مسرحمشاركات شبابية

بسنت البغدادي: الجريمة والعقاب..الرب يمنح سلامه، للموتى والأحياء.

بسنت البغدادي★

كثيراً ما تكون التساؤلات في حد ذاتها، شرارةً لوجود قضية بعينها، فضلاً عن أنها تجعل منها محلاً للبحث، و التفكيروالتأمل، فإلى أي مدى، وفقاً لقانون العقل، و المنطق البشري، يمكن للإله ألّا يسامح ؟
و ذلك بمعزلٍ عن العقائد والأديان – إذا جَرَّدنا القضية من الاثنين- وجعلناها فقط، قضية الإيمان – في حد ذاتها – بالغفران.
لم يكن «راسكولينكوف» طالب الحقوق، يعاني ضعف الإيمان، بحيث دفعه ذلك إلى قتل «إيفانوفنا» السيدة العجوز، التي كانت تقرضه المال، لسد حاجاته من دراسة ومعيشة، نظير ما يتركه لها، كساعة أو خاتم في عرض( الجريمة و العقاب)، بل كان له منطق خاص به، ألقى به المخرج عماد علواني، بوعي إلى المتفرج منذ بداية العرض، بحيث جعل منه تمهيداً لرسم الشخصية، التي ستظل على أثر ذلك التمهيد، فترة طويلة من العرض تتشكك، ما إن كانت هذه شخصية جادة أم تافهة، تعي ما تقوله وتفعله، أم مجرد حاقدة على من لديهم أموال، بينما هي لا، مثقفة مفكرة، لم تجد لأفكارها صرحاً، تلقي به محصلة خبراتها، فتمارس ذلك بشكل يتفق مع منطقها، غير أن ذلك الشك، لم يساورك مرتين، عند لحظة بعينها، بأن هذه الشخصية هي قاتلة «إيفانوفنا»، وأختها التي عادت إلى البيت، في نفس توقيت القتل ، كان ذلك التمهيد من خلال حوار «راسكولينكوف» مع المحقق، الذي يحقق معه أثر حادثة القتل، حينما تطرقا إلى المقال، الذي نشر« لراسولينكوف»، يتحدث فيه عن دراسته، لأسباب الجريمة، ونفسية القاتل جيداً، حوار تجد به أفكاراً تتشابه إلى حدٍ كبير، مع أفكار الكاتب الإيطالي «نيقولا مكيافيللي» صاحب المبدأ المعروف بـ “أن الغاية تبرر الوسيلة”، حوار يطلعك فيه عن شخص، له مفهوم عن الحياة، وتصنيفٌ للبشر، وفق قانون أناس منهم عاديون ومنهم استثنائيون، عاديون يمكن لهم أن يموتوا، باستحقاقية الِاستثنائيين، لقتلهم دون تصريح مباشر منه بذلك، ولكن إعجابه بالقائد «نابليون»، ينبئ بذلك، وتلك تحديداً أحد الأفكار الرئيسية، التي شكلت بذرة داخل عقله، عن مبدأ الِاستحقاقية، حينما تذكر في مشهد، يأتي في منتصف العرض حديث والده، الذي صرح له بشكل مباشر، بأن هناك كائنات حية، تستحق الموت في أداء طغى عليه، ذعر شديد من قبل طفل، يتم زج مثل هذه الفكرة بعقله، وكان لابد من التركيز، على هذا المشهد بشكل أكبر، فبدا وكأنه مشهد، يطلعنا عن سبب ثانوي، و ليس أساسي في تكوين هذه الشخصية، في أداء لـ «عبدالله سعد»، اتسم بذكاء شديد، لم يجعلك تشعر بافتعال هذه الحالة، وهي لعبة يمارسها، بحيث يجعلك تعتقد بنسبة ضئيلة، أنه ليس القاتل، والنسبة الأكبر أنه القاتل، من خلال توتره، وتلعثمه في أوقات محددة، يتم ذكر عملية القتل بها، وعلى الناحية الأخرى، يجعلك تستشعر أفكاره الفلسفية، والمتطرفة، ثم تعود لتتلمس فيه أنه شخص عادي للغاية، يكاد لا يعرف السبب وراء قتله للعجوز، أو ما هي جدوى حياته، وهو ما يحسب للرؤية الإخراجية، وسواء كنت قارئاً، لرواية “الجريمة والعقاب”، للكاتب الروسي« فيودور دوستويفسكي» أم لا، أنها لم تجعل الأمر محصوراً، داخل الأجواء البوليسية، بحيث لم تجعل من التركيز على التشكك، في عدم قتل «راسكولينكوف» للسيدة العجوز، محوراً أساسياً يقوم عليه العرض، بقدر ما كان التركيز كله، من خلال الأداء علي ثنايا، وخبايا شخصية القاتل، التي تجعلك تتأرجح كمتفرج بين جديتها، وتفاهتها، حتى اقتراب نهاية العرض.


بدأ العرض بمشهد سؤال المحقق، و«سونيا» «لراسكولينكوف» “هل تؤمن بقيام لعازر؟ هل تؤمن بالرب؟” سؤالين لم نتعرف، على جوهر وجودهما بشكل فيه تشابه، مع ملكي الموت، حيث وقوفهما على يمينه و يساره، إلا قرب النهاية، وهو أيضًا مشهد ختام العرض، الذي قدّم عن طريق الفلاش باك، والتداخل بسلاسة، في أجزاء متفرقة، بغير ترتيبها في الرواية، بحيث كل مشهد يذهب له و يعود إليه، يخدم التمهيد، والتعرف على كل شخصية.
الحقيقة وبشكل قاطع، أن وجود الشخصيات، التي تتفاعل بالتضاد، أو بالتحاور مع الشخصية الأساسية، أوالشخصية التي تحوي في رسمها، كثيراً مما يناقشه النص/العرض، يكون لها دور كبير في فهم طبيعة، و تركيبة الشخصية الأساسية، ومن ثَمَّ بالتبيعة العمل ككل، وهنا أعني شخصية المحقق، و«سونيا»، بحيث لا يمكننا اعتبارهما شخصيات ثانوية، أو هامشية على الإطلاق، فالِاستقراء لدى المحقق، عن شخصية« راسكولينكوف»، كان له أثره في التعرف، على جوانب مختلفة لهذه الشخصية، أولاً: في المشهد التمهيدي كما ذكرت، وثانياً: في اللحظة الفارقة، التي أكدت، ما تم التمهيد له، حينما قال المحقق لراسكولينكوف ” إن كنت رجلاً تابعاً، لأفكار رجل أخر، سوف تهرب، ولكنك رجلٌ تابع لأفكاره”، هذه لحظة تكشف لنا، أن «راسكولينكوف» رجل متشبع بأفكاره، وليس مجرد قاتل، تدفعه الجريمة السارية في عروقه، أنه قتل لهدف يعتقده نبيلاً، بحديثه المباشر مع الجمهور، بمنطق أنه يمكن قتل سيدة عجوز فظة ( قامت بالدور نغم صالح )، والتي قامت بأداء دورها، بشكل به مبالغة في القسوة، على مستوى الصوت و الفعل واللغة، ليكون ذلك دافعاً أكبر «لرسكولينكوف» لقتلها من أجل شباب كثيرين، يمكنهم أن يعيشوا، وكأنه يريد أن يشرك المتفرج معه في قضيته، جاء أداء المحقق “كريم أدريانو” على طول مدة العرض، أداءً هادئاً، و مختلفاً، بحيث لم يتم تجسيده من قبل، كأداء نمطي معهود عن المحققين، وذلك لعلمه بطبيعة شخصية القاتل، الذي لابد من التعامل معها بحكمه، غير أنه كان هناك كسر لِحِدَّة التراجيديا، بكوميديا جَسَّدها المحقق على مدار العرض، بالأمراض التي تصيبه، مرة أنفلوانزا، ومرة بواسير، ومرة أخرى مرض السكر، وهي على كل حال، قد أدت الغرض من وجودها، بحيث أحدثت تأثيرها على المتفرج، بينما شخصية «سونيا» التي تقوم بها أيضاً «نغم صالح»، وهي جارة “لراسكولينكوف”، وتُكِنُّ له عاطفة الحب، قد أظهرت لنا جوانب أخرى، من خلال معرفتنا، بأنه قد دفن والدها، وأعطاها آخر ما تبقى لديه من مال، رغم معرفته بما تقوم به، حيث تقوم ببيع جسدها لسد حاجة أسرتها، ووالدها السِّكِّير، في تعزيز للجانب النفسي الإنساني، لدى «راسكولينكوف”، وكان قد عرف ذلك من خلال والدها، الذي حكى له كل ذلك، وقد قام بهذا الدور أيضًا «كريم أدريانو» بشكلٍ كوميدي، غير مبتذل، أو مفتعل، وهو الشق الثاني الذي حاول العرض، كسر حِدَّة الجو العام به، من خلال الأداء.


الجدير بالذكر أن العرض، لم يقدم شخصية «سونيا» ووالدها بحكم أخلاقي أو ديني، وإنما يشرحهما إنسانياً، من خلال الفقر المشترك بينهما، و بين «راسكولينكوف»، الذي دفعه إلى الشعور بهما، ومساندتهما، تلا ذلك تعارضاً صريحاً في الحكم المندفع، الذي خرج منه يُدين «سونيا»، بعهرها تارة، وتارة أخرى بإيمانها الأبله، أن مثل هذا التخبط، والِازدواجية لشخص قام بفعل القتل، إنما ينبئ بتخبط حقيقي في معاييره، إضافة إلى المشهد، الذي كشفت فيه عن وجه آخر «لراسكولينكوف»، حينما اعترف لها بالقتل، وعرفنا أنه لم يستفد بالأموال التي سرقها، بل دفنها، ولم يساعد أخته وأمه بها، وهو مشهد بجانب عدة مشاهد، حاول فيها « عبدالله» أن يمزج بين وجهين، باتا ليسا خفيين «لراسكولينكوف»، الذي انتصر لفكره ومنطقه من ناحية، ويعاني من فعلته وضميره، محاولاً إخماد ذلك، بـ ” أن الرب يمنح سلامه للموتى” ، من ناحية أخرى، نأتي هنا إلى تفصيلة، في غاية الأهمية، وهي المقابلة التي حدثت بين «راسكولينكوف»، و«سونيا» ، فكان هو من جعلها تعود لقراءة الإنجيل مرة أخرى، بعد توقفها بسبب ما تقوم به من فعل، يتعارض مع الدين والإيمان، وهو بيع جسدها، وكانت هي من جعلته، يذهب إلى الله معترفًا بخطيئته، بعدما اعترف لها بقتله« إيفانوفنا» وأختها.
إن ذلك يحيل إلى جانب ديني، ركز عليه العرض بشكلٍ كبير في النهاية، بحيث يمكن لأي شخص الرجوع إلى الله، مهما بلغت آثامه، جاء ذلك تحديداً، بعدما جن جنون «راسكولينكوف»، في رغبته معرفة حكاية قيام لعازر، وهي الشخصية، التي قد سأله عنها المحقق، و سونيا في بداية العرض، فحينما عرف قصة قيام تلك الشخصية من الموت، كان ذلك، السهمَ الذي أصابه، و جعله يتردَّى كجثة على الأرض، في مشهد يشير بأنه مخلص بذهابه إلى الله كالعازر، الذي أحياه السيد المسيح، في مفارقة واضحة، بعدما كان هو المخلص، الذي ينتظره الناس، في حواره مع المحقق في المشهد التمهيدي.


على الرغم من وضوح الجانب الديني الطاغي هنا، إلا أن ذلك لا يمكن اعتباره قضية عقائدية/ دينية فقط، بقدر كونها قضية إيمان في المطلق، وبغض النظر عن ذكر الإنجيل، والقصص المسيحية، وحتى مع استخدام نفس الأسماء في الرواية الأصلية، والزمان والمكان، فإن ذلك كله، يغير مساره، السمة الإنسانية العالمية، لشخصية «راسكولينكوف»، التي يمكن أن يحل محلها إنسانٌ أخر، يعتنق أياً من الأديان السماوية، أو حتى الأديان الوضعية، إنه نموذج للنفس البشرية، التي تنقسم بين الخير والشر، منذ بداية الخليقة، والتي تقع فريسة لأفكارها.
على مستوى الأداء والفعل المسرحي، كان التناوب والتحاور بين الشخصيات، هو الفعل الذي يجعل منك متيقظاً دائماً لما ينطقون به، فخروج كريم ونغم من شخصيات، كالمحقق إلى الأب، و من سونيا إلى العجوز و الأم و الأخت، واستمرار لعبة «عبدالله» كما ذكرت، بشكل لا تستشعر فيه غرابة، أو خلط بين شخصية و أخرى، إنما هو تأكيد على أن اختيار نص، وفهم ثناياه مع وجود ممثل مجتهد، يمكن أن يجعل منه عرضاً في غنى عن بعض، من العناصر السينوغرافية، و بذكر العناصر السينوغرافية، كان الديكور المستخدم من تصميم «هشام عادل»، يحتوي على العديد من الأشكال الخشبية على امتداد المسرح، الذي انقسم إلى جزأين، واحد علوي، وآخر سفلي، باستخدام مطواع لباب خشبي، يستخدم مرة لمنزل العجوز «إيفانوفنا»، ومرة أخرى، مدخلاً إلى منزل «روسكولينكوف، بالنزول إلى الجانب السفلي، ناحية اليسار ،بجانب سرير، بينما اليمين لمكتب المحقق، بينما جاءت الإضاءة «لوليد درويش»، بشكل متكلف، لم يخدم العرض على الاطلاق، وأما عن الملابس «لرحمة عمر» فقد كانت متسقه بشكل كبير، مع طبيعة كل شخصية، «سونيا» لم تكن ملابسها مبتذلة، والمحقق ملابسه نمطية، حيث بنطال، وقميص ، وجاكيت، بينما «راسكولينكوف» كانت ملابسه بسيطة، غير متكلفة في رثاثتها، توحي بفقر ذلك الشخص.

★ ناقدة_ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى