هايل علي المذابي★
إذا كانت الفنون جميعاً، تقتضي الحرية لتؤدي وظيفتها الطبيعية في المجتمعات، وتحدث تغييرها الإيجابي في البشر، وتطهرهم من لواعج نفوسهم وما يعتريهم من مخاوف، فإنه بالضرورة لابد لهذه الفنون من حرية وفضاء واسع وسقف لا يحده حدود، ولأن المسرح كان دائماً، وسيظل أباً لكل الفنون سواءً بما يشمله من أطوار فنية حتى يصل في صورة العرض النهائية للناس، فتلتقي فيه جميع الفنون، أو لما يمثله وجوده من سبق وظهور وأقدمية للفنون جميعاً، ما يجعل سقف حريته بالضرورة عالياً وغير محدود..والمسرح في أقصى غاياته محاولة لإثبات الذات وتحقيق الوجود، لأن الفن فعل وليس سلوكاً، لكن هذا التحقق، وهذا الإثبات عن طريق الفعل لايتم إلا في ظل فضاء رحب من الحرية، ويشترطها قبل وجود الفن ذاته، يقول “جان بول سارتر “صاحب الخطوط الفلسفية الثلاثية” الحرية، والمسئولية، والالتزام، في حديثه عن الحرية وما تقتضيه: إن الإنسان يستطيع إثبات وجوده عن طريق الفعل، فالفعل هو محاولة لتغيير الحالة الراهنة لتحقيق حالة أخرى مغايرة، ففيه إلغاء لشيء وإثبات لشيء آخر، وليس أي سلوك يسلكه الإنسان فعلاً، فقد نرى الكرسي يقع أو إنساناً ينزلق، فهذا سلوك وليس فعلاً، لأن الفعل قدرة على تغيير أوضاع تؤثر في عالم الموجودات، وقد يضيق الفعل وقد يتسع، قد يكون تحية عابرة، وقد يكون معركة تقتل فيها مدينة بأسرها، وسارتر لا يقيم قيمة الفعل بما يترتب عليه من نتائج، بل المهم عنده كما هو عند سابقه “كانط” أن يصدر الفعل عن حريتنا وعن إرادتنا، فالفعل الإنساني يفترض الحرية وهو تعبير عنها، وينتهي سارتر إلى القول بأن الحرية ليست مجرد صفة للوجود الإنساني، بل إنها قوام هذا الوجود، وقد يحاول الإنسان أن يهرب من حريته ومسئوليته، يحاول أن ينكر ذاته، ويرفض أنه موجود لذاته، على حد تعبير سارتر، ويسعى لإيهام نفسه بأنه موضوع وشيء كباقي الأشياء، وحتى في هذه الحالة، أي عدم وعيه بحريته وتخليه عن إرادته فإنما يكون حراً، ذلك لأنه اختار عدم الاختيار، إنه الكائن المحكوم عليه بالحرية، وهو لا يستطيع أن يهرب من حريته، لذلك يتسع مفهوم الحرية عند سارتر ليشمل الشعور والعاطفة، بالإضافة إلى الفكر والوعي، وليس هناك شروط لتحديد أي الأفعال خير من غيره إلا مقدار صدورها عن حرية فاعلها، وليس هناك أسوأ من حالة النكوص عن المسئولية، وتخلي الذات عن حريتها، حين تقبل كل ما هو معطى لها جاهزاً
إذن المسرح ونظراً لما يتناوله، ولما يقوم به فعلاً وليس سلوكاً، وهذا بالضرورة ما يلزمه أن يحدث التغيير في المتلقي وفي الواقع، وهو ذاته ما يجب أن تكون عليه جميع الفنون لا المسرح فحسب، فجميع الفنون في جوهرها وفي أقصى غاياتها ليست إلا أفعالاً للتغيير ولإثبات الذات وتحقيق الوجود.. يبقى السؤال ما هي غاية الفعل، هل هي التطهير أم التثوير والتغيير؟
هنا يمكننا الإجابة من خلال التعرض أولاً لمفهوم التطهير ومفهوم التغيير والتثوير.. المسرح كونه فعل تطهير أم فعل تثوير وتغيير…!!
لعل أهم من اتضحت معالم رؤيتهم وفهمهم للمسرح هما أرسطو قديماً صاحب نظرية “الكاترزيس” وبرشت صاحب نظرية المسرح الملحمي حديثاً، وإذا أردنا فهم طبيعة النظريتين فعلينا أن نتحدث عن كلتيهما بشيء من التفصيل والمقارنة، إذ لن تتضح الرؤية إلا بلغة الأضداد، ولنعرف من ثمّ أين تلتقيان وأين تفترقان، وأيضاً طبيعة جوهرهما..
المسرح الدرامي لدى أرسطو: إن الإنسان في جوهره يميل نحو الشر وطبيعته لا أخلاقية، ويأتي هذا حتمياً نتيجة لما يمتاز به الإنسان من غرائز تحرضه لإشباعها وممارسة اللا أخلاقيات.
يقول أحد الحكماء: (الواقع أن الطبيعة البشرية غير سوية)، وأكد هذا الأديب والمفكر (برونتيير) بقوله: (إن الطبيعة البشرية طبيعة لا أخلاقية).
وعندما نكون متفقين على هذا فإن جوهر المسرح يصبح على حد تعبير أرسطو تطهير النفس البشرية من لواعجها ولا أخلاقياتها…!! كيف؟
لقد سمى ذلك الفيلسوف اليوناني أرسطو “كاترزيس” أي التطهير، لكنه لم يسهب في الحديث عنه أو في تفاصيله، ولكنه عبر عنه في كتاب الشعر بالتطهر الفني الذي يحصل عندما يقرأ الإنسان أو يشاهد أو يصغي إلى ما يخافه ويخشاه، ليتطهر منه على الواقع، والمسرح يجعل المتلقي بالضرورة يتطهر من مخاوفه الحقيقية على الواقع بطريقة مقبولة فنياً، وجميعها صور ومشاهد غير مقبولة البتة واقعياً، لكن المسرح يعالجها فنياً ويُطهر المتلقي منها.. (أرسطو – فن الشعر): إن علاقة المسرح بالمتلقي هي علاقة المشاركة الإدراكية والحركية والوجدانية، وبإنعدام هذه المشاركة لا يتحقق التطهر لدى المتلقي من لا أخلاقياته ومخاوفه وما تحثه دائماً غرائزه على فعله.
ويؤكد علماء النفس (أن الغرائز العدوانية والغرائز الجنسية تطالب بحقها، لأنها لا تستطيع أن تمنح نفسها الحياة في الحقيقة الواقعة، لذا فهي قد تحصل في مجال الفن على ترضية بريئة ومثالية، وبهذا يصبح الفن بمثابة الاشتقاق، أو صمام الأمان بالنسبة للإنسان).
وبالتأكيد إذا كانت طبيعتنا البشرية طبيعة لا أخلاقية أساساً، وكل ما يقدم لنا عبارة عن نصائح سيئة ولا سبيل لمقاومة هذه اللا أخلاقيات، فماذا نفعل؟ وهل يمكن أن يكون لهذه اللا أخلاقيات سبباً خارجاً عن إرادتنا أو إنها قد تكون كشفا إلهياً كان قد فرض علينا؟ أو أنه مجموعة تمثيلات جماعية كان قد تشرّب بها مجتمعنا الإنساني !!، وكيف تستطيع هذه اللا أخلاقيات أن تصدر لنا كل هذه الأوامر فنطيعها !!، وكيف توقظ هذه الأوامر في نفوسنا هذا الصدى، وكيف تمارس علينا كل هذه الجاذبية وهذه الضغوط…!!؟ نعم، إن الإنسان في كثير من الأحيان يكون حيواناً أو وحشاً قاسياً، لكنه رغم كل هذا وذاك، فهو مخلوق غير فاسد كلياً فيه بذرة خير، والشر لديه نسبي لا مطلق مثلما الخير أيضاً لديه، ولا يخلو من بعض الخصائل الحميدة مثلما لايخلو من الشر.
وبالمثل إذا كانت غرائزه تدفعه وتستميله للشرور، كالتسلط وإشباع شهواته وغيرها، فإن الفنون تُمَكِّنُهُ من فعل الخير، والتطهر من كل الشرور، وبفضل الفن، يكون قادراً كذلك على إخراج الثمار الطيبة والعظيمة من نفسه.
كل ذلك العطاء الخَيِّرُ ينتجه الحب وتعكسه الأعمال الفنية المسرحية، ولذلك يجب أن يكون العمل الفني عظيماً بما يحتويه من قيم إنسانية وكونية، تضمن له الخلود، وأيضا تكون واضحة ومضيئة، وتحمل كل التناقضات في النفس البشرية بما في ذلك لا أخلاقيات شهواته ونزواته.
إن المسرح في جوهره دعوة صادقة للإفلات من قبضة الخوف والتطهر مما نخشاه على أرض الواقع، دون أن نمسه أو نمارسه حقيقةً، ولكن فنياً فقط، وبالتالي فإن فاكهة الخطيئة التي نستطيع أن نأكلها مسرحياً ستمنعنا النتائج التي تتبع أكلنا لها مسرحياً من أن نأكلها على الواقع، وهذه هي الكاترزيس التي كانت مهمة المسرح دائماً تحقيقها، فنحن مسرحياً نتجرأ على الخطأ، ونتجرأ على الإنغماس في الخطأ، ونمارس وتجاز لنا كل اللا أخلاقيات لنتطهر منها واقعياً، وهذه هي غاية المسرح وجوهر رسالته.
ولعل أهم سمات وخصائص المسرح الدرامي لدى أرسطو كما بَيَّنَها برشت في جدول له هي: أن المنظر يجسد الفعل، ويشرك الجمهور في هذا الفعل، ويستهلك نشاطه، والشكل الدرامي يزود الجمهور بتجارب، ويجعله قابلاً للعواطف، والمتفرج يجد نفسه في وسط الفعل، كما أن المسرح الدرامي يؤثر بالايحاء، ويحافظ على المشاعر، ويفترض في الإنسان أنه معروف، والإنسان ثابت، والاستطلاع يتعلق بالحل، وكل منظر متوقف على الآخر، والأحداث تجري على هيئة خط مستقيم، والطبيعة لا تقوم بطفرات، والعالم كما هو، وما يجب على الإنسان أن يفعله، وغرائزه، والفكر يحدد الوجود (من الجدول الشهير الذي وضعه برتولد برشت لمسرحية ” مهاجوني” وهي الأوبرا التي مثلت للمرة الأولى في سنة 1920). المسرح الملحمي لدى برشت: المسرح الملحمي يدعو إلى الفعل، ويزود بالمعارف، مستعيناً بالحجج، محللاً العواطف إلى معان عقلية، وهو يدرس الإنسان في أحواله، ويجد أنه رهين بهذه الأحوال، فيتغير إذا ما تغيرت، وبعبارة أخرى يفترض أن الإنسان ليس طبعاً ثابتاً، بل هو كائن قابل للتغيير إذا ما تغيرت ظروفه الاجتماعية أو البيئية، وواضح ما في هذا من تأثر بمبدأ ماركس المشهور، وهو أن المطلوب ليس فهم الإنسان ، بل تغييره، وعلى هذا سنجد في المسرحيات الملحمية أن أحوال البطل وتصرفاته تتغير بتغير ظروفه الاجتماعية، وأحواله المعاشية وملابسات البيئة، بينما نجده في المسرحيات الدرامية ثابت الطباع، وعن هذه الطباع الراسخة يصدر كل ما يبدر منه من أفعال وتصرفات، ولا تفسير لهذه إلا بذلك الطبع الثابت. وهذه نقطة بالغة الأهمية في مسرح برشت، وعن هذه الخاصية تُستنبط الخاصية الثالثة، وهي أن الأحداث ترسم خطاً مستقيماً في المسرحية الدرامية، لأن طبائع الشخصيات ثابتة، بينما هذه الأحداث في المسرحية الملحمية ترسم خطوطاً منحنية تتعرج وتدور وتتكسر ، وفقاً للظروف الاجتماعية التي يحيا فيها الأشخاص، وكذلك تستنبط الخاصية الرابعة، وهي أن المناظر، لانعدام الاتصال الثابت، يقوم كل واحد منها برأس، وليس مجرد حلقة في سلسلة كما هي الحال في المسرح الدرامي؛ إذ أن كل منظر يعبر عن حالة برأسها وجدت فيها الشخصية وفقاً لإحداثيات اجتماعية ترتبط بها.
إن الطبيعة في المسرح الدرامي لا تقوم بطفرات، لأن ثم منطقاً باطناً نابعاً من طباع الشخصية، أما في المسرح الملحمي فلا طبع ثابت، وبالتالي لا منطق باطن، بل ثَمَّةَ انتقالات مفاجئة، أعني طفرات، ولما كان الوضع الاجتماعي (الاقتصادي خصوصاً) هو الحاسم في إحداث التغيرات، فإن هذا الوضع الاجتماعي هو الذي يحدد الوجود، ويحدد الفكر، وعلى العكس في المسرح الدرامي، نجد الفكر هو الذي يحدد الوجود، لأن الفكر – في نظره – هو الذي يغير الواقع الاجتماعي، وفي هذه الخاصية نرى التعارض المشهور بين دور الفكر عند هيجل (ويتمثل هنا في المسرح الدرامي)، ودور الفكر عند ماركس (وهو الذي يمثله هنا المسرح الملحمي أو مسرح برشت)
أين التقى الجمعان…! مثلما وضحت سابقاً في حديثي حول كينونة المسرح من حيث هو سلوك أم فعل؛ فإن المسرح في شكليه الدرامي أو الملحمي فعل، وليس سلوكاً وهذا الفعل يقتضي الحرية أولاً ليُحدث التغيير في عالم الموجودات.
نستخلص أيضاً من الجزئيات الأخرى في هذه الدراسة البحثية أن التطهر الذي يحدثه المسرح لدى أرسطو، هو الوجه الآخر للعملة، والتي هي لدى برشت فعل التغيير والتثوير، بمعنى أوضح، فإن ملحمية المسرح لدى برشت ليست سوى امتداد لقوانين مسرح أرسطو التطهيرية؛ وإذا كان أرسطو يبحث عن تطهير النفس وتحريرها مما يستعمرها من مخاوف ولا أخلاقيات، فإن برشت يسعى إلى تحرير الإنسان وتطهيره من استغلال وجبروت وطغيان أخيه الإنسان، وهكذا فإن مسرح أرسطو ثورة ضد النفس البشرية، ومسرح بريخت ثورة ضد العقل البشري.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
★ كاتب وباحث ــ اليمــن