حسام الدين مسعد: بلوفونية “احتقان” وجماليات المعني
قراءة في النص المسرحي القصير للكاتب العراقي عمار نعمة جابر
حسام الدين مسعد★
مع ظهور مفهوم “البوليفونية” في الأدب، والذي يعني وجود مجموعة من الأصوات السردية التي تتفاعل، وتعبر عن همومها الذاتية، والموضوعية، دون أن يهيمن صوت على الآخر، واْنطلاقاً من أن النص، ليس فيه صوت واحد، بل هناك أصوات متعددة ومتقابلة ومتعارضة، مثل: الذات المتكلمة، والمتلفظ، و(المستمع) المتلقيْ.
فالذات المتكلملة: هي الذات الفيزيائية الحسية التجريبية التي تنتج الملفوظ (الكاتب أو المبدع).
أما المتلفظ: فهو ذات لسانية ورقية داخل الخطاب، وكذا ينطبق ذلك على المتلقي، ولذا فالبوليفونية نظرية دلالية وخطابية وبنيوية، تزودنا بآليات الفهم وكيفية تأويل المعني.
ومِنْ ثَمَّ فإن مقاربة النصوص الإبداعية والفلسفية والأدبية، تعتمد على مجموعة من الخطوات المنهجية، هي ما قبل الفهم، والتفسير، والتأويل وفقاً للبوليفونية التأويلية عند “بول ريكور”.
وتتميز لغة النص المسرحي الحداثي القصير بحواريتها الدلالية، والإحالة والرمزية، والسيمائية المتعددة، والتي تنسج علاقات تفاعلية وتناصيه متعددة، مع باقي بنيات النص.
وعليه فإن المقاربة البوليفونية، هي التي تدرس الملفوظ أو النص في حواريته، وتعدديته الصوتية، واللغوية، والأسلوبية، والدلالية، والإيديولوجية، سواء على مستوي البنية، أم الدلالة، أم الوظيفة، لا سيما أننا نتصدى لقراءة نص مسرحي قصير، لكاتب عراقي له بصمته الأسلوبية الخاصة، التي تعتمد في أغلب نصوصه المسرحية على الحوارية، والِاختزال الرمزي المكثف، في مسرحة اللحظة الدرامية عن طريق الكتابة الدلالية، والإيديولوجية، إلا أننا في نصه “احتقان” سنجد تناصاً في البصمة الأسلوبية، بينه وبين نص “المغنية الصلعاء” للكاتب الطليعي “يوجين يونسكو ” رائد المسرح المضاد، إذ تناص “عمار” نعمة جابر” عن عمد، أو دون عمد، في التشكيك بحقيقة الواقع المادي عن طريق اللغة، وهو ذاته ما صنعه “يونسكو” إلا أن “عمار” قد نأى بنصه عن فعل الِاستنساخ إلى فعل التجديد، والابتكار، ومن ثم فعل التثقف، إذ يمزج في نصه بين مسرح العبث، أو اللامعقول، مع سمات مسرح ما بعد الحداثة في عالم يتعذر فيه الابتكار الأسلوبي، فلم يتبق لـ “عمار”، سوى محاكاة أساليب ميتة، وأحاديث من خلال أقنعة وأصوات تنتمي لأساليب محفوظة في متحف وهمي.
لذا فإن النص المسرحي القصير الموسوم بـ “احتقان” والذي يدور حواره الدلالي الرمزي المكثف بين النادل، والزبون في مطعم ما، لم يحدد مكانه المؤلف، ويطلب فيه الزبون قدح ماء من النادل، ويتكرر الطلب مِرَاراً وتَكْرَاراً، إلى أن يفكر هذا الزبون في الذهاب إلى المطبخ لجلب قدح الماء بنفسه، بعد معاناة من التكرار، والرتابة، والسخرية من فعل ذاك النادل، في تبادل للأدوار الوظيفية بين النادل، والزبون، قد يقود القارئ المتلقي إلى تعددية في المعني، دون أن يفرض المؤلف رأيه، أو وجهة نظره على القارئ المتلقي.
لقد تعمد “عمار” نعمة جابر” إلى تكرار جاء فيما يزيد على عَشْرِ مرات، وورد في إرشاداته النصية في جملة حوارية ثابتة [الزبون :(يمسك بهاتفه، ويتصل) أنا في المطعم … حسناً حسناً]، وأرى أن “عمار” قد هدف من هذا التكرار عدة أسباب، أولها: أن هذا التكرار مقبول في التناول العبثي، ليضفي جواً من الرتابة، أو السخرية الهزلية، أما السبب الثاني: فهو للربط بين المشاهد المتعددة التي تستدعي خروج النادل إلى المطبخ، وعودته مرة أخرى، والسبب الثالث: يتمثل في إحساس الزبون أنه مراقب من جهة ما، فيقوم بالِاتصال بها ليثبت ولاءَه لها، أما السبب الرابع: فأرى أن هذا الِاتصال الِافتراضي أو القريب من الحقيقي، هو مبرر لإبراز أصوات شخصية الزبون المتعددة، لو افترضنا أن الزبون يتصل في كل مرة بشخص آخر، ومختلف في علاقته به، فيتجلى من خلاله شيزوفرنية الشخصيات في مجتمع، تتم محاكاة أساليبه الميتة المحفوظة، في متحفه الوهمي المتمثل في لغته، وأكلشيهاته المحشوة بداخلها، ليطرح السؤال الوجودي على القارئ، وهو ذاته السؤال الجوهري الذي يسعى الإنسان من خلاله، لبلوغ المعني الجوهري للحياة.
إذا كنا بصدد دراسة الملفوظ في حواريته، وتعدديته الصوتية، واللغوية، والأسلوبية، والدلالية، والإيديولوجية، سواء على مستوى البنية، أم الدلالة، أم الوظيفة، فإن هذا المقطع [النادل: أنا انظف هذا المكان عشرات المرات في اليوم، ولا يمكنني أن احفظ كل وجوه الزبائن، انا صاحب ذاكرة ضعيفة …] يشير إلى أن النادل، إما مصاب بمرض الزهايمر، وإما أن ذلك يشير إلى تعمد النادل تجاهل طلب الزبون، أو مشكلته، وإما أن “عمار” يشير إلى الروح التي كانت عالمة في عالم الأرواح، والتي إن لم يتم تدريبها على اْقتناء المعرفة بالتفكير والتأمل، فستبدو هذه الروح ضعيفة الذاكرة، غير قادرة على معالجة المشكلات بالأساليب الصحيحة، نتيجة لعدم تربيتها بطرق التربية والتعليم الحديثة، التي تدعو إلى الفهم، والتأمل، والتفكير العلمي، والبحث في تصويب الأخطاء المعرفية.
لقد اختار “عمار” مفردة لسانية من بقايا الطبقات المهجورة، ليدلل على أن النادل لايفهم معناها الحقيقي، ويرددها كالببغاوات في صلف الحفظ دون الفهم، ليشكك بحقيقة الواقع المادي، الذي لا يتأملها الإنسان، ولا يفكر فيها عن طريق اللغة.
[الزبون: الماخور، هو المبغى، والمبغى: هو تجاوز الحدود، وكلنا نحتاج إلى مثل هذا الوقت الشاذ، لتجاوز كل الحدود بكافة أبعادها الدينية، والسياسية، والاقتصادية…النادل: ولماذا يا سيدي لا يكون المبغى من الفعل (اِبْتَغَى) أي أراد وطلب، (يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً).
الزبون: أنتم ببغاوات، ترددون ما تحفظون، من أجل النجاح فقط.
النادل: ولكن يا سيدي، رغم كل هذه الغاءات، فأنا لا أعرف المبغى…
الزبون: المبغى: هو بيت الدعارة]
إن هذا الحوار يشير إلى معان متعددة، كطرق التربية البيداجوجية التي تعتمد على الحفظ والتلقين، والتي تشكل واقعاً اْفتراضياً للمتعلم، ينتهي بالِامتحان النهائي، الذي ما أن ينتهي، تلفظ ذاكرة الطالب ما تم تلقينه، وتنساه طالما أنه لم يدربها على إسترجاعه وتذكره، كما يشير إلى الديتاكتيكية كطريقة حديثة للتعلم والتأمل، تنأى بالطالب عن الجهل المعرفي، الذي يسخر فيه المؤلف من تفسير النادل لمفردة المبغى التي ترادف مفردة مهجورة، كالماخور الذي يعني بيت الدعارة، ليشككنا “عمار” في اللغة، ويطرح السؤال الذي يبصرنا لماذا نستخدم الحشو، والمفردات اللغوية المهجورة في تعليمنا للطلاب؟ لماذا لا نتحدث لغة العصر التي وإن كنا نراها لغة بغاء، فهي أيضاً لغة، تتجاوز كل الحدود، لغة قد تقودنا لبلوغ المعنى الجوهري للحياة الراهنة، وتقودنا إلى معالجة المشكلات، بالأساليب الصحيحة التي لا تعزز الإجراء، فيبدأ الدورة من جديد.
[الزبون: أنا بحاجة إلى أن أفكر، ربما أذهب إلى المطبخ، وأجلب قدح الماء بنفسي.النادل: لا يمكن أن يحدث ذلك، وانا موجود هنا.
الزبون: أنا أجري خلفك في حلقة مفرغة، لن يحدث لي ولك …. لذا من الأفضل أن أذهب بنفسي لأحصل على الماء]
إن هذا المقطع يشير إلى بداية التفكير لدى الزبون، للخروج من إطار الحلقة المفرغة، التي صورها “عمار” بكل أبعادها الدينية، والسياسية، والاقتصادية، وها هو يشير إلى البعد النفسي، إذ يعبر مفهوم الحلقة المفرغة في علم النفس عن موقف، أو نمط سلوكي، تصبح فيه مشكلة الفرد، أو المجموعة صعبة بشكل متزايد، بسبب الميل إلى معالجتها، أو تجاهلها بشكل متكرر، من خلال ردود الفعل الدفاعية غير الصحيحة، وتُستخدم الحلقة المفرغة، لوصف الموقف الذي تكون فيه الأحداث في حلقة تغذية مرتدة، يتم فيها تعزيز الإجراء أو الحدث، من خلال نتيجته التي تبدأ الدورة من جديد، في نمط حدث لا يصل أبداً إلى التوازن، وهو في حركة مستمرة، ووفقاً لذلك، فإن المتعة التي تمنحها الرؤية الأفضل، تتضاءل بمرور الوقت، فمستويات الرضا، تشير إلى مستويات مماثلة من السعادة، أكثر مما يتوقعه المرء.
إن الفرضية العبثية، التي انطلق منها المؤلف العراقي، هي أن العالم يحيا في حلقة مفرغة، بحيث يتشابه الفرد مع أقرب المحيطين به في محيطه الإجتماعي، ليشكل نسخة واحدة لايمكنها أبداً إدراك المعنى الجوهري لهذه الحياة، لأنها لم تَعْتَدِ التدرب على التأمل، واقتناء المعرفة، وتجاوز الحدود بكافة أبعادها الدينية، والسياسية، والِاجتماعية، فأصبحت نسخة آلية تهيمن عليها المؤسسات المالكة للخطاب والقوة والمعرفة في العالم، وظل الإنسان الباحث عن وجوده في هذا العالم صوتاً يصرخ داخل إطار الحلقة المفرغة، لا يمكنه الخروج منها إلا بقبول العبث، أو مجابهته بالتفكير، والتأمل، والوعي بالِاحتقان الحادث بين طرق التربية العتيقة الإيديولوجية، وبين الوجود الإنساني، الذي أصبح نسخة آلية تدور في حلقة مفرغة، لا يمكن الفكاك منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقد ــ مصــر