مسرح

حسام الدين مسعد: العلامات المسرحية لـ ” سلمى الكردية “بين الطهرانية والعنف، في فضاء غير تقليدي.

حسام الدين مسعد

ضمن محور مسرح الشارع، والفضاءات غير التقليدية بمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي بدورته التاسعة، يحصل العرض المسرحي “سلمى” ، على جائزة أفضل عرض متكامل، وهو من إنتاج فرقة هوار الكردية، لكن هل استحق هذا العرض، تلك الجائزة التي حصل عليها ؟ وهل اتسق رأي أعضاء لجنة التحكيم مع رأي الجمهور، الذي صادف العرض أمام الباحة الأمامية لمسجد الصحابة بمدينة شرم الشيخ ؟
لا شك أننا نحتاج إلى أن نغوص في قراءة مفردات هذا العرض، كثيف العلامات والدلالات؛ كي نجيب على التساؤلَيْن السابقَيْن من خلال تساؤلات حجاجية؛ تقودنا إلى البرهنة والنتائج التقييمية لهذا العرض، الذي كتب نصه الأدبي د.”دلشاد مصطفى”؛ كي يسرد لنا معاناة مونودرامية لـ “سلمى” تلك الأم التي فقدت أطفالها الصغار؛ نتيجة مرض الطاعون قبل أكثر من ستين عاماً، وفي ولاية مرباط مازجاً بين ماحدث في مجزرتي حلبچة والأنفال الكرديتين؛ ليقدِّم صرخة ما بعد حداثوية؛ مفادها من يحمل قضية الأكراد في تحقيق حلمهم بالاستقلال والتعايش في سلام.
-لكن نجاة نجم، مخرج وسينوجراف هذا العرض؛ يُسَطِّر نصاً درامياً ديودرامياً ببطلتين، هما الكردية هوار فارس، والفرنسية “أوغلي أمبغت”، إذ يقسم فضاء  التشخيص غير المخصص لاستقبال العرض المسرحي سيمترياً إلى قسمين متماثلين، يفصلهما إطار معدني يضئ في لحظة من لحظات العرض كالمرآة، التي تعكس كلا القسمين؛ اللذَيْن تم تشكيل كل قسم منهما سينوجرافياً؛ برسم مربع كبير باللون الأحمر، تتوسطه دائرة حمراء يتوسطها مثلث أحمر، وفي كل زاوية من زوايا المربع ؛ وضعت ساق يابسة أعلاها ثمرة تفاح طبيعية، وأسفلها فردة حذاء لجندي، ويتدلى من وسط الساق شريط رفيع من القماش الأحمر، يصل بشكل متعرج إلى أسفل أقدام المتفرجين، بمنطقة التلَقٌي، ولقد مزج” نجاة نجم ” بين اللغتين الكردية والإنجليزية؛ بحيث كانت هوار فارس، تؤدي باللغة الكردية، وأوغلي أمبغت، تؤدي باللغة الإنجليزية، و ترتديان زي المرأة الكردية .
-لاشك أن هذا التشكيل السينوجرافي، يحمل الكثير من العلامات التي تطرح تساؤلات المتلقي، فما هي دلالة الأشكال الهندسية، التي تماثلت في قسمَيْ التشخيص في الفضاء غير التقليدي؟


لاشك أن الأشكال الهندسية تُشَكِّل رمزاً مركباً يحمل عدة دلالات؛ إذ أن المربع ربما يشير إلى الاستقرار، أو القيود؛ حيث يتم تمثيله كحاجز، أو إطار، محاصر داخل سياق العرض في الحالة النفسية لكل مؤدية؛ إذ يستهل العرض تعبيراً بحركة مماثلة، تحاول كل مؤدية أن تتخلص من قيودها الوهمية، وهي واقفة في زاوية ضيقة، وبعيدة عن الجمهور من زوايا المربع، وهذا  يشير إلى الشعور بالاحتجاز أو التقييد، لكن اللون الأحمر الذي رُسم به هذا المربع، يشير إلى الأرض الملوثة بالدماء؛ نتيجة للحرب والدمار، أما الدائرة، فهي  تمثل اللامحدودية، ولكن بما أنها تتوسط المربع؛ فذلك يمكن أن يدل على رغبة في الحرية، أو الفناء في عالم مليء بالقيود، أو ربما تشير إلى الحلقة المفرغة التي لا تنتهي، بل تبدأ من جديد في كل دورة، أما المثلث الذي يتوسطها؛ فهو يعكس أحياناً التوتر، أو الصراع؛ ربما يشير إلى الارتباك الذهني للشخصية في مواجهة الخطر الذي يهدد وجودها؛ نتيجة الثالوث المأساوي المتمثل في الموت، والحرب، والمعاناة، أما الساق اليابسة فتشير إلى الخراب والموت، في حين ترمز الثمرة إلى الحياة، التي تحاول النجاة رغم الدمار، وأما فردة حذاء الجندي أسفل الساق؛ فتعكس حضور الحرب بشكل دائم، كعامل أساسي في الإبادة والدمار، والجفاف؛  هنا قد يرمز إلى العجز، أو فقدان الحيوية، مما يعكس حالة الشخصية النفسية والجسدية؛ فالساق الجافة، قد تمثل أيضاً التشبث بالوجود، في عالم يفتقر إلى النمو أو الأمل، مما يعكس وضع الشخصية المحاصرة في صراع أو ظلم اجتماعي؛ فالثمرة الطبيعية تُمَثِّل الأمل، أو النضج الذي يمكن أن يأتي بعد المعاناة، أو ربما تشير إلى الإنجاز، أو الهدف الذي تسعى الشخصية لتحقيقه رغم الظروف القاسية.
من جهة أخرى، قد تعكس الثمرة، رمزية الإرث الإنساني الذي لايزال يحيا رغم المحيط القاسي، وهو ما يشير إلى الصراع المستمر في وجه الدمار في تناقض يستحضر الصراع الدرامي بين الموت والحياة.
لماذا تم اختيار الفضاء المادي غير التقليدي أمام مسجد الصحابة؟
اِختيار الباحة الأمامية لمسجد الصحابة كفضاء للعرض؛ يعكس من جهة ازدواجية في الرسالة، إذ يوحي ذاك الفضاء بالقدسية والطمأنينة، ومن جهة أخرى، يطرح تناقضاً صارخاً مع موضوع العرض المتمثل في الإبادة الجماعية والحروب، وهذا التناقض يثير لدى المتلقي شعوراً بالتساؤل عن كيفية إمكانية الجمع بين الطهرانية والعنف في فضاء واحد، مما يعزز التأمل في طبيعة الوجود الإنساني، الذي يجمع بين الخير والشر، لكن اختيار المسجد كخلفية للعرض، يُقوي من دلالة التوتر بين ما هو مقدس، وما هو دنيوي في سياق عرض يُقدِّم مأساة إنسانية؛ في دعوة للتأمل في العلاقة بين الإيمان والواقع الاجتماعي والسياسي المؤلم.
لكن تقسيم الفضاء إلى منطقتين متماثلتين بمنطقة التشخيص؛ يشير أن المآسي التي تحدث في مكان ما؛ ليست سوى انعكاس لمآسٍ مشابهة في أماكن أخرى.


كما أن هذا التماثل يحمل دلالة فلسفية بأن جميع البشر معرضون للعنف نفسه، بِغَضِّ النظر عن المكان أو الزمان، وهذا ما يُفَسِّر لنا اختيار لغتين للعرض، فاستخدام اللغتين الكردية والإنجليزية؛ يعكس عالميّة الرسالة؛ فالكردية تُعَبِّر عن الخصوصية الثقافية للضحايا، بينما الإنجليزية تفتح المجال أمام جمهور عالمي لفهم القضية، و هذا المزج يُبرز كيف أن الإبادة الجماعية ليست قضية محلية، بل جرح إنساني مشترك؛ يحتاج إلى اهتمام عالمي.
بالنسبة للحبل الأحمر الذي يتدلى من منتصف الساق اليابسة إلى مقاعد المتفرجين؛ يُستخدم كرمز قوي للقيود، التي تَحُدُّ من الحرية؛ إذ أن المؤديتين استخدمتا الحبل في نهاية العرض؛ كأداة للشَنق، كما أن هذا الحبل قد يمثل الرباط بين الفرد والمجتمع؛ حيث يتم سحب المشاهد إلى التجربة العاطفية والنفسية للشخصية، فالحبل الأحمر يشير إلى الدم أو المعاناة، مما يربط هذا العنصر بالمعاناة الجسدية والنفسية التي تعيشها “سلمى” ، وهذا الربط بين المفردات السينوجرافية؛ يعكس القيود المتشابكة التي تُقيد الشخصية “سلمى” ؛ إذ يمثل الحبل الموت، أو الانتحار، الناتج عن تلك القيود النفسية والاجتماعية،
ففي هذه الحالة لا تستطيع “سلمى” الهروب من هذا المصير المظلم، وهذا يُسَلِّط الضوء على التحكم الخارجي، الذي يلتهم الفرد، ويُقيد حريته، كما أنه يُعبِّر عن الصراع الداخلي بين رغبة البطلة في النجاة أو التمرد، وبين القوى القاهرة التي تُقَيِّدها، سواء كانت هذه القوى اجتماعية أو سياسية، فضلاً عن أن بلوغ الشريط الأحمر إلى مقاعد الجمهور في منطقة التلقي، يشير إلى المشاركة السلبية في هذا المصير؛ حيث إن المشاهدين يصبحون غير قادرين على التدخل، أو تغيير النهاية المأساوية.
لقد نجح صُنَّاع هذا العرض في التعامل مع قضيته، التي تناقش معاناة “سلمى” كجزء من الذاكرة الجمعية، التي لا ينبغي نسيانها؛ فاستثمروا فضاء العرض أمام المسجد في نقل رسالة مفادها، أن المأساة الإنسانية ليست محصورة في مكان معين، بل هي موجودة في كل مكان يومياً، فالعالم يستمر في الدوران؛ بينما تَنْقَضُّ على الشعوب، الكوارثُ والحروب .
هل نجحت المؤديتان؛ رغم اختلاف لغتهما عن لغة الجمهور المستهدف في كسب تعاطف الجمهور المتلقي ؟


اِتسم الأداء في هذا العرض بالأداء الجسدي التعبيري، المدعوم بالرمزية والطقوسية، فهذا النوع من الأداء؛ أتاح إيصال الرسائل المعقدة بسهولة، مع الاستفادة من الفضاء كجزء من التجربة المسرحية، مما عزَّز أثر العرض على المشاهدين، فتساقطت دموعهم في تطهير جمالي وتفاعلي، ولن أنسى ذاك المشاهد المُسِن، الذي لا يجيد إلا الدارجة المصرية، وهو يجفف دموعه لحظة شنق “سلمى” لنفسها في ختام العرض .

اِتسمت موسيقى العرض، بألحان حزينة تُعبِّر عن الألم، وإيقاعات متكررة، ترمز للمقاومة والطقسية، ساهمت في إحداث حالة تفاعلية مع متلقي الفضاء المفتوح، وكوَّنت عنصراً جوهرياً في تعميق تجربة الجمهور المتلقي، وإبراز الرسائل السياسية والثقافية، التي تُعَزِّز الفهم، وبلوغ الغايات الدلالية  في عرض “سلمى”.


★ ناقد ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى