مسرح

هايل المذابي: أعمال شكسبير المسرحية المستعارة تتحول إلى أساطير ومعادلات ميثيولوجية

هايل علي المذابي★

كان شكسبير مولعاً بالأساطير والميثيولوجيات؛ ولطالما استلهمها في أعماله المسرحية، ونفخ في هياكلها المستعارة من لهب روحه، وكساها بخيالهِ وكلماتهِ، فإذا بها مخلوق جديد له صلة بماضيه، لكنها تنسب من جديد إلى شكسبير وحده، تحمل هويته.

اليوم، وبعد أكثر من (400) عام صار شكسبير هو الأسطورة، وأصبحت أعماله الفنية معادلاً ميثيولوجياً، وهياكلَ تاريخية، يستعيرها كتَّاب المسرحيات والروايات والقصص في جميع أنحاء العالم، فينفخون فيها من لهب أرواحهم، ويكسونها بخيالهم وكلماتهم، فتمسي كائناً جديداً، له صلة بماضيه، لكنه ينسب من جديد إليهم، يحمل هويتهم، والنماذج كثيرة على هذا التوجه في البلاد العربية؛ أبرزها تجربة الكاتب اليمني علي أحمد باكثير، والسوري ممدوح عدوان، والعراقي منير راضي، والمصري سامح مهران، وكذلك البحريني يوسف الحمدان.. هاملت وإذا كنا سنذهب للتحدث عن هذا التوجه عربياً فلابد من أن نبدأ بمسرحية “هاملت” لشكسبير التي تحولت إلى مُعادِل ميثيولوجي استلهمه الكثير من الكتَّاب في العالم، ولعل أهم تلك الاستعارات لهيكل مسرحية “هاملت” تلك المسرحية القصيرة التي كتبها الألماني هاينر مولر ، وعنوانها “هاملت ماكينة” عام 1977، وعلى غرارها عربياً أنتجت مسرحية “هاملت يستيقظ متأخراً” لممدوح عدوان، ومسرحية “هاملت بالمقلوب” لسامح مهران

المؤلف سامح مهران

وبالحديث عن هذه الثلاث المسرحيات التي تستعير هيكل “هاملت” لشكسبير ، يمكن القول أولاً إن حياة هاملت المأساوية ليس في موضوع المسرحية وقصتها، بل في تاريخ تقديمها على الخشبة ، كانت تجسد الحال الأفضل الذي تشترطه المأساة قبل التحول إلى الحال الأسوأ وهو موت هاملت وتوقفه، وهذا التغير والتبدل يجسد المأساة الجديدة التي قامت على أنقاض موت المأساة ، كما تفترض مسرحية هاينر “هاملت ماكينة”، ومثلها مسرحية “هاملت يستيقظ متأخراً” لممدوح عدوان، ومسرحية “هاملت بالمقلوب” لسامح مهران، لكنه لا يستطيع أن ينفيها، ونستطيع أن نسميها من قبيل ما يمكن وصفه بمسميات عصر الحداثة “مأساة ما بعد موت المأساة”.

نص هاملت للكاتب وليام شكسبير

وقد يقول تفكيك الرموز المستخدمة في المسرحيات الثلاث “هاملت ماكينة” و”هاملت يستيقظ متأخراً” و”هاملت بالمقلوب” كلاماً ربما هو أبعد من مجرد فكرة موت المأساة ، أوموت المؤلف المأساوي، فبدءاً من رمزية العناوين في المسرحيات الثلاث ، ولنأخذ مثلاً مسرحية “هاملت ماكينة ” سنجد أن تسمية العنوان مجتزأة من جملة تفيد اكتمالها معنى ، كما تفترض ذلك اللغة وأساليب البلاغة بالضرورة، وقد تكون تلك الجملة “هاملت ماكينة” لإنتاج المآسي، واكتفاء المؤلف بلفظتي هاملت ماكينة له غاية، لعلها فنية وبلاغية، اذ تفترض أن يشارك المتلقي في إدراك المعنى والدلالة الناقصة في الجملة من خلال معطيات العرض وتفاصيله، ثم يتكشف لنا شيء آخر من خلال الدلالات التي يحملها عنوان المسرحية،  فنجد أن هاملت هو اسم، والحالة هنا تناص مع مسرحية هاملت لشكسبير، يرمز ويحيل إلى المأساة التي تجسدت في قصة شكسبير ثم ماكينة، والذي يحيل إلى فكرة الإنتاجية المأخوذة من الثقافة الصناعية الألمانية موطن المؤلف التي اشتهرت بالمكائن الصناعية في مجالات كثيرة، وهنا نجد أن هذه الماكينة هي معنوية في المعنى، فدلالة المأساة الملاصقة لاسم هاملت.

عرض هاملت بالمقلوب

قد كرَّست تلك الماكينة نفسها لإنتاجها، وهذا ما يؤكده مضمون المسرحية، الذي يحشد فيه هاينر أكبر وأشهر الأعمال الفنية المسرحية التي أُنتجت تعبيراً عن مآسٍ وكوارث في أزمنة مختلفة، وكان هاملت هو السبب في إنتاجها وفقاً لما تفرضه التفاصيل، وهذا يمكن أن يحمل على أكثر من وجه، ومنها أن هاملت هو النموذج الفني المأساوي الذي احتذاه الكتَّاب في صناعة المأساة والتعبير عنها، وهو يشبه قول دستويفسكي: “لقد ولدنا جميعاً من معطف جوجول” تعبيراً عن انتهاج كتَّاب روسيا في ذلك العصر منهج وطريقة جوجول في الكتابة السردية، وينطبق عليه الوصف وفقاً لتلك الرؤية لهاينر “ماكينة هاملت” وهو حين نحمله على وجه آخر أكثر اتساعاً، يُعَبِّرُ عن منطق هاينر الساخر واللاذع يمكن تمثيله بهذا الشكل “ألم تتعب الماكينة الإنجليزية من إنتاج المآسي وتصديرها للعالم” لِأن هاملت هو رمز يُعَبِّرُ عن هوية وانتماء أيضاً، وإذا نظرنا إلى الفترة الزمنية لكتابة المسرحية، فقد نتأكد من صحة هذا التفسير، وهنا لا تكون هذه المسرحية إعلاناً عن موت المأساة، بل سخرية سوداء لاذعة تُعَبِّرُ عن الرفض والثورة على سياسات إنتاج المآسي والحروب.

الكاتب ممدوح عدوان

وهذا ذاته ما يوحي به عنوان مسرحية ممدوح عدوان “هاملت يستيقظ متأخراً”، ومسرحية سامح مهران “هاملت بالمقلوب”  وبالنظر في مقتضى الحال في عناوين المسرحيات الثلاث بالإجمال بعيداً عن موضوعْ ” إستعارة هيكل هاملت” سنجد أن فعل التبدل هذا لا يختلف في سياقه عن فعل الرأسمالية حين توهمت أن طفرة التكنولوجيا قد ألغت مركزية المعرفة التي عاشتها قروناً طويلة من الزمن حين خلقت لمن يجيد التأمل خارج الصندوق؛ مركزية أعظم تدير هذه المعرفة، وتتحكم فيها من خلال نقطة واحدة فقط في هذا الكوكب، هي ذات النقطة التي انطلقت منها،  وهذا ما يمكنني أن أسميه أيضاً في سياق تسميات عصر الحداثة “مركزية ما بعد موت المركزية”  أو لعلها من أراد أن يوهمنا بذلك لاحقاً لتوظيف هذه المركزية، ومن ثم في مجالات تنافس ربحية واستخدامات استخباراتية وغير ذلك، إستعارة جماعية لهياكل شخصيات شكسبير في اتجاه آخر

مسرحية لا وقت للحب

لكنه على ذات نسق أسطرة شكسبير واستعارة معادلاته المسرحية الميثيولوجية، نجد مسرحية “لا وقت للحب” للبحريني يوسف الحمدان حيث تسير مسرحية الحمدان في ذات المسار الذي سارت فيه مسرحية مولر، لكن بتوظيف ساخر ولاذع، ليس فقط من خلال تقديمه لشخصية واحدة من مسرح شكسبير مثل “هاملت” واستعارة هيكلها كمعادل ميثيولوجي، ولكن من خلال استعارة هياكل مجموعة شخصيات من مسرح شكسبير مجتمعة في عمل فني واحد هو “لا وقت للحب” على الرغم من مخالفة الكاتب للمسار الرائج في اختياره لعنوان المسرحية ، وبالمثل أيضاً نجد التوجه ذاته في مسرح الكاتب العراقي منير راضي، من حيث استعارة الهياكل الجماعية من مسرح شكسبير، فمسرحيته “أنا ماكبث” تسير على ذات نهج الحمدان، وتضيف إلى حشد معظم شخصيات شكسبير واستعارة هياكلها في عمل واحد باستحضار شخصية الكاتب الإنجليزي “شكسبير” نفسه في حيثيات المسرحية “أنا ماكبث” ليلعب دوره مع شخصياته؛ وللكاتب منير راضي الكثير من الأعمال التي تستعير أسطورة “شكسبير” وشخوص مسرحياته مثل “شكسبير في جبل الأوليمب” ومسرحية “أجنة في أرحام شكسبيرية” ومجموعة مونودراما شكسبيرية لخمسة نصوص أيضاً، شايلوك الجديد.

النص المسرحي شيلوك الجديد

يبقى أخيراً أن نشير إلى أن العمل المسرحي “شايلوك الجديد” للكاتب اليمني علي أحمد باكثير من أهم البواكير المسرحية التي سارت على نهج أسطرة أعمال شكسبير واستعارة هياكلها، واعتبارها معادلات ميثيولوجية، وسبقت كل الأعمال السابقة التي ذكرناها في مقالتي، وقد بدا باكثير فيها كمن ينظر في ثقب الغيب، وهو يستعير شخصية “شايلوك” من مسرحية شكسبير “تاجر البندقية”، ويحسن توظيفها واستعارتها جيداً ليقول من خلالها ما يريد من الأمة العربية أن تعيه وتفهمه، فجاء عمله “شايلوك الجديد” كرصاصة في جبين الاحتلال الصهيوني، ونبوءة بأحوال القضية الفلسطينية ، وقصة الخذلان العربي، وما ستؤول إليه أحوال الأمة.

ــــــــــــــــــــــ

★ كاتب وباحث ــ اليمــن

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى