلال ما يسمى بتحريض العكس ، أي أن طغيان صوت اليأس في المعالجات المسرحية لا يدعو المتلقي إلى اليأس ، بل يكون خطابه عكسياً ، أي أنه سينفذ إلى نفس المتلقي، ويدعوه للمقارنة، ويستنهضه للتحرك، ورفض المسبب الأساسي لليأس وعلى كافة المستويات ، فاليأس يجسد الضعف، ومن خلال التركيز عليه يعطي تأثيراً عكسياً مستفزاً لوعي المتلقي ، ومن خلال الإقناع والتأثير، يتم التحريض وصولاً إلى التحرك الآني، أو المستقبلي لتغيير الواقع .
فعلى المستوى السايكولوجي، يكون اليأس بمعنى رفض المقابل ، لأن الشخص قد وصل إلى حالة من فهم المقابل، دعته إلى اتخاذ قراراته برفض جميع خطاباته؛ لأنها باتت مكشوفة لذلك الشخص اليائس ، وفي المسرح عند تجسيد ذلك الخطاب اليائس ، فإنه يكون معبراً عن ذلك المتفرج الجالس في الصالة، والذي جاء بحثاً للخلاص من هموم يومه ، وبالتالي عندما ترسل له رسالة بأنه يائس ، فإنه سيعيش حالة التحدي ، وهو ما أراده ( المنصوري ) .
اللغة : اِستخدم كاتبنا اللغة الجزلة البسيطة البعيدة عن المصطلحات البلاغية والمبالغات الشعرية ،إلا أنه زَجَّ بعض الكلمات الشعبية في نصوصه لم تحقق شيئاً على المستوى الدرامي ، لأن الكلمات الشعبية المستخدمة في النصوص المسرحية، يفترض أن تكون ( غستوس ) متفق عليه على المستوى الجمعي للبيئة المستهدفة ، كما يفترض ان تكون داعمة للذروة الرئيسية للنص، أو الذروات الثانوية ، لكن إقحام تلك المصطلحات الشعبية بين الحين والآخر، تؤثر على مستوى الخطاب، وتؤثر على وحدته وتكامليته .


★ناقد ـ العراق.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى