ريم ياسين:” من حبي فيك يا جاري”..ينحرف عن مساره!
ريم ياسين ★
تقودنا الوحدة أحياناً إلى فعل أشياء ليست من طبيعتنا، ونكون أول الناهين عنها في البداية؛ و لكن نتفاجأ بأنفسنا بفعلها لملء هذا الحيز الطويل من الوقت، ولإلهاء أنفسنا حتى نبقى أحياء، راغبين في صباح كل يوم، و في أقل من سبع دقائق عرض الفيلم الروائي “من حبي فيك يا جاري” الحالة العامة للواقعين في دوامة الوحدة، بطولة الفنانة القديرة عارفة عبد الرسول، تأليف وإخراج ريهام الطحاوي.
حب الجار ليس عشقاً فقط
عندما نقرأ، أو نسمع الكلمات الأولى من حبي فيك يا جاري يهيأ لنا أنها قصة حب بين طرفين، أو عواطف مخبأة لدى عاشق، ولكن سلك الفيلم مساراً مختلفاً تماماً عن المتعارف عليه؛ ليتمحور حول الحب؛ ولكن حب العائلة، و المشاعر المتصلة بها، من ذكريات، ودفء المنزل إلى آخره، ويدور حول امرأه أرملة في الخمسينيات من عمرها تقريباً، يهاجر ابنها للعمل في كندا، وتلحق به شقيقته بمنحة في فرنسا؛ لتفقد آخر أفراد أسرتها، بوفاة زوجها، وتعيش بين جدرانها وحيدة، وحتى لا تفقد شغفها في الحياة تربط حياتها مع حياة جيرانها، وتكون مصاحبة لهم في أوقات استيقاظهم، وتحضيرهم الطعام، وكل ذلك من خلف باب شرفتها دون علمهم، فاعتبرت نفسها واحدة منهم، تعيش معهم، وتعرف عنهم كل تفاصيل يومهم؛ لتطبقها طبق الأصل في يومها.
خطوط درامية أخرى
بتسلسل الأحداث، وبعد أن يترك الجيران المنزل؛ تعود لوحدتها، متأملة في صورة زوجها، وملامحه؛ ليعود لديها بصيص الأمل بعد ذلك بمجئ جيران جدد؛ ولكنها تحسم قرارها في أن تتعرف عليهم؛ ولكن عن قرب هذه المرة، وتخفي نظارتها، كبداية لحياة مع أناس جدد وجهاً لوجه لا خلف أبواب الشرفة؛ ولكن القصة الكاملة للفيلم تحمل في مضمونها إشكالية أخرى من وجهة نظري، أن تلك الفئة من عائلاتنا مرتبطة بالمكان الذي تبنيه منذ الصغر ليكبر معها، وتحتفظ في كل ركن بذكريات خاصة، فمهما كانت المشاغل الحياتية؛ علينا احترام تلك الخاصية لديهم و عدم تهميشهم، ففي مقدمة الفيلم تعرفنا بطريقة سريعة على قصة حياة البطلة من خلال صندوق ذكرياتها، وبالتوالي كانت كل صورة تحكي قصة وصولاً لوضعها الحالي، وبالفعل عرضت ابنتها المذكورة أعلاه ، العيش معها، و لكن بالنسبة لها هذا المنزل ما تبقى لها من رائحة زوجها، كأنه العناق الذي تختبئ فيه، و معها كل ما تحمله من حب ووفاء لعائلتها الصغيرة، إلى أن يحين الوقت، ويعودوا مرة أخرى.
سينوغرافيا وأداء
وصول تلك الحالة الشعورية يكون مبنياً أكثر على العنصر البصري، لذلك جاءت الإضاءة معظمها داخلية، ومعتمدة على الضوء الساطع من الشرفة، و تركزت على إظهار ملامح الوجه، التي كانت بديلاً. العنصر الحوار في الفيلم، كان شبه خال من الحديث، حيث أبدعت عارفة عبد الرسول، في تلك المشاهد الصامتة، بإيصال الحالة الدرامية للشخصية من خلال تعابير وجهها فقط، و أكملتها الأزياء التي تنم على الحقبة الزمنية؛ التي تنتمي إليها مع الاختلاف عمن حولها و الأزياء المعاصرة، فاكتفت بفستان رمادي اللون بسيط لا يحمل أي تكلفة فهو لون حيادي؛ حيث إنها بين الفقد والأمل، ولكن اختلفت في النهاية بإرتداء فستان آخر بلون أصفر؛ الذي يدل على الأمل والتفاؤل؛ لتعرفها على الجيران كما ذكرنا، كما كانت ترتدي طيلة المشاهد ساعة زوجها في يديها اليسرى، ولم تتخلَ عن خاتم زواجها حتى بعد وفاته، فكان هذا الاتصال بين الخاتم، و الساعة كأنه تعاقد أبدي لا يفنى إلا بآخر نفس تعاقد على الإخلاص، وحفظ مكانه وحبه في قلبها؛ الذي دام حتى في وحدتها، ومع ذكر الاحتفاظ كان الديكور والأثاث المنزلي عتيقاً وبسيطاً يبث على أنها لم تغير ولا قطعة، فنرى الراديو المصاحب للزمن الجميل مازال موجوداً، والانتيكات القديمة، بالإضافة إلى صندوق ذكرياتها وأهميته ارتبط ببعض من المؤثرات الصوتية لأبنائها التي تعرفنا من خلالها على أصل الحكاية، وكيف وصل بها الحال إلى هنا، وبالتأكيد كانت أغنية من حبي فيك يا جاري للفنانة حورية حسن، مصاحبة لكل تلك المشاهد، وألحانها كموسيقى تصويرية للفيلم، وفي النهاية يختم الفيلم بتلويح الحفلة لها للترحيب؛ ليبحث على بداية حياة تحتوى على التواصل لتلك الجارة، وتخلصها أخيراً من الوحدة، فهي الآن ترى أسرتها الجديدة، ولا تعلم من سيرحل أولاً، و يكون رجاؤها الأول والأخير هو مجرد تذكرها.
وفي النهاية يكون أملنا الوحيد ان نبقى أثراً في حياة آخرين، كلما مروا ذكرونا، سواء بكلمة أو صورة، هذا ما نبحث عنه، نبحث عن أُنس في الدنيا لا يُشترى بمال أو جاه، نبحث عن أن نكون ذكرى خالدة، لا نُنسى في الدنيا، ولا بعد مفارقتها، أي لا نُنسى، ولا نكون كما قال الشاعر الكبير محمود درويش تُنسى، كأنَّكَ لم تَكُنْ
تُنْسَى كمصرع طائرٍ
ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى،
كحبّ عابرٍ
وكوردةٍ في الليل …. تُنْسَى
★ طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة عين شمس ـ مصر.