تشكيل

مها زغير: لوحة المستحمات وفقاً لطروحات رولان بارت

مها عبد الكريم زغير★

يتألف العمل الفني من مجموعتين من النسوة، وقد توزعن يمين ويسار العمل الفني،  وبشكل مثلث موازٍ مع أشكال الأشجار والتي اتخذت شكل مثلث أيضاً، فيما احتلت البحيرة وسط العمل الفني، الذي تم تنفيذه بأسلوب يجمع بين الالتزام بقواعد التصوير الكلاسيكي، من حيث المنظور الخطي واللوني والتجريد الحديث؛ الذي يخلو من رسم التفاصيل كما هو في رسم أشكال النسوة .

لذلك بدا العمل الفني، وكأنه مشهد افتراضي يتم تخيله وتجسيده، لطرح قيم فنية وجمالية جديدة ، وليس لتسجيل او محاكاة مشهد استحمام النساء .

إن تبني وجهة نظر (بارت) النقدية في تحليل هذا العمل الفني، يستلزم تناوله بصورة كلية؛ وذلك عبر دراسته كبنية واحدة متفاعلة، ووفقاً للعلاقات القائمة بين العناصر والأسس التصميمية والأنساق الداخلية مع بعضها البعض، والتي تشكل لغة فنية ذات دلالات؛ يمكن أن تحال إلى سياقات خارجية على الرغم من اكتمالها الذاتي، والذي من خلاله يمكن الإحساس بالأثر الجمالي، الذي يتركه مشهد (المستحمات) على ذائقة القارئ أو المتلقي، ومن ثَمَّ شروعه في فهم معنى العمل (النساء، الأشجار، الفضاء، الألوان) فإنها وفقاً لما طرحه (بارت) ستسمح لنا بخلق وتكوين معانٍ عِدَّة، يتم استخراجها داخل العمل الفني ذاته، ووفقاً للعلاقة الثنائية التي تربط (الدَّالَّ بالمدلول) فالأبنية الفنية في هذا العمل، هي دوالٌّ تستلزم إرجاعها إلى مرجع ما، يساعد على فك شفرتها؛ إذ جاءت هذه الأبنية وكأنها إشارات أو دلالات أيقونية مؤشرية، فالأشجار وأشكال النسوة، يمكن عدها دلالة أيقونية، تبرز العلاقة الخفية التي تربط بين الذات ومحيطها الطبيعي الذي تعيش فيه،  وهو ما يؤكد على رغبة الفنان بالعودة الى أحضان الطبيعة، وقد تكون هي دعوة لمشاهد هذه اللوحة أن يعود إلى بدائية الحياة، حيث كان التعايش مع الطبيعة مصدر متعة وسعادة للجميع، أما الألوان والأشجار التي جردت من أوراقها، وجسد النسوة، فيمكن أن تعد دوالٍّ مؤشرية، جاءت لتبرر دافع الفنان للرسم، فهي أشكال تعزز التنوع البنائي للعمل الفني، عبر حملها للألوان تتراوح بين الفاتح والقاتم، فتعطي سبباً ومبرراً جمالياً لوجودها، كونها تكسر رتابة المشهد، وتضيف له بهجة لونية، وتضيء المشهد بألوان متعددة، تسمح بتكوين مستويات عِدَّة في العمل الفني (مقدمة ووسط وعمق) مشهد اجتماع النسوة، وهو ما يسمح للمشاهد بتكوين معنى آخر، هو أن الأعمال الفنية الحديثة، قد تجاوزت الإبهار الحسي، واتجهت نحو الإبهار الجمالي الخالص والمعرفي، الذي يدل على المعاني، ولا يقدمها وفقاً لما هي عليه، بل وفقاً لبناءات عقل المشاهد ذاته، بعيداً عن قوانين الرسم الكلاسيكي المعتادة، والتي تم إبدالها بقوانين وعلاقات بنائية جديدة، يقع على عاتقها تكوين أثرٍ للعمل الفني، وحمل المعاني وإيصالها للمتلقي ــــ  وهو ما طرحه (بارت) في السيمياء التواصلية ـــــ تشيد بكلية العمل الفني، وتحيل دلالاته إلى سياق مرجعي يمكن من خلاله إيجاد المعنى، عبر إعادة إنتاج لغة العمل الفني، أو إنتاج لغة ثانية، ترتكز على اللغة الأولى كما يسميها ( بارت).

لوحة المستحمات بـ متحف فيلادلفيا للفنون

إن عمل المستحمات لا يؤكد على مضمون نفسي أو اجتماعي أو سردي، بل إنه بنية دلالية، كلية ومتكاملة، تهدف إلى خلق أثر جمالي، يغير ذائقة المتلقي، ويقدم له آلية جديدة في استيعاب المعاني، بعيداً عن طبيعة المضمون؛ أي أن المضمون أصبح ذريعة أو سبباً لرسم مشهد المستحمات، وهو ما يتفق مع طرح (بارت) في إعطائه الصورة لبنية العمل الفني وأثره على حساب المضمون،  والأثر لديه هو الأقرب إلى الأنثروبولوجيا البشرية، لذلك أمكن لنا تحليل معنى العمل الفني ورده للطبيعة، والتعايش معها ولو بشكل بسيط، وربما يكون هو السبب الذي جعل (سيزان) يستخدم الأشكال والألوان بصيغة رمزية للتعوض عن هذه الرغبة .

عمد (سيزان) إلى جعل أشكال النسوة أشكالاً غير مكتملة التفاصيل، وهو ما يمكن لنا أن نجد له أصولاً في طروحات (بارت) إذ يرى أن الأشكال الفنية الجديدة يجب أن تكون غير مكتملة الدلالة، وهو ما يسمح للمشاهد أو المتلقي، بأن يبحث في هذه الأشكال ذاتها في علاقاتها ورموزها، وأن يقوم هو بإيجاد المدلولات والمعاني؛  إذ أكد (بارت) أن الأعمال الفنية هي عالمٌ من الأشكال الدَّالَّة بعيداً عن حياة المؤلف أو سيرته الذاتية، وأن على المشاهد أن يركز في تلقيه لها على المنطق البنائي، الذي تشكلت به أشكال المستحمات، وعلاقتها بما يحيط بها من أشكال أخرى.

إن عمل المستحمات هذا، بما يحتويه من أبنية دلالية تسمح بخلق معانٍ عِدَّة كونها أبنية تقوم على علاقات متفاعلة فيما بينها، لا يمكن أن يتم تأويلها تأويلاً مطلقاً، أو الاتفاق على تأويل معين لها، وذلك مَرَدُّهُ تعدد العلاقات البنائية التي شكلت لغة فنية من طراز خاص، تعطي بالنتيجة معاني عدة تختلف من متلقٍ إلى آخر، وهو ما يجعل عملية الـتأويل نسبية، ووفقاً لاراء (بارت) أن انعدام التفاصيل الجزئية لأشكال النسوة، والأشجار، وأرضية المكان، والبحيرة في هذا العمل، شكلت نقطة جذب لبصر المتلقي كي يبحث في هذا الأسلوب الجديد في الرسم ، وبالتالي تغير رغبته في البحث عن لذة بصرية اعتاد عليها سابقاً.

أي أن هذا العمل قد استبدل رغبة القراءة البصرية برغبة معرفية، تخاطب العقل وتدفعه للبحث عن المزيد، خصوصاً بعدما تحول شكل الأجساد في هذا العمل الى شكل بنائي بعيداً عن حسية الرغبة، إذ أن العلامة بين شكل أجساد النسوة،  ومرجعها في الحياة أصبح علاقة أيقونية فقط، ولذلك هي مفتوحة الدلالة وفقاً لطروحات (بارت) كما أنها تخضع لنسبية التأويل، وتعدد المعاني، وبالتالي تعدد متعة مشاهدة العمل الفني، ذلك أنه حمل قطوعات في بنائه الشكلي، والتي يطلق عليها (بارت ) القطوعات الحاصلة في جسد النص.

ـــــــــــــــــــــــــــ 

★ طالبة دكتوراه ومدرس مساعد بـ قسم التربية التشكيلية بـ كلية الفنون الجميلة جامعة بابل ــ العــراق

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى